“ونحن لم نأخذْ روحَ العالم، بل الروح الذي من الله، لنعرفَ الأشياء الموهوبة لنا من الله”(1كو2/ 12)
هذه الروحانيات الجديدة التي نشأ أغلبُها ابتداءً من القرن التاسع عشر وما زالت مستمرّة إلى اليوم بأشكال وتسميات متعدّدة، تدخل ضمن التحدّيات الثقافية التي يواجهها المبشّر المسيحي والتي يتكلّم عنها قداسة البابا فرنسيس بإسهاب في الإرشاد الرسولي “فرح الإنجيل”، شارحًا نتائجها الخطيرة على كلّ المستويات.
يحذّر البابا فرنسيس من خطر الإفتتان “بأشكالٍ مختلفة من “روحانية الرفاهية” بدون جماعة وب “لاهوت الرخاء والإزدهار” بدون التزامات أخوية، وباختبارات ذاتية لا وجه لها، تقتصر على بحثٍ داخليّ كموني”(فقرة 90، فرح الإنجيل)
وهذا تحديدًا ما تروّج له بعض الروحانيات الجديدة التي أنتجت ما يسمى ببدعة إنجيل الرفاه Prosperity Gospel وما تروّج له تقنيات تيّار العصر الجديد وحركة الفكر الجديد وما تفرّع منها من بدعٍ أخرى.
لا للدنيوية الروحية!
لقد تسّرب روح العالم، ويا للأسف، إلى بعض ممارساتنا الكنسية بتأثيرٍ من الروحانيات الجديدة والإيديولوجيات والعلمنة والعولمة وغيرها. نشهد مثلاً إنتشارَ ممارساتٍ غريبة عن التقليد الكنسي الآبائي مثل ما يسمّى بالصلاة المركّزةCentering prayer أو التاسوعية Enneagram وتأمّل الوعي الكامل Mindfulness أو دورات تدريبية في البرمجة اللغوية العصبية NLPوالتنويم الإيحائيHypnosis والدورات النفسية الروحية أو السوفرولوجيsophrology الخ. كلّ هذه الممارسات وغيرها، أدّت إلى انحرافٍ حذّر منه البابا فرنسيس بشدّة واصفًا إياه ب “الدنيوية الروحية“. يقول البابا فرنسيس: “الدنيوية الروحية تختبئ وراء مظاهر تديّن أو حتّى حبّ الكنيسة، تقوم على البحث عن المجد البشريّ والرفاهية الشخصية، بدلاً من مجد الربّ”(فقرة 93، فرح الانجيل). هذا ما تعدُ به تحديدًا تقنياتُ التنمية البشرية التي تُعطى ضمن دورات تنشئة في بعض معاهد التنشئة اللاهوتية. والتي تركّز على الرفاهية الشخصية ومحورية الذات وتحقيق الأهداف الشخصية والتفوّق وكيفية صنع “الماركة الشخصية”Personal Brand والتفكير الإيجابي من أجل تغيير الواقع الخ. نقرأ مثلاً في إعلانات إحدى المؤسّسات التي يستعان بخدماتها ضمن الراعويات ودورات التنشئة الراعوية، عناوينًا مثل: “تعلّم تقنيات جديدة لكي تجد راحة داخلية وخارجية”. أو “كيف تحقّق ذاتك وأهدافك الشخصية” وغيرها من العناوين الطنّانة والواعدة. ويستشهد هؤلاء عن جهلٍ منهم، على صفحاتهم الإلكترونية بأقوال مبتدعين مثل الواعظ المشهور “جويل أوستين” (إنجيل الرفاه والعصر الجديد) و”سادغورو”(الإيشا يوغا) و “أوبرا وينفري”(العصر الجديد) وغيرهم. هذا التركيز على النجاح والرفاهية وتحقيق المشيئة الشخصية، يشكّل حاجزًا أمام النموّ في الفضائل الإلهية أيّ فضائل الإيمان والرجاء والمحبة. وهذا ما كان الربّ يؤنّب الفرّيسيين عليه: “كيف لكم أن تؤمنوا وأنتم تطلبون المجد بعضُكم من بعض، ولا تطلبون المجد الذي من عند الله دون غيره” (يو5/ 44). وهكذا بالحيلة يُبحث عن “ما هو لأنفسهم، لا ما هو للمسيح يسوع” (في 2/ 21).
حالةٌ زئبقية !
يمكن وصف هذه الحالة ب”الزئبقية”( نسبةً إلى الزئبق) لأنّه يصعب ملاحظة الإنحراف فيها وتحديدها بسهولة. وهي تبدو ظاهريًا على أنها مستقيمة لكن عاقبتها الهلاك كما يقول الوحي الكتابي. (أم 16/ 12). يصف البابا فرنسيس هذا الإلتباس الحاصل ويحذّر بشدة من خطره الداهم فيقول: “تتلبّس الدنيوية الروحية عدّة أشكال، وفق نمط الشخص والظروف الذي فيه تتغلغل. وبما أنّها مرتبطة بإلتماس المظهر، فلا ترافقها دائمًا خطايا عامة، بل ظاهريًا يبدو كلّ شيء قويمًا لائقًا. لكن إذا اجتاحت الكنيسة، “فلسوف توقع أهول الكوارث، أكثر من إيّ دنيوية مجرّد أدبية”(فقرة 93، فرح الإنجيل)
ويحدّد البابا فرنسيس مصدريْن يغذّيان هذه الدنيوية الروحية وهما الغنوصية والبلاجية فيقول: ” يمكن أن تتغذّى هذه الدنيوية، بالأخصّ، بطريقتين مترابطتين ارتباطًا وثيقًا. الواحدة هي جاذبية الغنّوصية، أيّ إيمان تنغلق عليه النسبوية فلا يُحسب فيه حساب إلاّ لاختبار معيّن، أو لمجموعة من التفكير المنطقي أو لمعارف يُظنّ أنّه من الممكن أن تقوّي وتنير، لكن يجد المرء فيها نفسه، بالنهاية، مُغلقًا عليه في كُمونية عقله الشخصيّ أو عواطفه.
“الأخرى هي البلاجية- الحديثة الذاتية المرجع والبروميتية التي، بالنهاية، لا يثق أتباعها إلا بقواهم فقط، ويشعرون بالتفوّق على غيرهم، لأنّهم يمارسون أنظمةً معيّنة أو لأنّهم يلتزمون لأمانةً لا تتزعزع لنوعٍ من النمط الكاثوليكي عفا عنه الزمن. إنّه أمانٌ عقيدي ونظامي مزعوم يُفضي إلى نخبوية نرجسية سلطوية، حيث، بدلاً من التبشير بالإنجيل، يحلّل ويصنّف الآخرين، وبدلاً من تسهيل البلوغ إلى النعمة، تُهدَر الطاقات في المراقبة. في الحالتين، لا يسوع المسيح ولا الآخرون يثيرون الإهتمام حقًا. إنّها مظاهر كُمونية تتركّز على الشخص البشريّ. لا يمكن أن يُتخيّل أنّ من مثل هذه الأشكال التقليصية للمسيحية، يمكن أن تنبعث دينامية أصيلة للتبشير بالإنجيل” (فقرة 94، فرح الإنجيل)
لا ندعنّ أنفسنا نُسلب الإنجيل!
أوضح البابا فرنسيس الإنحرافات الممكنة الناتجة عن الدنيوية الروحية التي يمكن أن تُعتلن بأشكالٍ عدّة كالإعتناء المتباهي بالليترجيا والعقيدة وبجاه الكنيسة لكن دون أن يشغل البال نفاذٌ حقيقي للإنجيل في شعب الله، أو أن تمارس بذهنية مدير الأعمال الوظيفية، بدون “حماس إنجيلي بل التلذّذ المزيّف الذي يوّلده الرضى الشخصي المركّز على الذات” ويصف البابا حال من سقط في الدنيوية فيقول: “…يتطلّع من علُ ومن بعيد. إنّه يرفض نبؤة الإخوة، ويُقصي من يبادره بطلب، ويركّز باستمرار على أخطاء الآخرين ويستحوذ عليه المظهر. ولقد قلّص مرجعية القلب إلى أفق كُمونه المغلق ومصالحه. بالتالي، فإنّه لا يعرف شيئًا عن خطاياه الشخصية ولا ينفتح حقًا على الغفران.
ويعرض قداسة البابا مخرجًا لهذه المعضلة فيقول: “إنّه لفسادٌ هائل تحت ظاهر الخير. فمن الواجب تحاشيه بوضع الكنيسة في حركة انطلاق خارجاً عن الذات، وفي حركة إرسالية مركّزة على يسوع المسيح، والتزام نحو الفقراء. ليحرّرنا الله من كنيسة دنيوية تتجلبب روحانيات وراعويات! تلك الدنيوية الخانقة تُعالج بتنشّق هواء الروح القدس النقيّ، الذي يحرّرنا من المكوث متقوقعين على ذواتنا، مختبئين وراء ظاهر ديني خالٍ من الله. لا ندعنّ أنفسنا نُسلب الإنجيل !” (فقرة 97، فرح الانجيل)
يتبع
لمجد الرب يسوع