يحتفل المسيحيون في أول شهر من كل عام في بداية السنة الجديدة بعيد الغطاس وهو الاسم الشعبي المتداول بين المؤمنين لذكرى اعتماد السيد المسيح في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان. وفي كل سنة يتوجه المسيحيون من كافة الكنائس من كل انحاء المحافظات في المملكة الأردنية الهاشمية برحلة الحج الوطني المسيحي الى المغطس ويقيموا الصلوات في هذا المكان المقدس. حيث يوجد آثار وكنائس يوحنا المعمدان تعود إلى بدايات انتشار المسيحية. وتركز الكنيسة على هذا الحدث التاريخي الذي يعتبر من أقدم الأعياد المسيحية وأهمها ويفوق عيد الميلاد من ناحية لاهوتية وروحية كما يذكر في التقليد الكنسي القديم فيقول لنا القديس أيرونيموس: " أن المسيح أتى إلى العالم متخفيا ً، أما في المعمودية فقد ظهر للعالم علنا ً ". ومن الأسماء التي تطلق على هذا الحدث التاريخــي عيد الظهور الإلهي، عيد الغطاس لأن عملية التعميد تتم من خلال تغطيس الطفل بالماء، عيد النور لأن السيد المسيح هو نور العالم وعيد الدنح كما يسميه الكلدان في العراق.
رواية عماد السيد المسيح على يد النبي يوحنا المعمدان نجدها في الإنجيل المقدس كما يرويها لنا الإنجيليين متى ومرقص ولوقا أن يوحنا المعمدان كان يمهد الطريق للسيد المسيح ويدعوا الناس إلى التوبة واقتراب ملكوت الله كما وأنه دعا تلاميذه إلى إتباع يسوع المسيح حمل الله الحامل خطايا العالم. تصف لنا الرواية الكتابية أن أقدام السيد المسيح وطئت نهر الأردن وقدست مياهه وانفتحت السماء ونزل الروح القدس على هيئة حمامة واتى صوت من السماء يقول هذا هو إبني الحبيب الذي عنه رضيت. ومن هذه الحادثة يعتقد المسيحيون أن السماء في ليلة عيد الغطاس تكون مفتوحة والله يستجيب الطلبات والدعوات في هذه الليلة المباركة.
ومن العادات الجميلة التي ترافق ليلة العيد عمل حلويات خاصة به تسمى الزلابية وفي القديم في لبنان حيث كان المسيحيون يعدون الخبز في بيوتهم تقوم السيدات بتجديد وتغير الخميرة رمز للبركة والنعمة التي تحل على الطعام والبيت والسنة الجديدة. أما في مصر يأكلون نبات القصب الذي يرمز إلى ضرورة التحلي بالاستقامة في الحياة الروحية، والقلقاس الذي ينبت وقت عيد الغطاس ويرمز إلى انتصار الحياة على الموت. وكما جرت العادة كان المؤمنون يذهبون إلى نهر الأردن ويغتسلون هناك رمز للتطهر من الخطايا والنقاء والصفاء.
وقصة العماد يعبر عنها بالرسم بالفن البيزنطي في الأيقونة وهي الاسم للصورة الكنسية المقدسة والتي نجد فيها نهر الأردن بنساب بين الصخور كالأفعى حيث ترمز التموجات إلى كلمة أردن أي شديد الانحدار ويقف السيد المسيح في وسط مياه النهر ونلاحظ أنه يبارك بيمينه المياه مما يرمز إلى مباركة عناصر الطبيعة الأربعة: الماء والهواء والأرض والنار. ومن هنا جرت العادة أن يقوم الكاهن بزيارة بيوت المؤمنين ورشها بالماء المقدس الذي تتم الصلاة عليه خلال الاحتفال بالعيد وهذا لأننا نؤمن أن الله يبارك كل شيء في حياتنا، بيوتنا مكاتبنا، مصانعنا، مدارسنا ووطننا. في القديم كان الماء يرمز إلى أن عناصر الشر وقوى الظلام تسكن في أعماق البحار والأنهار فنرى صور الأفاعي والأسماك الشرسة في الأيقونة وفي الصورة المسيح ينتصر على قوى الشر ويقدس ويبارك الماء ويتحول من صورة لمركز الشر والموت إلى ينبوع النعم والخير والبركات الروحية. وفي أسفل اللوحة نجد شيخ مرتعش منغمس في مياه النهر يفرغ جرة ماء وهو تعبير عن الآية في الكتاب المقدس المزمور 113:3 " البحر رأى فهرب والأردن رجع إلى الوراء " وتفسيرها أن مياه الأردن من قداسة السيد المسيح وألوهيته خافت ورجعت إلى الوراء.
