“لَيْسَ مَلَكُوتُ اللهِ أَكْلاً وَشُرْبًا، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ.. ( رومية ١٤: ١٧ )
إنّ تقنيات التنمية البشرية التي يروّج لها تيّار العصر الجديد، تبشّر بملكوتٍ أرضي من صنع البشر وتعوّل كلّ شيء على الجهد البشري وعلى قوّة العقل وقدراته اللامتناهية بحسب ادّعائها. هذا بتأثيرٍ من تيّار الفكر الجديد New Thought الذي علّم أن ذات الإنسان إلهية وأنّ للفكر الصحيح قوّةً شافية وهو الذي روّج أيضًا للتفكير الإيجابي وقانون الجذب والطاقة الكونية والتصوّر الخلاّق وغيرها. كما أسّس هذا الفكر لبدعٍ أخرى كثيرة مثل العلم المسيحي Christian science وكنيسة العلوم الدينيةChurch of Religious Science وإنجيل البحبوحة Prosperity Gospel وغيرها من البدع المعاصرة.
تعلّمنا الكنيسة المقدّسة أنّ الشفاء الحقيقي لا يكون بمعزلٍ عن صليب المسيح وآلامه وأنّ جذر المشكلة عند الإنسان هو في الخطيئة. وبالتالي لا خلاص له إلاّ بالتوبة القلبية الصادقة أيّ باقتلاع الخطيئة المتجذّرة فيه. لكن نحن كبشرية معطوبة بالخطيئة، نعجز عن شفاء ذواتنا بجهدنا الشخصي لأنّنا بحاجة إلى رحمة الله ونعمته المخلّصة. الجهد البشري وحده لا يكفي، هناك “سينيرجيا”، أيّ تكاتف إرادتنا مع مشيئة الله ونعمته. لكن يبدو أنّ لدى بعض المؤمنين، ميلٌ للإنزلاق بعيدًا عن التقليد الكنسيّ بتأثيرٍ من الإيديولوجيات الغريبة والبدع خصوصًا تيّار العصر الجديد، وبالتالي هم يركزّون على جهد الإنسان وذكائه وقوّة العقل فيهمّشون عمل النعمة عن قصدٍ منهم أو عن غير قصد.
يعبّر البابا فرنسيس عن هذا الإنحراف عندما يتكلّم عن بيلاجية معاصرة تتشكّل عند بعض المؤمنين، فيقول: “في الواقع، إنَّ القدرة التي كان الغنوصيّون يعزونها للذكاء، بدأ البعض بإرجاعها إلى الإرادة البشريّة والجهد الشخصي. بهذا الشكل نشأت البيلاجيّة وشبه البيلاجيّة. وبالتالي لم يعد الذكاء هو الذي يحتلُّ مكان السرِّ والنعمة بل الإرادة. ونسوا أن “لَيسَ الأَمرُ أَمرَ إِرادَةٍ أَو سَعيٍ، بل هو أَمرُ رَحمَةِ اللّه” (روم 9، 16) الذي “أحبّنا أولاً” (را. 1 يو 4، 19).(افرحوا وابتهجوا، فقرة 48)
إرادة بدون تواضع
إنّ أكثر ما يميّز هذه الإرادة الشخصية في البيلاجية هو الكبرياء كما يعبّر عنه الرسول بولس قائلاً: “العلم ينفخ ولكن المحبة تبني”(1كو8/ 1) ويقول أيضًا: “المحبة لا تسقط أبدًا. وأمّا النبوّات فستبطل، والألسنة فستنتهي، والعلم فسيبطل!”(1كو 13/ 8) لأنّ في المسيح وحده الخلاص “المذخّر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم” (كو2/ 3). هذه حال من انحرف عن محورية المسيح ومرجعية الإنجيل إلى محورية الذات ومرجعية القوى الشخصية.
