أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!
صوتٌ دوّى فجأةً في حياة إبراهيم. صوتٌ دعاه إلى الانطلاق في طريق غريبة لم يرَ فيها معنى. دعاه الصوتُ إلى اقتلاع نفسه من وطنه، ومن جذور عائلته، للذهاب إلى مستقبل جديد ومختلف. وكل ذلك بِناءً على وعد من الله، كان على إبراهيم أن يثق به فقط. أن تثق في وعد ليس بأمرٍ سهل، فهذا يتطلب الشجاعة. وآمن به إبراهيم فمضى.
لم يذكر الكتاب المقدس شيئا عن ماضي ابراهيم أبي الآباء. إلا أن منطق الأمور يفترض أنه كان يعبد آلهة أخرى. ربما كان رجلًا حكيمًا معتادًا أن يتفحّص السماء والنجوم. في الواقع، وعده الله أنّ يكثِّرَ نسله مثل النجوم المتلألئة في السماء.
وانطلق إبراهيم. أصغى إلى صوت الله ووضع ثقته في كلمته.هذا مهم: وضع ثقته في كلمة الله. وبهذا الانطلاق، وُلدت طريقة جديدة لإدراك العلاقة مع الله. ولهذا السبب نجد أبانا إبراهيم حاضرًا في التقاليد الروحية الكبرى، اليهودية والمسيحية والإسلام، كرجل الله الكامل، والقادر على طاعة الله، حتى عندما تبدو مشيئة الله صعبة، أو حتى غير مفهومة.
ولذلك إبراهيم هو أيضًا رجل الكلمة. عندما يتكلم الله، يصبح الإنسان مستقبِلًا لهذه الكلمة وتصبح حياته المكان الذي فيه تَطلب الكلمة أن تتجسد. هذا أمر جديد هام في المسيرة الدينية للإنسان: بهذا نبدأ نفهم حياة المؤمن بأنها دعوة، أي نداء، وبمثابة مكان يتحقق فيه الوعد. وهو يتحرك في العالم، ليس مثقلًا بلغز لا يفهمه، بل مندفعًا بقوة هذا الوعد الذي سيتحقق يومًا.وآمن إبراهيم بوعد الله. آمن فمضى، دون أن يعرف أين كان يذهب، هكذا تقول الرسالة إلى العبرانيين (را. 11، 8). لكنه وثق.
عند قراءة سفر التكوين، نكتشف كيف عاش إبراهيم الصلاة في الأمانة المستمرة لتلك الكلمة، التي كانت تظهر بصورة دائمة في أثناء طريقه. باختصار، يمكننا القول إنّ الإيمان في حياة إبراهيم أصبح تاريخًا. الإيمان أصبح تاريخًا. لا بل ان إبراهيم يعلمنا، بحياته وبمثاله، هذا الطريق وهذا النهج الذي عليه أصبح الإيمان تاريخًا. لم يعد الله يُرى فقط في الظواهر الكونية، مثل إله بعيد يمكنه أن يبثّ الذعر. إله إبراهيم أصبح “إلهي”، إلهَ تاريخي الشخصي، الذي يقود خطواتي، والذي لا يتخلى عني؛ وإله أيامي، ورفيق مغامراتي؛ والإله العناية الإلهية.أتساءل وأسألكم: هل نملك خبرة الله هذه؟ “إلهي” هو الإله الذي يرافقني، وإله تاريخي الشخصي، والإله الذي يقود خطواتي، والذي لا يتخلى عني، وإله أيامي؟ هل نملك هذه الخبرة؟ لنفكر قليلًا في ذلك.
يشهد على خبرة إبراهيم هذه أيضًا أحد النصوص الأكثر أصالة في تاريخ الروحانية وهو مذكرات بليز باسكال. تبدأ هكذا: “إله إبراهيم، وإله إسحاق، وإله يعقوب، ليس إله فلاسفة وعلماء. هو يقين. يقين. وهو إحساس. وفرح. وسلام. هو إله يسوع المسيح”. هذه المذكرة، المكتوبة على مخطوطة صغيرة، وُجدت بعد وفاته، وكانت مخيطةً داخل ثوب من ثياب الفيلسوف، لا تعبّر عن تفكير ذهني يمكن لإنسان حكيم مثله أن يفكره عن الله، ولكنها تعبر عن الحس الحي الذي اختبره من خلال حضور الله. وقد سجل باسكال حتى اللحظة الدقيقة التي شعر فيها بهذه الحقيقة، بعد أن التقاها أخيرًا في مساء 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 1654.الله ليس الإله المجرّد أو الكوني، لا. هو إله شخص، وإله دعوة، وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والإله الذي هو يقين وإحساس وفرح.
“صلاة إبراهيم تظهر أولًا في الأعمال: فهو رجل الصمت، وفي كل مرحلة يبني مذبحًا للرب” (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2570). لم يَبنِ إبراهيم معبدًا، لكنه وضع علامات على الطريق، حجارةً تُذكّر بعبور الله. إله يفاجئ، كما حدث عندما زار إبراهيم في صورة الضيوف الثلاثة، فرحّب بهم ابراهيم وسارة ترحيبًا حارًّا. وقد بشرهما الضيوف بولادة ابنهما إسحاق (را. تك 18، 1-15).كان إبراهيم ابن مئة سنة، وزوجته ابنة التسعين السنة تقريبًا. لقد آمنا ووثقا بالله، فحبلت سارة زوجته. في هذه السن! هذا هو إله إبراهيم وإلهنا الذي يرافقنا.
