Saint Joseph, photo taken by Robert Cheaib, Pixabay, CC0

حلم يوسف البتول وحلم الله

الجزء الرابع من سلسلة مقالات عن القديس يوسف

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

«يا يُوسُفَ ابنَ داود، لا تَخَفْ أَن تَأتِيَ بِامرَأَتِكَ مَريمَ إِلى بَيتِكَ. فإِنَّ الَّذي كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، وستَلِدُ ابناً فسَمِّهِ يسوع، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم» (مت 1: 20- 21)

المقدمة

يوسف البتول، شفيع عامنا 2021 بالكنيسة الكاثوليكية. فقد ساد في التقليد الكنسي تكريمه كل عامًا في التاسع عشر من شهر مارس الـمُكرس له، كقديس وشفيع هذا اليوم. إلا أننا في هذا عامنا الحالي هذا الشهر له مذاق خاص، إذ لا نحتفل به فقط في يوم ما أو في شهر خاص به بل نحتفل بأبوته وقداسته طوال هذا العام. بعد أن نوَّهنا بالمقال السابق عن أهمية الحلم من الناحية الكتابية كوسيلة لتواصل الله مع مَن يدعوه. نوّد التحدث في مقالنا هذا الذي أعطيناه عنوان إحتفالي لنُفرق بين حلمين: الحلم البشري لدي يوسف البتول والحلم الإلهي الذي يشاركنا الله به ليكشف عن ما هو جديد من سره الإلهي. سنتحدث عن حلم مار يوسف الشخصي وعلى مستواه الفردي وأيضًا عن حلم الله لخير البشرية كلها.

يسرد علينا متى الإنجيلي ثلاث أحلام تمت في حياة يوسف البتول. الأحلام التي تحمل رسالة إلهية هي شكل من أشكال تواصل الرب مع مار يوسف (راج مت 1: 18- 25؛ 2: 13- 15؛ 2: 19- 23). سنتوقف في مقالنا هذا على الحلم الأول فقط، فله الكثير من الأهمية، لأنه يحمل مفتاح كل الأحلام التي كشف بها الرب ن مخططه لمار يوسف. يشمل الحلم الأول على نقطة إنطلاق جوهرية لعلاقة الإلهي وهو الرب مع البشري وهو يوسف، الذي من خلاله يتواصل مع كل البشرية. بعد تقديم نسب وأصل يوسف البتول بحسب إنجيل متى في 1: 1- 17 من خلال تقديم أسماء أجيال مختلفة، عرض علينا مباشرة الإنجيلي، أول تواصل إلهي مع يوسف إذ تبدأ مسيرة الفيض الإلهي، معنى إسم يوسف، في حياته بشكل سرى وعجيب. هذا التدخل الإلهي له سِمًّاتِه الذي يحترم حلم يوسف البشري وينتظر رده على الطلب الإلهي. حتى يتماشيا كَلا الحلمين ليتحقق خير لهذه الأسرة الصغيرة وللبشرية جمعاء. ونختتم مقالنا بالنتائج المتحققة بتداخل الحلم الإلهي بالبشري والصدى الذي يتركه تداخل الحلمين على حياتنا اليوم!

  1. حلم يوسف البشري

حلم يوسف لمستقبله، هو حلم بسيط زعادي. كأي رجل شرقي من اليهود الذين مثله. كان يميل للزواج كدعوة لحياته، وتأسيس عائلة هو هدف يوسف بالإضافه إلى رغبته في أن يكون رب أسرته. تَبَعَّ يوسف بحلمه هذا الفكر السائد في عصره مثل بلادنا الشرقية التي تتميز بتقاليد خاصة. وهنا يشارك يوسف بحلمه الكثير من الرجال الشرقيين، بحسب عادات أهل بلاده بالشرق القديم بفلسطين. إذ لم يذكر لنا العهد الثاني أي آمال أو طموحات سوى ما نستنتجه إنه قرر أن يستكمل حياته بتشكيل أُسرته مع مريم خطيبته والتي من ذات النسل الداودي، وهي إبنة حنة ويواقيم.

خلاصة دعوة يوسف أن يُشكِّل أسرة، إلا أن الرب الذي يسعى لتحقيق مخططه يكشف أيضًا عن حلمه الإلهي مانحًا يوسف ومريم خطيبته نعمة تحقيق حلمهما البشري ولكن بشكل آخر. أي بشكل يتطابق مع المشروع الإلهي. وهنا يكشف الله عن الجديد من سره وسيكشف عن ذاته بشكل مختلف تمامًا عما سبق في العهد الأول. إذ كان قرار الله أن لا يتواصل بعد مع بشر كالبطاركة والقضاة والأنبياء والملوك، … بل من خلال إبنه وهو الأقنوم الثاني.

  1. الحلم الإلهي

يفاجأنا متى الإنجيلي أن هناك حلم أعظم وأقوى من قِبل الله على مستوى أكبر. هذا الحلم الإلهي يحتاج لمعاونيين من البشر لتنفيذ هذا الحلم الإلهي. لذا سيقع إختياره ليتحقق الحلم الإلهي على شخصيتين وهما يوسف ومريم المخطوبين. ومنذ لحظة إختياره لهما إنقلب حلمهم الوحيد، الذي هو تكوين الأسرة بشكل طبيعي وبسيط، رأسًا على عقب. نعم تم التدخل الإلهي والكشف عن حلم الله بشكل مباشر من خلال حوار ملاكه الـمُرسل لمريم (راج لو 1: 26- 38). أما مع يوسف فقد تم كشف الحلم الإلهي بشكل عذب ورقيق في حياته، شكل يتناسب مع شخصيته، وهو شكل الحلم. فقد وقع على يوسف الإختيار الرب بسبب برارة قلبه وحياته. فيشير متى في الحلم الأول 1: 18- 25 قائلاً:

أَمَّا أَصلُ يسوعَ المسيح فكانَ أنَّ مَريمَ أُمَّه، لَمَّا كانَت مَخْطوبةً لِيُوسُف، وُجِدَت قَبلَ أَن يَتَساكنا حامِلاً مِنَ الرُّوحِ القُدُس. وكان يُوسُفُ زَوجُها باراًّ، فَلَمْ يُرِدْ أَن يَشهَرَ أَمْرَها، فعزَمَ على أَن يُطلِّقَها سِرّاً. وما نَوى ذلك حتَّى تراءَى له مَلاكُ الرَّبِّ في الحُلمِ وقالَ له: “يا يُوسُفَ ابنَ داود، لا تَخَفْ أَن تَأتِيَ بِامرَأَتِكَ مَريمَ إِلى بَيتِكَ. فإِنَّ الَّذي كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، وستَلِدُ ابناً فسَمِّهِ يسوع، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم” وكانَ هذا كُلُّه لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبُّ على لِسانِ النَّبِيّ: “ها إِنَّ العَذراءَ تَحْمِلُ فتَلِدُ ابناً يُسمُّونَه عِمَّانوئيل”أَيِ “اللهُ معَنا”. فلمَّا قامَ يُوسُفُ مِنَ النَّوم، فَعلَ كَما أَمرَه مَلاكُ الرَّبِّ فأَتى بِامرَأَتِه إِلى بَيتِه، على أَنَّه لم يَعرِفْها حتَّى ولَدَتِ ابناً فسمَّاه يسوع.

يتجاوب هذا الحدث بشكل واضح مع تساؤلين يمكننا طرحهم الآن الأول: مَن هو أب يسوع؟ والثاني: كيف يتم إدخال يوسف البار في أصل قرابة يسوع؟ يسوع هو إبن الله، الذي وُلِدَّ بعمل الروح القدس والذي حلَّ على مريم. أما بالنسبة لإختيار شخص يوسف هنا كمثال الإنسان الذي يتحلى بدرجة إيمان سامية. من خلال قرابة الدم، التي تربط بينه وبين الأصل الداودي، يصبح خطيب مريم أي زوجها بحسب التقليد العبري، وأب يسوع بشريًا. في شخص يوسف الذي هو الأب البشري ليسوع نقترب من معايشة ما أختبره باطنيًا يوسف من شكوك ومقاومة وهي مشاعر بشرية. حتى يُمهد دخوله في السر الإلهي وينفتح على ما هو أعظم والغير متوقع. من خلال إيمان يوسف بكلمة الله الـمُعلنة له في الحلم الأول، تتثبت صلة القرابة بين الله وبيننا، فهو يُمثلنا بشريًا.

