“توّبني فأتوب، لأنّك أنت الربّ إلهي” (إر31/ 18)
في مقالةٍ على موقع الأب “دومينيك أوزينيهDominique Auzenet [1]، من مطرانية مانس في فرنسا، يشرح الشمّاس “برتران شوديه”Bertrand Chaudet الإختلافات بين الروحانية العلمانية والروحانية المسيحية. في المقالة السابقة، تكلّمنا عن عدد منها وعن فارقٍ أساسيّ هو عمل النعمة الذي تتميّز به الروحانية المسيحية.
يقول الشمّاس “شوديه” أنّ في الإختبار الداخلي أو العلائقي الغيْري، تأتي لحظة غير متوّقعة، تقلبُ رأسًا على عقب ما لدى الإنسان من قناعات يقينية مبدأية. تسميّه المسيحية بالتحديد إرتدادًاConversion أي توبةً ورجوعًا إلى الله.
أن تكون قدّيسًا بدون الله !
هذه المقولة مأخوذة من كتاب “الطاعون”La peste للمؤلّف الشهير ألبير كامو. في الحقيقة أن نكون قدّيسين بدون الله فرضية مستحيلة، لأنّ القداسة بكلّ بساطة هي عطيّة من الله القدوّس!
يقول الفيلسوف لوك فري Luc Ferry في كتابه “حكمة الحداثة”، أنّ الخبرة الداخلية لا تؤدّي إلى اللقاء مع الآخر المتسامي، أيّ عالم الألوهة، بل إلى مطلقٍ موجود ها هنا والآن، إلى تجاوز وتسامٍ في الحاضر. في مجتمع علمانيّ، بدون الله، الروحانية العلمانية بحسب لوك فيري “قد تخلّصت من بهرجات اللاهوت”. اللاهوت تأنّس والإنساني تألّه. بمعنى أنّ التسامي لم يعد عاموديًا بل أصبح أفقيًا. إنّ المجتمع الديموقراطي يسهّل العبور من تسامٍ عامودي إلى تسامٍ أفقي وكلّ ما هو مقدّس ليس خارجًا عن الإنسان الذي أصبح هو الإنسان الإله! ويحدّد “فري” في المجتمع المعاصر عدّة علامات تعبّر عن قُدْسية الإنسان وأيضًا عن قدرته على التضحية من أجل الخير العام، خصوصًا في أشكال الخدمة الإنسانية وكرامة الشخص البشريّ. ويعتبر “فري” أنّ العلوم الإنسانية تميل إلى اختزال الإنسان إلى حتميات بيولوجية إجتماعية تاريخية. ويشدّد على أنّ أولوية المحبة واحترام الحياة هما اللذان يعطيان للأخلاقيات معناها الحقيقي لكن بمعزل عن أوهام الرجاء الديني المطمْئِنة.
ويتساءل الشماس “شوديه” عن إمكانية أن يكون هناك روحانية بدون إله. ويشير إلى انه ليس ضروريًا أن نحذّر أو أن ننتقد أشخاصًا يسعون في الحقيقة لمسارٍ داخلي أو لعلاقة أفضل مع الذات أو مع الآخرين بهدف المحبة والتضامن الإنساني. وقد يحفّزهم وضعٌ كهذا على الإهتمام بالآخرين واحترام بحثهم الداخلي الصادق.
روحانية علمانية، روحانية توفيقية
لقد شدّد المجمع الفاتيكاني الثاني على الحوار مع العالم وعلى أهمية ملاحظة “علامات الأزمنة” واكتشاف “ما يقوله الروح للكنائس.” ويُشير “شوديه” إلى أهمية الإنفتاح على الآخرين وعلى أهمية الإصغاء بحرص واهتمام ويستنتج أنّ على المسيحي أن يميّز خبراته الشخصية على ضوء الإيمان الرسولي وكلمة الله وتعاليم الكنيسة المقدّسة. لأنّ انحرافات كثيرة قد تحصل وتتخذ لها أشكالاّ من الروحانية المزيّفة كما تدّعي بعض الممارسات العلمانية، وهي شكل من أشكال الروحانية المقنّعة البعيدة عن الروحانية المسيحية. ويعطي “شوديه” أمثلةً عديدة عن بعض المؤلّفين مثل كتب ومقالات فريديريك لونوارFrederic Lenoir الذي يروّج لروحانية عالمية توفيقية متسامية فوق كلّ لاهوت ومعتقد، من أجل بلوغ روحانية علمانية. في كتابه “روح العالم” يتكلّم عن كارثة وشيكة ستحصل على مستوى كوكب الأرض وعن سبعة حكماء هم: حاخام من نيويورك تابع للباطنية اليهودية الكابالا، ساحر شاماني من مونغوليا، راهب كاهن كاثوليكي أصبح ناسكًا، متصوّفة هندوسية، شيخ حكيم صيني، متصوّف مسلم من نيجيريا، فيلسوفة ماسونية هولندية. يلتقي هؤلاء في معبد تيبيتي كي يلقّنوا صبيًا وفتاة مراهقين مفاتيح الحكمة الكونية. “بعيدًا عن المعتقدات العقائدية، يفتحون مسارًا بسيطًا وملموسًا لإنسانية روحية تساعد على العيش”[2] وتقترح الفيلسوفة الماسونية برنامجًا لتنشئة هذين المراهقين فتقول: “أقترح أن لا يكون تدريس هؤلاء الأولاد له علاقة بمعتقدات معيّنة، بل أن يكون حول اتخاذ الموقف الصحيح في هذه الحياة لتحقيق النجاح بالمعنى العميق للكلمة” ويوافق معها المتصوّف قائلاً: “أوافق تمامًا، لندع جانبًا المظاهر اللاهوتية والطقوس التي تميّز تقاليدنا ولنحافظ فقط على المبادئ التي تساعد على العيش والتقدّم في المسار الروحي”. ويثني الراهب الكاثوليكي من جهته على كلامهم ويُضيف: “لننطلق من تجربتنا. لقد رأينا بالفعل أنّه وراء العقائد والطقوس التي تفصل بيننا، توّحدنا تجربتنا في البحث عن الحكمة”[3] لدينا هنا رسم تصميمي لديانة علمانية عالمية. “لا ضرورة البتّة الإيمان بالله أو بألوهيةٍ ما حتى نصلّي ونشكر ونطلب ونحسّ أنّ قلبنا ينبض مع قلب العالم. كلّ كلمة، كلّ فكرة، كلّ نظرة صوب تلك القوّة الخفيّة التي تُحيي الكون تصلُنا بروح العالم وتعطي ثمارًا”[4] يوضح الشمّاس “شوديه” أنّ ما ورد هنا هو من “الحلولية”Pantheism ونحن المسيحيون علينا أن نختار، إذ لا يمكننا أن نعبد روح العالم والله معاً كما كُشف لنا بالمسيح يسوع. حتى أنّ لونوار يتجاسر ويقول: “إن قوّة معتقداتنا تستطيع أن تنتجَ أحداثًا تؤكّد هذه المعتقدات”. ويعلّق الشماس “شوديه” على هذا الكلام قائلاً أن هذا هو تحديدًا ماهية السحر وهو يناقض بشدّة جوهر إيماننا المسيحي.(هذا الفكر نفسه يروّج له “قانون الجذب” في كتاب “السر” لروندا بيرن)
لقد وعد الربّ تلاميذه قائلاً: “من آمن واعتمد خلص… وهذه الآيات تتبع المؤمنين: يُخرجون الشياطين باسمي، ويتكلّمون بألسنة جديدة. يحملون حيّات، …”(مر16/ 14-20). إنّ الإيمان بالمسيح يهبنا القدرة على القيام بآيات باسمه وليس ما يدّعيه “لونوار” وأمثاله، أنّ قوة معتقداتنا هي التي تخلق الأحداث.
في الحقيقة، وحده الإيمان بالمسيح القائم والممجّد والإلتصاق بكلمته، يقدّسنا في الحقّ و تتبعه آياتٌ حقيقية بحسب مشيئة الله. هذه هي قوّة القيامة.
المسيح قام حقًا قام !
يتبع
لمجد المسيح
[1] الأب دومينيك أوزينيه كاهن ومقسّم كاثوليكي في أبرشية مانس في فرنسا، ومسؤول في راعوية “المعتقدات الجديدة والانحرافات البدعوية” التابعة لمجلس الاساقفة الكاثوليك في فرنسا، مع الشماس برتران شوديه ومتخصّص في البدع وممارساتها ومن بينها بدعة العصر الجديد. له عدّة مواقع على الانترنت مثل: d.auzenet.free.fr,SOS Discernement, Charismata.free.fr ,
[2] Frédéric Lenoir. L’âme du monde. Ed NiL. Juin 2012
[3] Ib.p.51.
[4] Ib.p.149.