وهكذا أصبح إبراهيم خليل الله، قادرًا أيضًا أن يجادله، ولكنه دائمًا أمين. يتحدث مع الله ويجادل. حتى في الاختبار الأسمى والأصعب، عندما طلب منه الله أن يضحيَ بابنه إسحاق، ابن الشيخوخة والوريث الوحيد. هنا عاش إبراهيم الإيمان كمأساة، مثل من يسير متلمِّسًا طريقه، في الليل، وتحت سماء، في هذه المرة، خالية من النجوم. وفي كثير من الأحيان يحدث لنا أيضًا أن نسير في الظلام، ولكن بإيمان. لكن الله نفسه سيوقف يد إبراهيم المستعد بالفعل لذبح ابنه، لأنه رأى استعداده الكامل لطاعته (را. تك 22، 1-19).
إخوتي وأخواتي، لنتعلم من إبراهيم أن نصليَ بإيمان: أن نصغيَ للربّ، وأن نسير، وأن ندخل في حوار وحتى أن نجادل. لا نخافنّ من أن نجادل الله! سأقول أيضًا شيئًا يبدو بدعة. لقد سمعت عدة مرات أناسًا يقولون لي: “أتعلم، حدث هذا لي وغضبت من الله” – “هل كانت لديك الشجاعة أن تغضب من الله؟” – “نعم، لقد غضبت” – “لكن هذا شكل من أشكال الصلاة”. لأن وحده الابن يقدر أن يغضب من والده ومن ثم أن يلقاه مجددًا. لنتعلم من إبراهيم أن نصلي بإيمان، وأن ندخل بحوار وأن نجادل، ولكن أن نكون على استعدادٍ دائم لاستقبال كلمة الله وتنفيذها.لنتعلم أن نتحدث مع الله مثلما يتحدث الابن مع والده: أن نصغي إليه وأن نجيب وأن نجادل. لكن بشفافية، مثل الابن مع والده. هكذا يعلمنا إبراهيم أن نصلي. شكرًا.
* * * * * *
قراءة من سفر التكوين (15، 1. 3-6).
“كانَت كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلى أَبْرامَ في الرُّؤيا قاَئلاً: ((لا تَخَفْ يا أَبْرام. أَنا تُرْسٌ لَكَ وأَجُركَ عَظيمٌ جِدًّا)).وقالَ أَبْرام: ((إِنَّكَ لَم تَرزُقْني نَسْلاً، فهُوَذا رَبيبُ بَيتي يَرِثُني)). فإِذا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ إِليه قائلاً: […] ((اُنْظُرْ إِلى السَّماء وأَحْصِ الكَواكِبَ إِنِ آستَطَعتَ أَن تُحصِيَها))، وقالَ له: ((هكذا يَكونُ نَسْلُك)). فآمَنَ بِالرَّبّ، فحَسَبَ لَه ذلك بِرّاً”.
كلامُ الرّب
* * * * * * *
Speaker:
تأمل قداسةُ البابا اليَومَ في صلاة إبراهيم في إطارِ تعليمِهِ في موضوع الصلاة. قال قداسته: دعا الله إبراهيم أن يترك أرضه وعائلته وأن ينطلق في طريق مجهولة وإلى مستقبل جديد، مقابل الوعد بأنّ نسله سيكون كثيرًا مثل نجوم السماء. انطلق إبراهيم لأنه آمن بكلمة الله. وبهذا الانطلاق، وُلدت طريقة جديدة لإدراك العلاقة بين الله والناس. وأصبح إبراهيم رجل الكلمة. عند قراءة سفر التكوين، نكتشف كيف عاش إبراهيم الصلاة في الأمانة المستمرة لكلمة الله. في قصة إبراهيم أصبح الله جزءًا من تاريخ البشرية، وتبدل مفهومنا لله. لم يعد الله الإله البعيد بل الإله الذي أعرفه أنا شخصيًا، والذي يقود خطواتي، ولا يتخلى عني. هو إلهي في كل يوم من أيام حياتي، وهو رفيق مغامراتي، وهو العناية الإلهية الساهرة دائمًا علّي. وأنهى قداسةُ البابا تعليمَه قائلاً: لنتعلم من إبراهيم أن نصليَ بإيمان:أي أن نسمع صوت الله، وأن نسير معه، وأن ندخل في حوار معه وحتى أن نجادله، ولكن يجب أن نكون على استعدادٍ دائمٍ لاستقبال كلمته وتنفيذها.
* * * * * *
Speaker:
أحيي جميع المؤمنين الناطقين باللغة العربية، المتابعين لهذه المقابلة عَبر وسائل التواصل الاجتماعي. كان إبراهيم رجل صلاة وصديق الله، فكان يقيم مذبحًا للربّ أينما ذهب. في صلاته كان قادرًا أن يجادل الله ولكنه بقي دائمًا أمينًا له، حتى في الاختبار الأسمى والأصعب، عندما طلب منه الله أن يضحيَ بابنه إسحاق. ليبارككم الربّ جميعًا ويحرسكم دائمًا من كل شر!
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2020
© Copyright – Libreria Editrice Vaticana