  • قوة الكلمة الإلهية

تكلم الله في حياة يوسف من خلال الحلم. بواسطة إعلان رسالته السرية في كلمته الإلهية بالحلم. نجد أن هناك دعوة خاصة موجهة إلى يوسف، لا تشبه دعوات المختارين في الكتاب المقدس. الــمُدهش هو قَبولَّ يوسف الرسالة الإلهية بشكل ايماني. يوسف لم يتحاور مع الملاك ولم يعطي رداً مباشراً بالكلمات بل كما يؤكد متى تجاوب يوسف فقال: «فلمَّا قامَ يُوسُفُ مِنَ النَّوم، فَعلَ كَما أَمرَه مَلاكُ الرَّبِّ فأَتى بِامرَأَتِه إِلى بَيتِه» (1: 24). بعد إستلامه الرسالة الإلهية بالحلم، يتفاعل يوسف فيقوم من نومه ويتُنفذ ما طُلب منه. هذا الفعل يشير إلى يقظة يوسف وموافقته على الرسالة الإلهية. شخصية يوسف هنا يمكننا أن نمثلها بالإنسان الذي ينتمي لفئة أبناء الله: «الَّذينَ قَبِلوه [الله] وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله» (يو 1: 12). نلاحظ أن المسئولية الأولى تقع على الرجل الذي هو رب الأسرة وعلى كفائته بتجاوبه الفعَّال مع كلمة الله التي سمعها في الحلم: فالملاك هنا يعرض عليه ولا يجبره على قبول الرسالة الإلهية بل ينتظر رده. إمكانية قبول حلم الله في الرسالة الموجهه في شكل حلم يوسف وإصغائه للحلم والتفاعل معه بتطبيق ما فهمه في الحلم. يوسف لم يتلفظ بقوله نعم مثل مريم، بل بالتنفيذ العملي لما طلبه الرب منه من خلال ملاكه.

  • التدخل الإلهي

نص الحلم الأول بحسب سرد متى الإنجيلي يشير إلى أن شكل تدخل الله الذي يحمل الجديد لتاريخنا البشري إذ يُدخلنا في التاريخ الإلهي من أوسع الأبواب، من خلال سر التجسد. من خلال هذا التدخل الأبويّ،سيولد يسوع بيننا بل فينا نحن البشر. تكمن رسالة يسوع في أن يكشف عن كل ما هو إلهي وغير منظور مُحتويًا ما فينا كل ما هو بشري. وهذا يتطلب أشخاص يعانون الرب في تحقيق حلمه مثل مريم ويوسف. قد أعلن الرب في القِدم لداود، أن من نسله سيأتي المسيا، ويوسف هنا، والذي مِن النسل الداودي سيكون هو القناة التي تساعد على تحقيق هذا الوعد. سيكون إبن داود هو المسيا الموعود به، هو ذاته الرب الذي إختار يوسف مُخبراً إياه أن الإبن لن يأتي بزرع بشري بل من الروح مما يعني أن الروح هو الله في الأقنوم الثالث.

  1. تداخل الحلمين

بعد تفكير يوسف العميق في مستقبله وأن إرتباطه بمريم لن يتحقق إذ بسبب حبلها قرر أن يتركها سراَ في باطنه ولم يكشف قراره هذا لشخص ما. إلا أن الرب يأتي في هذا التوقيت بالذات ليدخل في حياة يوسف وطرق على بابه ويعلن حلمه ليس لأسرة يوسف فقط بل للعالم الذي أحبه. هذا ما نراه بحسب الفكر المتاوي، فيروي الإنجيلي في الآيات 18- 19 أن يوسف قد فكر في التراجع عن الإرتباط بخطيبته، أي ترك مريم بشكل سري. إلا أنه بواسطة تدخل ملاك الرب وتشجيعه له بأن يأخذ مريم وإبنها إلى بيته بدون تراجع. في ذات الآيات نتوصَّل إلى أصل يسوع البشري الذي هو ذاته أصل يوسف. في اللحظة التي يقوم فيها يوسف من نومه، وفي يقظة حياته يقوم بقبول إرادة الرب إذ يعلن قبول الجنين الذي في أحشاء مريم خطيبته، ويقبل بأن يصير إبنه ويعطيه الإسم بدوره الأبوي البشري. هذا هو قرار يوسف بفعله أن يترك حلمه الشخصي جانبًا ويدخل بحياته وبحلمه وبخطيبته وبمستقبله في المشروع الإلهي فيتحقق الحلمين الإلهي والبشري معًا.