وفي التقليد الكنسي والصلوات الطقسية نرتل في ليلة عيد الغطاس الترنيمة الشعبية التي يرددها جميع المؤمنون " في اعتمادك يا رب في نهر الأردن ... " ولا يخفى على أحد أن التقليد الكنسي تعتمد نصوصه كمرجع تاريخي ولاهوتي فنستنتج الفكر والعقيدة من النصوص والأيقونات المقدسة ونؤمن أنه على مدى الأجيال رنم الأباء القديسون هذه الترنيمة التي تؤكد على أن السيد المسيح تعمد في نهر الأردن المقدس.
ومن الناحية اللاهوتية يذكر عيد الغطاس المؤمنين بيوم عمادهم الذي هو المدخل للديانة المسيحية وبه يلتزم بإتباع التعاليم الإنجيلية وإنكار الشيطان وكل أعماله وجميع أباطيله وأتباع المسيح والأيمان به أنه ملك على قلوبنا والعمل بوصايا الله وعدم مخالفتها. وكل المسيحيون يعتقدون بإيمان واحد وإنجيل واحد ومعمودية واحدة، وإله واحد أب لجميع الخلق.
ومن ناحية تاريخية وجغرافية نلاحظ عدد كبير من الدلائل تشير إلى وجود موقع المغطس مكان عماد السيد المسيح الذي يبعد عن عمان 45 كيلوا متر إلى الغرب من العاصمة عمان وإلى الشمال من البحر الميت وقد ذكره يوحنا الرسول في الإنجيل المقدس عندما قال: " هذا كان في بيت عنيا حيث كان يوحنا يعمد " (يوحنا 1 :28) مما يثبت أن يوحنا المعمدان عمد السيد المسيح في بيت عنيا.
وفي اللوحة الفسيفسائية التاريخية التي تعتبر أقدم خريطة دينية في العالم الموجودة في كنيسة القديس جورجيوس للروم الأرثوذكس في مادبا والتي يعود تاريخها إلى القرن السادس نجد أن موقع بيت عنيا الذي ذكره القديس يوحنا موجود في الضفة الشرقية من النهر على الخريطة التي لا تزال شاهده إلى يومنا هذا. وقد أكد المؤرخون والرحالة الذين مروا في ذلك المكان ذلك من خلال مذكراتهم الذين كتبوها ونذكر منهم على سبيل المثل لا الحصر ثيوديسيوس وأنطونيوس والقديسة هيلانة الذين أكدوا على أن طريق الحج والصلاة كانت من القدس إلى بيت عنيا ومن ثم إلى مادبا.
وما دفع الكنيسة والحكومة ممثلة بوزارة الساحة والآثار إلى الاهتمام بهذا الموقع هو الاكتشافات الأثرية التي تم الكشف عنها منذ سنة1996. وهذه الجوهرة الثمينة هي عبارة عن قرية دينية متكاملة تشمل على تسع كنائس وبرك للعماد وكهوف للرهبان وتل مار الياس وأرضيات فسيفسائية جميلة ونقوش وكتابات وقد حافظت اللجنة المشرفة على الموقع على طابعه الأثري والذي يعود تاريخه إلى حقبتين هامتين الأولى هي العصر الروماني من القرن الأول إلى الرابع وهي الفترة التي عاش فيها السيد المسيح والقديس يوحنا المعمدان والثانية هي العصر البيزنطي من القرن الرابع إلى القرن السابع الميلادي حيث بلغ الموقع عصره الذهبي عندما اعتمدته هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين.
ونلاحظ أن أهمية مكان عماد السيد المسيح الروحية والدينية والتاريخية والوطنية والسياحية واللاهوتية تزداد يوما ً بعد يوم لأنه يعتبر مركز انطلاق المسيحية للعالم. أن السيد المسيح ولد في بيت لحم بشكل مخفي وعاش حياة صامتة متواضعة ولم يكشف عن نفسه ورسالته لآن ساعتها ووقتها لم يأتي بعد، ومن بيت عنيا أشرقت شمس المسيحية للعالم وبدأ السيد المسيح رسالته بشكل علنيي ومباشر لكل العلم وأرسل تلاميذه ليعلموا ويبشروا ويعمدوا كل العالم.
نصلي ونطلب من الله أن يحفظ جلالة الملك عبد الله الثاني المعظم والأردن والحكومة وهيئة المغطس ووزارة السياحة والجيش وكافة الأجهزة الأمنية، العين الساهرة التي تحافظ على أمن واستقرار الأردن.
وكل عام وأنتم بألف خير.