هذه التَّرنيمة قَديمَة العَهد، ظهرت في بعض الكُتُب في أواخر القَرن السَّادِس عَشَر، وَأُعيدَ نَظمُهَا مَرَّاتٍ عَديدَة… (على سبيل المثال: في القَرن السَّابع عَشَر كَانَ مَطلَعها: “يا شَعبي المُصطَفَى! أَيْنَ عَهْدُ الوَفَا؟”…) لم يَصِل إلَيْنَا الكَثير عَن مَنشَأ وَأصل هذه التَّرنِيمَة، وَلَكِنَّها بالتَّأكيد كَانَت لَحْنًا سُريَانِيًّا، أَخَذَ شَكلَهُ العَرَبِيّ عِنْدَمَا بَدَأ الشَّعبُ يَنسَى اللُّغَة السّريانِيَّة… في نواحي مُنتَصَف القَرن العشرين، ضَبَطَ الأخوَين الرّحباني اللحن، لِيُصبِح بالشَّكل الذي نَعرِفُهُ اليَوم. ما يَهُمُّنَا لَيْسَ دِرَاسَة مَنشَأ هذه التَّرنِمَة، بِقَدرِ مَا نُريدُ تَسليط الضَّوء على مَعنَاها.
“يا شَعبي وصَحبي” هِيَ التَّرنِيمَة التي وُضِعَت اليَوم لِتفتتح خدمة الصَّليب (أو زياح الصَّليب). هي التي خِلالَ إنشادِهَا يُبَخّر المُحتَفِل الصَّليب المُقَدَّس، والتي تَضَعُنَا أمام المَشهَد التَّالي: المَسيح المَمدود على الصَّليب، يُعَاتِب شَعبَهُ! وَلَكِنّ الغَريب أنَّ هكذا كَلام لَم يَرِد في الإنجيل، ولم يُعاتِب المَسيح أحَدًا بِهذه الطَّريقَة، بل على العَكس، لقد كانَ على الصَّليب يَغفِر لِصَالِبيه: “إغفِر لَهُم يا أبَتَاه لأنَّهُم لا يَعلَمون ماذا يَفعَلون!” (لوقا٢٣: ٣٤). فَلِمَاذا وُضِعَت هذه التَّرنيمَة بِهذا الشَّكل؟!
بالطَّبع، لم يَكُن الهدف من هذه التَّرنِيمَة التَّشديد على آلام المَسيح، بِقَدْرِ ما كان للتَّشديد على أَهَميّة التَّوبَة. فالمَسيح ارْتَفَعَ على الصَّليب لِيَمْحُوَ خَطَايانا: “وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ” (يوحنا٣: ١٤-١٦) لِذلِكَ يَأتي العِتَاب في هذه التَّرنِيمة من باب حَثّ المُؤمِن على التَّوبَة، لأَنَّ خَطيئَتَهُ هِيَ التي كانَت سبب ارتِفَاع يَسوع على صَليبِهِ: فالمَسيح أَحَبَّنَا حَتَّى بَذَلَ ذاتَهُ من أجْلِنَا على الصَّليب لِكَي تَكون لَنَا الحَيَاة، وَنحنُ بِخَطَايانا نَختَارُ المَوت من جَديد وَنَخون عَهد الحُبّ الذي وَضَعَهُ الله الآب بِبَذل ابْنِهِ الوَحيد كَفّارَةً عنّا! لِذلِكَ وُضِعَت كَلِمَات التَّرنِيمَة هذه على لِسان المَسيح المَصلوب لِيُذَكِّر المُؤمِن بِعَهد الحُبّ، وَلِيُذَكِّرهُ أَيضًا بِأنّ الجَميل الذي صَنَعَهُ لِخَلاصِهِ لا يُقابَل بالخَطيئة، بل بالإلتِزَام بِالعَهد:
“يا شَعبي وصَحبي! أينَ عَهدُ الإيمان؟ أيْنَ الوَفا بالحُبّ؟! وَ ٱلوَداد وَالرِّضوان…
كالقاتِلْ وَاْلعَدو دَفَعتُمُوني للهَوان! وَما بَينَ لِصَّين صَلَبْتُموني عُريان؟!
تُرَى ماذا عَمَلي فَصارَ هذا جَزائِي؟! تُرَى مَنْ هو ٱلمُدَّعي؟ وَما هو وجُوب قَضائِي؟
أما تَذكُرونَ ٱلجَميل؟! أما تَذكُرون سَخائِي؟! كَم عَليلٍ، كَم سَقيم قَد شَفاهُ ٱعتِنائِي!…”
هُنَا، يُنادِي يَسوع الذينَ أمامَ صَليبه (في الكَنيسة) وَيَقولُ لَهُم:
“يا ناظِرين شِدَّتي! يا مُبصِرين بَلوَتي! يا سامِعين بُكائِي وَحَسَرات والِدَتِي!
هَل وَجَدتُم مَن بُلي، أصابَتهُ مُصيبَتي؟! هَل مَنْ سُقي كاسي، وَ ٱستَطعَمَ مَرارَتي؟”
يُشَدِّدُ في هذه الكَلِمَات على مَدَى الألم الذي تُسببهُ الخَطيئة في جَسَدِهِ. أَوَ لَيْسَت الكَنيسَةُ جَسَد المَسيح السِّرّي؟ لِذلِكَ: نحنُ نُؤلِم جَسَد المَسيح السرّي، أي نُؤلِم الكَنيسَة، في كُلِّ مَرَّةٍ نَخطَأ! لِذلِكَ، فالآلام لا تتوَقَّف عِندَ يَسوع! هُنَاكَ مَريَم، الحَاضِرَة في قَلب الجَمَاعَة المُؤمِنَة، وَالتي هِيَ أيقونة الكَنيسَة، تَتَحَسَّر على تِلكَ الآلام التي تُسَبِّبُهَا الخَطيئَة، لِذلِكَ يَقولُ لَهَا يَسوع:
“يا مَريَم أُمِّي! نَحيبُكِ يَزيدُ أدمُعي! إرحَميني أُسكُتي، أُترُكيني! إرجَعي!”
كُل الكَنيسَة تَبكي خَطيئَة المُؤمِن، وَتَحُثُّهُ على التَّوبَة… لِذلِكَ يَصرُخُ كُلّ خاطئ مَعَ يَسوع الذي حَمَلَ خَطيئَتَهُ:
“يا أبَتاه لِماذا تَترُكُني بِوَجَعي؟! خَنَقَتني الحَسَرات، وَ تَمَزَّقَت أضلُعي!”