  1. صدى الحلمين علينا

نراقف كمؤمنين، بالقرن الحادي والعشرون، هذا التشابك الذي يجمع بين الحلمين: الإلهي والبشري معًا. فكلاَ منهما عظيم بمفرده وله قيمته. إلا إنهما معًا لن يصلا فقط لتأسيس أسرة يوسف الصغيرة بل من خلال هذا التداخل تم تأسيس أسرة بشرية –إلهية واحدة. هذه الأسرة البشرية التي صِرنا نحن أعضاء فيها بنعمة الله لها مرجع وحيد وهو الله ولكن النواة التي تأسست عليها الأسرة البشرية – الإلهية هي أسرة الناصرة بفضل تجاوب مريم ويوسف بالإيجاب على المشروع الإلهي.

تركا هذين الحلمين صدى عظيم في حياتنا وهو أن العائلة المقدسة صارت نواة إذ تكونت عليها الأسرة البشرية الكبيرة التي يريدهاا الرب ليُحقق فيها إرادته ونعمته الإلهيتين. أنا وأنت اليوم، ننتمي لهذه العائلة الكبيرة التي تنتمي للرب والتي إنطلقت من حلم يوسف ومريم. الذي من خلالها من تجسد إبن الله الوحيد. في هذا السر العظيم، سر التجسد، الذي تحقق بعد إعلان الحلم الإلهي لمريم وليوسف من جانب وإحترم حلمهما وإنتظار قبولهم من الجانب الآخر. فصارت حياتنا ثمرة تداخل هذين الحلمين الإلهي والبشري معًا. فنحن اليوم نتنعم بمزيج حب نَتَّجَ مِن تداخل هذين الحلمين إلا أن الصدى الصالح تحقق لصالحنا فنصير أبناء للرب الإله من جانب وأبناء لمار يوسف البتول من جانب آخر.

الخلاصة

في هذا العام الـمُكرس لمار يوسف البتول، نشكر الله لأنه أحبنا فصار يحلم لأجل ما هو خيَّر وصالح لنا نحن البشر. فاختار أُناسٍ بشريين كمريم ويوسف ليتحقق سر حبه لنا في إبنه الذي إنتمى لأسرة الناصرة. وكم هو عظيم أن يجد مكانًا في حياتنا البشرية ليُحقق حلمه الإلهي من خلال شخص يوسف البتول. اليوم متأملين في تجاوب على يوسف برد فعله الإيجابي على رسالة الرب في الحلم، مدعويين أن نسمع لأحلامنا ولا نهملها بل نبحث عن الكلمة الإلهية ونعتمد على قوتها مثله. إيمان يوسف برسالة الله في الحلم الأول جعلته يثق بل يصل إلى أسمى درجات الإيمان بأن الرب لا يُحقق فقط حلمه وطموحه البشري لحياته فقط بل بواسطته حقق حلم الله لي ولك وللبشرية.

لنتوقف بشكل خاص هذا العام ونتسأل ما هو حلم الله لي، لأسرتي، لمجتمعي ولكنيستي؟ وما هو حلم حياتي الشخصي؟ لنسعي أن نترك المجال أمام الرب ليتدخل في أحلامنا ويحاورنا ويجعل منها موضع لتحقيق أحلامه المقدسة التي تحمل الخلاص والخير لكلاً منا وللأسرة البشرية- الإلهية معًا. دُمتم بأحلامكم مركز لتحقيق حلم الله فيكم وفي قلوبكم بشفاعة مار يوسف البتول.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

د. سميرة يوسف

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير