“ضللتُ كالخروف الضائع. فابحثْ يا ربّ عن عبدِكَ، أنا لا أنسى وصاياك” (مز119/ 176)
“اليوم يواجه الإيمان الكاثوليكي لدى عدّة شعوب تحدّي تكاثر حركات دينية جديدة، بعضها ينزع إلى الأصولية وغيرها يبدو أنّه يعرض روحانيةً بدون الله” (البابا فرنسيس،فرح الإنجيل، 63)
نقرأ على موقع الأب “دومينيك أوزينيه”Dominique Auzenet [1]، من مطرانية مانس في فرنسا، مقالةً يشرح فيها الشماس برتران شوديه Bertrand Chaudet الفرق بين الروحانية العلمانية والروحانية المسيحية[2]. يضع كذلك معاييرًا تساعد على التمييز بسبب الإلتباس الحاصل بينهما وسوء الفهم ولمزيد من التوعية فيما يخصّ التيّارات الروحية الجديدة وانحرافاتها.
يوضح “شوديه” في البداية أنّ للروحانية علاقة وثيقة بالحياة الروحية أي بحياة الروح. التي قد تشمل كلّ ما له علاقة بالنشاط الثقافي وصولاً إلى طريقة التفكير. جذر الكلمة اللاتيني spiritus يعني “النَفَس”، الشهيق والزفير. كأنّ التنفّس الذي له علاقة بالهواء، وهو أكثر عنصر غير مادي، هو صلة الوصل بين عالم المادة وعالم الروح. مع الإشارة إلى أنّ عضلة التنفّس الأهم الموجودة في وسط جسمنا، أسفل القفص الصدري اسمها Le centre phrénique أو الحجاب الحاجز diaphragm. في اليونانية phren تعني “وضع نفسي”état d’âme. في الحقيقة هذه العضلة هي صلة الوصل بين السوما، الجسد والنفسيpsyché أي النفْس. ويشير الشماس شوديه إلى أنّ هناك فرقاً جوهريًا بين مفهوميْ النَفَس في الشرق وفي التقليد اليهودي- المسيحي. في الشرق النَفَسLe soufflé يعني السيطرة على الطاقة الحيوية التي تسري في “البرانا”prana كما يفعل معلّمو اليوغا من خلال تمارين “البراناياما”Pranayama أو اليوغا التنفّسية. “الكي”Ki أو التشي”Chi عند الصينيين هي تلك الطاقة المتمركزة في وسط الجسم والتي يمكن السيطرة عليها بتمارين صوفية. من هذا المنطلق، تكون قمّة الحياة الروحية عندهم في ضبط هذه الطاقات، بالتالي من أجل ضبط القوى العقلية. يمكننا التكلّم عن ممارسات “علمانية” بمعنى أنها لا تتطلّب الإيمان بمعتقدات معيّنة بل اجتهادًا في الممارسة. إلاّ أنّنا إذا عُدنا إلى كتابات وأقوال المعلّمين نلاحظ أنّ هذه الممارسات لها علاقة وطيدة بمنظومة من العقائد وبرؤية محدّدة للإنسان والكون والحياة ما بعد الموت. في الكتاب المقدّس النَفَس spiritus في اللاتينية، pneumaفي اليونانية و rouahفي العبرية، هو عطية من الله، إذًا لا يمكن السيطرة عليه. وهذا يشكّل فارقاً كبيرًا بين الروحانيتين. ( كلمة “علمانية” لها علاقة بالشعب وبالتالي ليس لها علاقة بالإكليروس ولا بأيّ معتقد إيماني).
يؤكّد الشماس “شوديه” أنّ الروحانيات العلمانية أصبحت على الموضة. يطلقون عليها تسمية “الإختبار الروحي” وهي تجربة روحية مُعاشة ليس لها علاقة بالضرورة بالديانات التقليدية أي إنّها تحصل خارجًا عن أيّ كادر تنظيمي أو مؤسّساتي. إنّه بحثٌ شخصي يرفض بالمبدأ أيّ إطارٍ تنظيمي وكلّ تدخّلٍ كنسيّ ينظّم ويميّز أصالة التجربة. يفتّش الشخص بنفسه عن مصدر الروحانية بوسائله الخاصة بدون أن يهتمّ بمرجعية لعقيدة أو لتاريخ معيّن. هذا ما يميّز الروحانية العلمانية التي تطالب بالإستقلالية . من جهة، يشكّل هذا الأمر عاملاً إيجابيًا بما أنّ لا مرجع لشخص معيّن فيها وبالتالي فهي بأمان من الإنتهاكات البدعوية. لكن من جهة أخرى، إنّ روحانية كهذه أساسها الإختبار الروحي الشخصي كمقياسٍ وحيد بدون مرجعية أخرى قد تتوه بسهولة في دياميس عدم الموضوعية.
يمكن للروحانية العلمانية أن تأخذ شكليْن إثنين بحسب التجربة أكانت داخلية أم علائقية. التجربة الداخلية ليست مسيرةً نفسية في إطار علاج نفسي أو حتى ضمن تنمية بشرية. هي بحث عن الصمت والوحدة والتأمّل وهي ليست من نطاق ما هو “نفسي”، بل هي أعمق من ذلك لأنها تسعى إلى بحث أقل عن التعبير من انطباع عن التجربة. هذه الباطنية فيها ليست نرجسيةً بل على العكس يمكن أن تساعد في اختبار علائقي “غيْري”. إنّ اختبار الغيْرية هو انفتاح على سرّ الآخر. وهي كذلك “نُسكية” تجبرني على عدم اختزال الآخر ضمن مفاهيمي الشخصية. إنها تدعوني إلى الإندهاش ! إنّ مسيرة داخلية يمكن أن تؤدّي إلى ثقةٍ كبيرة في النفس تصطدم بحقيقة الآخر. فأكون مرغمّا، إذا كنت ارغب حقًا اللقاء به، أن أتحرك بطريقة قد تربكني. هذا التحرّك من أجل لقاء الآخر هو اختبار الغيرية. ويمكن أن يتوّسع ليصبح “غيْرية” مع الله. لا يتوّقف الكتاب المقدس عن الإشارة إلى هذا “غير المتوّقع” في قلب تجاربنا البشرية. أمرٌ جديد لا يتصوّره العقل يحدث فجأةً. والواقع يتجلّى، لا يتغيّر بل يتجلّى. لقد اختبر ابراهيم أب المؤمنين هذه التجربة الداخلية والغيرية معًا عندما حصل على كلمة هذا الآخر Lech Lecha التي ترجمتها: إذهب إلى أعماق ذاتك وإلى ذاتك. هذا ما حصل أيضًا مع سيدتين علمانيتين هما سيمون فيل Simone Weilوإيتي هيلسام Etty Hilesum اللتان اختبرتا الله والآخر في ذواتهما. لقد اختبرت سيمون فايل العلاقة مع الله وقالت: الله نزل إليّ! لقد أخذ الله المبادرة ونزل إليها. “نلاحظ في الإنجيل أنه لم يذكر أبدًا أنّ الإنسان يبحث عن الله. في كلّ الأمثال المسيح هو الذي يبحث عن البشر أو يطلب الآب من خدّامه أن يجلبونهم”.
وهنا تكمن نقطة إختلاف الروحانية المسيحية مع الروحانيات الشرقية ووسائل التأمّل الشرقي. في الإختبار المسيحي الله ينزل إلى الإنسان، في التأمّل الشرقي الآسيوي يجتهد الإنسان كي يتحدّ بالألوهة المطلقة غير الشخصية!
هنا تكمن تحديدًا الإشكالية بين الصوفية الباطنية، التي تستوحي منها الروحانيات الجديدة والصوفية المسيحية. عبّر عنها الأب اليسوعي برنايرتP. Beirnaert في ردّه على ادّعاءات العلوم الباطنية المعاصرة قائلاً: “مع المسيحية، كلّ الجدّة المطلقة تظهر لنا. الإله ليس كونيًا، إنّه شخص، حبٌّ متسامٍ كُشِف لنا في يسوع المسيح الذي يسكن فيه ملء اللاهوت والذي بواسطته يتواصل مع الإنسان نفسه”[3]
وهنا أيضاً يظهر لنا الفارق الأساسي بين الروحانية العلمانية والروحانية المسيحية ألا وهو عمل النعمة! نلحظ هذا بوضوح في القراءة الربّية Lectio Divina “القادرة أن تفتح للمؤمن كنز كلمة الله، وأن تُحدث هكذا اللقاء بالمسيح، الكلمة الإلهية الحيّة”، تحديدًا في المرحلة الرابعة contemplation حيث “نتبنّى كعطيّة من الله نظره بالذات لنحكم على واقع الحال”[4] أيضًا نلحظ عمل النعمة في مستويات التأمّل بحسب مار اسحق السرياني[5].
يتبع
لمجد المسيح
[1] الأب دومينيك أوزينيه كاهن ومقسّم كاثوليكي في أبرشية مانس في فرنسا، ومسؤول في راعوية “المعتقدات الجديدة والانحرافات البدعوية” التابعة لمجلس الاساقفة الكاثوليك في فرنسا، مع الشماس برتران شوديه ومتخصّص في البدع وممارساتها ومن بينها بدعة العصر الجديد. له عدّة مواقع على الانترنت مثل: d.auzenet.free.fr,SOS Discernement, Charismata.free.fr ,
[2] https://sosdiscernement.org/spiritualite-laique-et-spiritualite-chretienne/
[3] Serge Hutin, Esoterisme, ency.Universalis, T.8, p.684
[4] البابا بندكتوس السادس عشر، الارشاد الرسولي ” كلمة الرب”، حاضرة الفاتيكان، 2010، ص 152
[5] لمعرفة المزيد في هذا الموضوع مراجعة كتاب “العصر الجديد من وجهة نظر الايمان المسيحي”، جيزل فرح طربيه، دار المشرق، ص503- 507