يقول البابا فرنسيس: “إنّ الذين يستجيبون لهذه الذهنيّة البيلاجيّة أو شبه البيلاجيّة، بالرغم من حديثهم عن نعمة الله من خلال خطابات معسولة، “لا يثقون، في نهاية الأمر، إلّا بقواهم الشخصيّة ويشعرون أنّهم متفوِّقين على غيرهم لأنّهم يحافظون على قوانين معيّنة أو لأنّهم أمناء بشكل حازم لأسلوب كاثوليكي معيَّن” عندما يتوجّه بعض منهم إلى الضعفاء قائلين إنَّ كلّ شيء ممكن بنعمة الله، فهم ينقلون في الحقيقة فكرة أنَّه بإمكاننا فعل كلّ شيء بفضل الإرادة البشريّة، كما لو كانت شيئًا نقيا وكاملا، وكلّي القدرة، تُضاف إليه النعمة. يدَّعون بتجاهل أنّه “لا يمكن للجميع أن يقوموا بكلِّ شيء” وبأن الهشاشة البشريّة في هذه الحياة لا تُشفى بالكامل ونهائيًّا بفضل النعمة. على أيّ حال، كما يعلّم القديس أوغسطينوس، إن الله يدعوك لتقوم بما بوسعك، وأن تطلب ما لا يمكنك القيام به أو أن تقول بتواضع للربّ: “أعطني ما تطلبه واطلب منّي ما تريده”(افرحوا وابتهجوا، فقرة 49)
أيقظِ العملاقَ الذي فيك!
يعلّم العصر الجديد من خلال تقنيات “السعادة”، أنّ للإنسان قدرات خفية لا متناهية، يمكنه تفعيلها ببعض التدريبات والعلاجات النفسية البديلة كالإيحاء الذاتي والتصوّر وتأمّل الوعي الكامل وما شابهها. كما يعدُ، بواسطة وصفاتٍ سحرية، بحلولٍ فورية لكلّ المشاكل والمعضلات البشرية. لا شكّ أنّ عروضهم جذّابة تغري الشباب بشكلٍ خاص. نذكر على سبيل المثال بعض عناوين كتب التنمية البشرية التي يروّجون لها والتي تباع بملايين النسخ حول العالم: “القوة اللامحدودة: العلم الجديد للكمال الشخصي”، “أيقظ العملاق الذي فيك”(أنطوني روبنز). “قوة التفكير الإيجابي” (نورمان فينسينت بيل)، “كيف تربح الأصدقاء وتؤثّر في الناس”(دايل كارنيجي)، فكّر، تصبح غنيًا (نابوليون هيل)، “1-48 قانوناً للقوة “(روبرت غرين)، “العادات السبع للأشخاص الأكثر فاعلية”(ستيفن كوفي). “السرّ” (روندا بيرن)، “قوّة الآن” (إيكهارت توللي) وغيرها الكثير. في الحقيقة إنّ التقنيات التي يروّجون لها، أغلبها تقنيات غير علمية، يوهمون الناس بالتخيّلات والقدرات الفائقة للطبيعة وتحقيق المعجزات على شاكلة قصّة المارد وفانوسه السحريّ! بذلك يتمّ تهميش عمل النعمة بسكنى الروح القدس فينا. فالكبرياء والتمحور حول الذات يمنع عنا رؤية قدرة الله وبالتالي يمنعنا من الإثمار بالروح القدس. “محبة فرح سلام، طول أناة لطف صلاح إيمان وداعة تعفّف” (غل5/ 22).
يقول البابا: “وأخيرًا، إنّ غياب اعترافنا الصادق، والبائس والمُصلّي، بمحدوديّتنا، هو الذي يمنع النعمة من العمل فينا بشكل أفضل، إذ إنّه لا يترك لها فسحة لكي تولِّد ذاك الخير الممكن الذي يندمج في مسيرة نمو صادقة وحقيقيّة. ولأنَّ النعمة تتطلّب طبيعتنا، فهي لا تحوِّلنا فورًا إلى رجال خارقين. أن ندّعي بهذا الأمر هو ثقة مُفرطة بالنفس. وفي هذه الحالة يمكن لمواقفنا، المتمترسة خلف ستار استقامة المعتقد، ألّا تتناسب مع ما نؤكِّده حول ضرورة النعمة، وينتهي بنا الأمر بعدم الثقة بها بشكل كاف. في الواقع إن لم نعترف بواقعنا الملموس والمحدود فلا يمكننا أن نرى الخطوات الحقيقيّة والممكنة التي يطلبها الربّ منّا في كلِّ لحظة، بعد أن يكون قد جذبنا إليه وجعلنا نتوافق مع عطيّته. إنَّ النعمة تعمل في التاريخ، وعادة ما تأخذنا وتحوِّلنا بشكل تدريجي. ولذلك إن رفضنا هذه الطريقة التاريخية والتدريجية، فبإمكاننا أن نتوصّل إلى رفض النعمة وكبتها، حتى وإن كنا نُعظِّمها بكلماتنا.(افرحوا وابتهجوا، فقرة 50)
لقد اختصر أحدُ الباحثين في تقنيات العصر الجديد، إشكاليات حركة تنمية القدرات البشرية قائلاً إنّها علوم نفسية زائفة يُعبّر عنها بمصطلحات علمية، تأخذ من الصوفيات الشرقية والخفائيات وتدّعي أنّ للإنسان قدرات لامتناهية، تدعو إلى التمحور حول الذات والإتكال على البرارة الذاتية إلى حدّ تأليه الذات. كذلك تروّج لوحدة الوجود والنسبوية، ويمكن تصنيف أتباعها بالملحدين لأنّ لا وجود عندهم للإله الحقيقي، إلههُم ذواتهم !
الكمال الإنجيلي والكمال الشخصي
هذا البحث عن الكمال، أمرٌ مشروع لكنّه غالباً ما يلتبس على المؤمن بسبب اختلاف الكمال الإنجيلي الذي يدعونا إليه الربّ، عن الكمال الشخصي الذي تروّج له تقنيات التنمية البشرية. إنّ مفهوم الكمال بحسب الإنجيل هو كمال على مثال الآب السماوي أيّ كمال المحبّة والقداسة. المحبّة الباذلة التي تهتمّ وتنحني نحو الآخر. بينما الكمال البشري الذي تدعو إليه تقنيات “السعادة”، محوره الذات ومنفعية الذات وتحقيق المكاسب والإنجازات بأيّ ثمن حتى ولو كان على حساب الأخلاقيات البشرية والقيم الإنجيلية. هذا الكمال الإنجيلي يُخرجنا من فراغنا الكيانيّ، من الوحدة واليأس ومن عبثية الحياة المادية إلى ملء الحياة في الشركة الإلهية. يقول البابا فرنسيس:
“عندما تجلّى الله لإبراهيم قال له: “أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ. سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلاً” (تك ۱۷، ۱). لكي نكون كاملين، كما يريد الله، علينا أن نعيش بتواضع في حضوره ومغمروين بمجده؛ علينا أن نسير مُتَّحدين به ومعترفين بمحبّته الدائمة في حياتنا. ويجب أن نترك الخوف من هذا الحضور الذي يمكنه فقط أن يفيدنا. إنّ الآب هو الذي أعطانا الحياة ويحبُّنا كثيرًا. وعندما نقبله ونتوقَّف عن التفكير بحياتنا بدونه، يزول يأس الوحدة (را. مز ۱۳۹، ۷). وإن أزلنا المسافات بين الله وبيننا وعشنا في حضوره، يمكننا أن نسمح له بأن يتفحّص قلوبنا ليرى إن كانت تسير في الطريق الصحيح (را. مز ۱۳۹، ۲۳- ۲٤). وهكذا سنعرف مشيئة الربّ المُحبّة والكامِلة (را. روم ۱۲، ۱- ۲) وسنسمح له بأن يُشكّلنا كالخزّاف (را. أش ۲۹، ۱٦). لقد قلنا مرّات عديدة إنَّ الله يقيم فينا، ولكن من الأفضل أن نقول إننا نقيم فيه، وإنّه يسمح لنا أن نعيش في نوره ومحبّته. إنّه هيكلنا: “وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي”، إنَّ ما أبحث عنه هو الإقامة في بيت الربّ جميع أيام حياتي (مز ۲۷، ٤). “لأَنَّ يَوْمًا وَاحِدًا فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ” (مز ۸٤، ۱۱). فيه نتقدّس. (افرحوا وابتهجوا، فقرة 51)
المجد للرب يسوع المسيح!
يتبع