CC0 public Domain pixabay

تحوّلات حتميّة أم مُفاجِئة؟

كيف يواجه ويتحّمل الإنسان التداعيّات المؤذية السلبية التي تتطال الحياة اليومية؟

Share this Entry

ما زال إنسان القرن الحادي والعشرين، يمّر في نفق تداعيّات عدوّ البشريّة الجديد، فيروس “كورونا” COVID-19، الَّذي أخضع أبناء الكرة الأرضيّة أجمع، وسيُخضعها للأسف لمدّة ٍطويلةٍ، إلى تداعيّات مؤذيةٍ وسلبيّةٍ، تطال الحياة اليوميّة المباشرة: من علاقات اجتماعيّة وإنسانيّة، واقتصاديّة وماليّة و”معيشيّة”.

كيف يواجه ويتحّمل الإنسان تداعيّات تلك “المصيبة”؟ هل إتّكاله على الخالق والإيمان، أم على الحكمة والمنطق والعِلم والمعرفة، أو على الذكاء والتّذاكي، أم على القِيَم الإنسانيّة، أو غيرها من المُعطيات والمقدّرات والمواهب؟

  • تحوّلات مُنتظرة ومُحقّقة

بالتّأكيد، ما بعد تفشّي الفيروس، دخل الإنسان في “أنماطٍ” حياتيّةٍ جديدةٍ ومختلفةٍ. هل هي نقطة تحوّل؟!  بالمُطلق، بعد تخطي تلك “الأزمة” العالميّة والإنسانيّة بإمتياز، من البديهيّ أن يكتشف ويختبر ويعيش الإنسان، تبِعات وتداعيّات الفيروس، والَّتي بمعظمها سلبيّة ومؤذية، ومحورية على المدى القصير والمتوسّط. عادةً،  كلّ أزمة كبيرة، قاسية ومفاجئة، تكون تداعيّاتها وارتداداتها طويلة الأمد. هل تلك التحوّلات هي حتميّة أم مُفاجِئة؟ ما هي الأسباب؟ لِمَ حصل كلّ ذلك؟ ظهرت تلك التداعيّات مشتركة تقريبًا بين الناس، فشعر الجميع أنهم في “سلةٍ واحدةٍ” أو في “خندقٍ واحد”.

بدايةً، واجهت البشريّة الفيروس المُرعب، بطرقٍ مختلفةٍ ومتعدّدةٍ. لكنّها، أدركت لاحقًا ضرورة تحمّل المسؤوليّة المعنويّة والإنسانيّة والاجتماعيّة، بتكاتف الجهود، والعمل معًا، وتبادل المعرفة والخبرات، والتَّعاون والتَّعاضد، لمواجهة الصدمة المفاجئة، والتحوّلات السَّريعة على جميع الصُّعُد. تحاول البشريّة جمعاء، أن تواجه التداعيّات، بأقلّ ضررٍ وخسائرٍ، من أجل معرفة انحصار الصَّدمة والخروج منها، والتنبّه على أنّ “الغَد” لن يكون سهلًا ومريحًا على العالم أجمع.

إستشعَرَت البلدان الغنيّة الخطر المُحدِق بها، فسارعت إلى التَّضامن والتَّعاون والتَّنسيق مع سائر البلدان، من أجل الخروج من الأزمة بأقلّ الأضرار. تعاملت تلك البلدان الغنيّة مع حالة التَّضامن بهدف حماية ذاتها أوّلاً. أَوَليست حالةُ التَّضامن هي مسألة وقيمة إنسانيّة بامتياز؟ أَلا تُعتبر الإنسانيّة، المظلّة الَّتي تجمع الإنسان مع أخيه الإنسان؟ فهي تحترم مخلوقات الله، لا سيّما البيئة. تحقّق حالة التَّضامن، أيّ الحضور للآخر، عودةً نحو الاستقرار والأمان، ممّا يؤدي الى طريق “السَّعادة” المنشودة.

ما قبل “كورونا”، كان الفرد يبحث عن السَّعادة بالمُطلق، من خلال قناعاته ونظرته للحياة، أو بواسطة أمورٍ عديدةٍ أو وسائل مختلفة. هل ما بعد “كورونا”، سيستمرّ الانسان في البحث عن السَّعادة؟ أم سوف يحاول أوّلاً الحفاظ على كيانه ووجوده، تاركًا وراءه تلك السَّعادة المنشودة؟ أَلَيست السَّعادة حالةً وشعورًا نسبيًّا يختلف باختلاف حالة كلّ فردٍ وقدراته؟ يبحث أفراد المجتمع اليوم عن سلامة الصِّحة النفسيّة والتّمسك بالتّفكير الإيجابي، من أجل مواجهة  كلّ تداعيّات الفيروس. هل جَلَبَ الوباء للبشريّة، بسبب “الحَجر المنزليّ” والتّباعد الإجتماعي، مشاعرَ الحزن والعنف والقلق والغضب؟ هل خسر الإنسان حريّة التّحرك وممارسة عاداته وتقاليده، حتّى أبسط الأمور الحياتيّة، الَّتي كانت تُعتبر بديهيّة، وليس لها قيمة، أم أنه يعتبرها مكاسب مُحّقة من دون أيّ جهد أو عناء أو منّة؟

  • نحوالتغيير

وضعت تداعيات “كورونا” حواجز عديدة، أمام إمكانيّة عيش الإنسان بسعادة، بسبب الضّغوطات والعزلة، وانعدام الأمن الاقتصاديّ والماليّ و”المعيشيّ”، والقلق والخوف من الغَد، الَّذي يسبّب ويحمل الإضّطرابات النفسيّة، وانعدام الأمل والرّجاء بغدٍ أفضل. نَعَم، ظهرت الصّدمة جليًّا على العالم أجمع، من خلال علامات الخوف والارباك، والاكتئاب والغضب والإستياء. كما ساهمت العزلة البيتيّة لدى البعض، بزيادة التوتّر وصعوبة التّفكير، والتّعامل مع الأزمة، مُتناسين الهدوء والحكمة. أضِف إلى ذلك عَدَم قراءة مُعمّقة للواقع وللماضي القريب والبعيد، الَّذي شهد تطوّرات سريعة، أغلبها سلبيّة، على “نسق” حياة الأفراد على كافة الصُّعُد: الإجتماعيّة والأخلاقيّة والإقتصاديّة و”القيميّة” وغيرها من العوامل. أدّت جميعها إلى عدم مواجهة تلك التحوّلات الحتميّة، الَّتي لها إمدادات في وجدان وضمير الإنسان ونسق حياته. بالتّأكيد، تفاجأ الإنسان بفيروس “كورونا”، لا سيّما بانتشاره السّريع في كلّ الكرة الأرضيّة. فهل تفاجأ بتداعياته الظّاهرة والعلنيّة حتّى الآن؟ أَلا يحصد نتيجة ما زرعه منذ سنوات؟ عندما أهملَ وتناسى قيمة التّكافل والتَّضامن بين الناس، وأَقنَعَ ذاته بالعولمة الزّائفة، أم لجأ فقط إلى الاقتصاد الحرّ المتوحشّ، أو ممارسة الديمقراطيّة “الخدّاعة”، وغيرها من التحوّلات السّلبيّة والمؤذية، الَّتي تعرّض الحياة للتشوّه والانقراض، من خلال عدم معالجة الفقر والجوع والحرب والارهاب، والتّصدّي للجريمة على أنواعها، والتّعدي المؤذي والفاضح والمُستمرّ للبيئة، وعدم احترام حقوق الإنسان.

هل سيشعر بالذّنب والندامة والاضّطراب، ما بعد الأزمة بالرُّغم من المُرونة؟ هل سيواجه المخاطر مع أخيه الانسان، ذات الأبعاد الكونيّة والعالميّة؟ كيف سيُدار العالم ما بعد “كورونا”؟ هل سيشعر الإنسان أَيّ كلّ إنسان، أنّه محبوبٌ، ومُحاطٌ من الآخر، واضعًا حدًّا لعزلته ووحدته؟ هل سيكتشف أهميّة وقيمة حياته ومعناها، وما القصد من وجوده على كوكب الأرض؟ هل نظرته لذاته ستكون إيجابيّة؟ هل سيبقى الخوف واليأس والتّشأوم آنيًّا وحتمّيًا؟ هل وعت الحضارة المزيّفة والعولمة المتوحّشة، أنّ مصير كلّ المجتمعات تعني كلّ إنسان، ولا يمكنه أن يذهب نحو المجهول؟ هل سيبقى العالم مسكونًا بالنِّزاعات والحروب الدّائمة والمنتقلة والجوع المُستشريّ، والكراهية والشَّر؟ أَم ان الفيروس كشف عن حقيقة الإنسان ووضعه على المحك؟ أَلَم يعرّيه من إنسانيّته المفقودة غالبًا؟ هل سيخرج “عالمنا” من حالة التّخبّط العشوائيّ والفوضى العارمة، والضّعف المُستمرّ، والعنف على أشكاله، وازدراء القِيَم والمبادىء؟ هل سيسير نحو تغيير الذّات ومراجعة الخيارات والمواقف؟ أَلَم تجبر تداعيات الفيروس البشريّة، بإعادة صياغة خططها وأدائها وخياراتها وأولويّاتها المستقبليّة؟

نستنتج بأنّ التحوّلات لم تكن مفاجئة، بل مواجهتها والخضوع لها كان مفاجئًا. أَوَليس البُعد الجسديّ أو الاجتماعيّ ومتطلبّاته كان مفاجئًا؟ بالتَّأكيد، يتّجه “عالمنا” نحو التّغيير في الأداء والتّصرّف و”نسق” العيش وغيرها من الأمور الأساسيّة والعمليّة البسيطة، الَّتي كانت بالنّسبة للكثيرين ضمانة لوجودهم وأمنهم واستمراريّتهم على كوكب الأرض. هل هذا التغيير سيكون نحو الطّريق الصّحيح والسّليم والإيجابيّ؟ لننتظر! أَلاَ يحتاج الفرد إلى الوقت الكافي والعمل الدؤوب، من أجل القبول والدّخول في عمليّة تصحيحيّة وتغييريّة وتجديديّة؟ لننتظر النوايا وأخذ القرارات!

 نَعَم، يتأمّل ويترجّى وينتظر “عالمنا” الأفضل والأحسن لمسيرة المجتمعات، المزوّدة بالسَّلام والأمان والبحبوحة والصّفاء، وأكثر رحمةً وعدلاً، ضمن بيئة خلاّبة، وأقلّ تلوّثًا. لنعمل معًا، كي لا نتفاجىء بالمصائب، بل لنعالجها وندركها من خلال التّوعية والعمل الإستباقيّ. لنصوّب ونصحّح ونجدّد رؤيتنا الَّتي يحتاجها العقل، كي يرتّب الواقع في نماذج وأولويّات يستطيع فهمها، ولنطبّقها بطريقةٍ سليمةٍ وصحيحةٍ وفعّالةٍ. لنعش ملء الحياة، مستفيدين من العطف والحنان والمؤهّلات والمقدّرات الَّتي زرعها وأعطاها لنا الخالق.  لنخرج من تلك الأزمة القاسية والطويلة الأَمَد، بعلاقاتٍ جديدةٍ وقويّةٍ وثابتةٍ، مع القِيَم والمبادىء، كما مع النظرة التّفاؤليّة نحو غَدٍ أفضل. هل الإنسان مستعدّ؟! هل تعلمّ؟ هل سينسى ما حصل؟!

Share this Entry

الأب د. نجيب بعقليني

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير