يصادف الخامس عشر من شهر أيّار، عيد العائلة أو الأسرة. يُحتفل بهذا العيد عالميًّا، تحت شعارٍ محدّدٍ، يطال دور وأهميّة وحقوق العائلة وتحدّياتها، في ظلّ التغيّرات والتحوّلات، الَّتي “تتقاذف” أُسُس وهيكليّة العائلة ومشروعها للحياة، أيّ للمجتمع.
في خضمّ تفشّي فيروس “كورونا” COVID-19 في العالم أجمع، باتت العائلة عرضة للخطر وتحمّل كلّ تداعيات جائحة وباء “كورونا”، المؤذية والمُرعبة على جميع الصُّعُد.
كان واقع العائلة ما قبل “كورونا”، في حالةٍ ضبابيّة مطموسة المعالم، بسبب التحوّلات السَّريعة والتغيّرات المفاجئة، الَّتي طالت المفاهيم والمبادئ المتّصلة بالحياة العائليّة في العالم، كما بسبب انعدام الحلول العمليّة والملموسة للمشاكل العائلية والصعوبات التي تواجهها، وذلك لأسباب مختلفة ومتعدّدة. إذ واجهت العائلة، في السنوات المنصرمة، تحدّياتٍ جمّة، عرقلت مسيرتها على مختلف الصّعد. فكيف سيكون حال العائلة وصورتها بعد الأزمات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والنفسيّة الطارئة، الَّتي تسبّب بها فيروس “كورونا”؟!
- ما قبل “كورونا” وما بعدها؟!
بالمُطلق، تشكّل العائلة حالةً من الأمان والاستقرار، والخير العامّ للعالم أجمع؛ فهي نواة المجتمع وصورة “مصغّرة” لمستقبل الحياة على كوكب الأرض. وقد شكّل التطوّر والتغيير والتحوّلات الحتميّة أو المفاجئة في العالم، ما قبل كورونا، هزّةً سلبيّةً للعائلة، من حيث المبادئ والمفاهيم الَّتي طالت الحبّ والحياة الزَّوجيّة والعائليّة، وبات وضع “الأُسر” بشكل عام، عرضةً للاهتزاز والتفكّك والاندثار. لا شك أن السبب الرئيس يعود الى تغيّر المفاهيم، ورفض الشَّريعة الإلهيّة وحتّى الطبيعيّة، وتفاقم المؤثرات السلبية التي ساهمت في تغيير مفهوم العائلة وصورتها وهيكليّتها ومصيرها. من هنا كان لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار، الخطر المتزايد، الَّذي فعّلته حالة اللامبالاة، والأنانيّة والتّقوقع، لا سيّما النزعة الفرديّة. بالتَّأكيد، يؤدّي هذا النمط من التفكير أو العيش أو التصرّف، الى التباعد والعزلة والانزواء، ممّا يُحدث شرخًا ظاهرًا أو غير ظاهر، ضمن العائلة الواحدة.
يمكننا القول، بأنّ التّشويه الحاصل في عالمنا اليوم على جميع الصُّعُد، يحتّم على أفراد العائلة أن يجعلوا من عائلاتهم، أرضًا خصبةً لتنامي العطف والمحبّة العميقة، والتَّعاضد وتدعيم الأخلاق الحميدة، والسَّهر على تحقيق الأمان والطّمأنينة، والاستقرار والسَّلام الحقيقيّ.
بالتَّأكيد، جائحة “كورونا” وضعت “حالة” العائلة وصورتها على المحك. أَلَم تتحمّل العائلة أكثر من غيرها، الوِزر والعبء الأكبر من الأزمة؟ كيف عاش وتفاعل أفراد العائلة مع تداعيّات الوباء؟ هل تقبّلوا الواقع بسهولة وتكيّفوا وتحدّوا الصُّعوبات؟ أَم أنهم استسلموا وشعروا بالقلق والخوف؟ لماذا برز الغضب بشكلٍ كبير وتفشّى العنف الأُسريّ بهمجيةٍ مخيفة، وتضعضعت العلاقات الزَّوجيّة والعائليّة؟
كم يعيش أفراد العائلة تحت وطأة تردّي الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة، والنفسيّة والأخلاقيّة والصحيّة، وغيرها من الأمور الَّتي تضغط على نفسيّة وحياة كلّ فردٍ من أفراد العائلة؟ كم يؤثّر مزاج الإنسان وطباعه على مسيرة حياته؟ هل طبعه وتصرفاته خارجة عن سيطرته أم أنه يستطيع التحكّم بها؟
بالتَّأكيد، العائلة في مركز تفاعل بين الأجيال، وما ينتج عنها من تفاعلات إيجابيّة أو سلبيّة، يُسهم في مسيرتها اليوميّة والمستقبليّة. نعم، في هذه الأيّام العصيبة، وفي ظلّ الأزمة الخانقة على جميع الصُّعُد، وتداعيّات انتشار وباء “كورونا”، يعيش قسمٌ كبيرٌ من العائلات تحت ضغوطاتٍ واضطراباتٍ جمّةٍ وعلى أكثر من صعيد: من حالات اكتئابٍ وضجرٍ ويأسٍ، وانزواءٍ وإحباطٍ وخوفٍ من الغد، الأمر الَّذي يؤدّي الى الفشل وحبّ الذَّات والفراغ، وارتفاع منسوب الغضب والتسلّط والأنانيّة، والهروب الى الأمام وظهور عوارض الغضب والفشل معًا.
بالرُّغم من تلك الصّورة القاتمة والرماديّة، الَّتي سيطرت على أغلب العائلات، بشعورها أنّها مهدّدة في وجودها ومصيرها، لا بدّ من أن تواجه العائلة التحدّي برجاءٍ وأملٍ، وأن تتغلّب على اليأس والخوف من الغد، كما على العنف الأُسريّ والغضب الذي قد يؤدي الى الانتحار.
- فرصة مؤاتية!
لا يمكن الانكار أنّ الحَجر المنزليّ، الَّذي فُرِضَ على أفراد العائلة، كان له انعكاس إيجابيٌّ ومحبَّبٌ لدى البعض، لأنّهم عرفوا كيفية الاستفادة من تلك “العُزلة البيتيّة”، من أجل تدعيم علاقاتهم العائليّة والزَّوجيّة، وتثبيت حاجتهم لبعضهم البعض، واكتشاف قُدُرات ومواهب كلّ فردٍ من أفراد العائلة. كان “العزل المفروض” مناسبةً “للعيش معًا” من جديد، وبطريقة مختلفة ومتجددة، تحت سقفٍ واحدٍ ولمدّةٍ طويلةٍ، حيث بات المنزل العائليّ، مكانًا للعمل ولمتابعة الدروس المدرسيّة والجامعيّة، ولتمضية أوقات الرّاحة والتسلية، ومشاركة الطّعام، وتبادل الآراء والأحاديث الخلاّقة والمفيدة أحيانًا، بدل من التعلّق والاستسلام الى العالم الافتراضيّ، الذي قدّمته وسائل التَّواصل الاجتماعيّ. نعم، شارَك واختبر الكثيرون أغلب أوقاتهم الحياتيّة معًا، من خلال وضع برنامج مُبرمَج ومنظّم، تضمّن العديد من الخطوات الَّتي تتيح لأفراد العائلة التقارب العلائقيّ والعاطفيّ، بالرُّغم من فرض الابتعاد الجسديّ والاجتماعيّ. أحسَنَ بعضهم تخطيّ القلق والتوتّر، والخوف والحزن، من خلال الحضور المُكلّل بالمحبّة، والرّوابط الدمويّة والانسانيّة.
يُطلب اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى، من السِّياسات الاجتماعيّة، بخاصةٍ مع التغييرات المصيرية التي سببتها “أزمة كورونا” وتداعيتها المؤذية والمؤلمة على مختلف الصعد، أن تحمي الأفراد لا سيّما العائلات الأكثر ضعفًا- إجتماعيًا ومعيشيًا-، المعرّضة للتفكّك أو للخضوع الى اليأس والملل، في ظلّ تراكم المشاكل وتزايد الصّعوبات وكثرة العراقيل الَّتي تعترض عائلة اليوم. تحتاج “العائلة” الى التّفكير الإيجابيّ، محاولةً طرد الاكتئاب واليأس والقنوط، من خلال النّظرة الإيجابيّة للحياة، أيّ النّظرة التفاؤليّة، بالرُّغم من سوداويّة الآفاق والواقع، من أجل التمسّك بالاستقرار النفسيّ والأمان والطمأنينة. يُطلب اليوم التمسّك بالأمل والتطلّع الى الغد برجاء وفرح، وزرع المعنويّات الايجابية لمواجهة الأفكار السَّوداويّة والهدّامة والواقع المُزريّ. لا بدّ من العودة الى الذَّات، من خلال تفكيرٍ عميقٍ وجديّ، بالاتّكال على دور الحبّ وفاعليّته، في مواجهة كلّ أنواع الصّعوبات، ممّا يَحمِل الرَّجل والمرأة، كذلك أفراد العائلة الى العيش بسلامٍ وأمانٍ وفرحٍ.
عندما يكون الزَّواج مبنيًّا على الحبّ القويّ والعميق والمستمرّ، كما على التّفاهمات الواقعيّة والعمليّة، وعلى الانسجام، يمكن للازواج تخطّي الأزمات بنضجٍ ووعيٍ ودراية، عوضًا عن الاتكال على الأوهام المؤقتة والشغف السطحيّ فقط.
لتبقى العائلة مصدر الحبّ والمودّة والاحترام والتّفاهم: فهي الأرض الخصبة لتنامي العطف والحنان والتَّعاضد والأخلاق والسَّلام.
لندعم العائلة ولنحافظ عليها، كي تبقى الحصن المنيع والحضن الدافئ…
لندعم العائلة ولنحافظ عليها، كي تبقى واحةَ عطفٍ وغفرانٍ ومحبّةٍ وفسحةَ أملٍ ورجاءٍ.
لندعم العائلة ولنحافظ عليها، كي تبقى، وتبقى…