تعلن الكنيسة أن يوم الصبت هو يوم الصمت العظيم الذي نُشارك فيه مريم آلامها لأجل إبنها. الصمت هو الوسيلة التي تتبعها مريم لتواجه ألمها. فالألم هو جزء من الحياة البشرية. لا يمكننا التمتع بما في الحياة من أفراح وجمال ونِعَم إلهية ما لم نتعلّم كيف نحتضن الجزء الثاني لحياتنا البشرية وهو الألم. مريم الفتاة البسيطة التي أُختيرت من قِبل الله العلي لتكون أمًا لله تقودنا اليوم في مقالنا هذا لنقترب من سر الألم المُعاش بصمت حينما يُتمم الرب إرادته البشرية علينا. الألم ليس هو إرادة الله ولكن هو أحد نتائج عصيان الإنسان الأول الله الذي أخطأ إذ عليه أن يتحمل نتائج أفعاله. هذا يتطلب من كل إنسان بشري اليوم مواجهة الألم بشكل إنساني مرتبد بإيمانه المسيحي. نستعد بعد ساعات قليلة للإحتفال بجوهر إيماننا المسيحي وهو عبور القائم بسره الفصحي الذي يخترق قلب الموت وينتصر عليه. سر موت يسوع الذي قُتل بيد البشر تسبب في أن قلب أمه مريم يناله الألم ويُعاني بل يعتصر ألمًا بسبب ألام إبنها البكر والوحيد.
مريم الإنسانة
كما يروي لوقا الإنجيلي في أول فصلين مرتكزاً على أحداث ظهور الله في الجسد من خلال سر التجسد العظيم الذي تم منطلقًا لوقا باعلان إرادة مريم ودخولها في السر الإلهي بعد أن إختارها الله الآب أمًا لأبنه. والإشارات التي نوَّه عنها مار لوقا في أول إصحاحين أشارت إلى بساطة فتاة الناصرة، مريم، التي صارت في الحقيقة أمًا لإبن الله إلا أن الألم نال من قلبها بل إعتصره كأي بشري مثلنا. مريم كيف واجهت هذا الألم؟ ماذا فعلت لتتألم؟ أين سر قوتها إذ لم يروي الإنجيلي يوحنا إلا وجوده بجوارها تحت صليب إبنها؟ بالرغم أن يوسف البتول كان سنداً لها عند بدء مسيرتها مع الله إلا أن دوره إنتهي مبكراً وهذا ما يخبرنا به لوقا بآخر ظهور له في لو 2: 41- 50 عند حدث فقدان يسوع بالهيكل.
حضور مريم
حدث دخول يسوع المتواضع للهيكل (راج لو 2: 22- 35)، محمولاً على أيدي والديه لإتمام الشريعة، وهي إتمام لنبؤة ملاخي 3 التي تروي الزيارة الأبدية للرب بين شعبه. يسوع، بمرافقة مريم ويوسف، يُكمل الشريعة ومريم تحمل رسالة جديدة بمثابة أمومتها لهذا الطفل ويوسف شاهد على إتمام أعمال الرب في حياة أسرته. بقوة الروح القدس الذي حلّ على مريم سابقًا، يتعرف سمعان على هوية يسوع الإلهية ويتنبأ بها مُرنمًا بفرح إنتهاء إنتظاره. سمعان رمز للعهد الأول ولكل شخص منا والآن منفتح على سر الموت طالبًا إياه «الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلام، وَفْقاً لِقَوْلِكَ» (لو 2: 29). حتى الموت لا يُشكل خوفًا فقد إنتصر عليه برؤيته الطفل الإلهي. فوراء كل هذه المشاعر هناك ذاكرة الإله الطفل الذي سيموت بسبب حبه. خبرة الموت لن تُخيف بعد أي بشرٍ بل تجعله يحيا في سلام. بهذه الخبرة يلتقي الإنسان المحدود في نهاية الأمر بالرب (راج لو 2: 25- 35). ومريم هنا المرأة الشابة الحاضرة، تعيش، تسمع، تقبل، تصمت، … أمام إتمام أعمال الله الآب في حياة الإبن.
أنت يا مريم سيف سيخترق نفسك!
في لقاء سمعان الشيخ بمريم أثناء حدث تقديم يسوع للهيكل بعد أن يبارك الرب ويبارك مريم ويوسف والطفل. يفاجئنا لوقا من خلال الآيتين الذي يرويهما على لسان سمعان متنبئًا ومتوجهًا بنظره نحو مريم مشيراً لنبوءة مزدوجة: «ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض. وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ لِتَنكَشِفَ الأَفكارُ عَن قُلوبٍ كثيرة» (لو 2: 34- 35).
الجزء الاول من نبوءة سمعان هي رؤية مستقبلية لما سيتحقق في الطفل المحمول على الأيدي، من خلاص ونعمة. فهو سيصير سبب لسقوط ولرفع الكثيرين وبإختصار سيُرفض. نقرأ هنا نبؤة إستباقية لواقع الأحداث التي ستتحقق في مستقبل يسوع وهو شابًا. وهذا ما يخبرنا به لاحقًأ مار لوقا في رواية الآلام التي يرويها في 22: 47- 23: 56 وفيها تتجسد أقوال هذا الشيخ أثناء الحكم على يسوع وموته وقيامته.
الجزء الثاني وهو ما يُمثل جوهر مقالنا اليوم وهو رسالته الخاصة التي يتفحص فيها نظرة مريم مرتكزاً على ما ستواجهه هذه البتول مستقبلاً من مصير مؤلم. هنا مستقبل مريم مرتبط بمستقبل يسوع إبنها. ففي حقيقة الأمر حينما بشرها ملاك الرب قائلاً: «إفَرحي، أَيَّتُها الـمُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ. […] لا تخافي يا مَريَم، فقد نِلتِ حُظوَةً عِندَ الله.فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابناً فسَمِّيهِ يَسوع. سَيكونُ عَظيماً وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود، ويَملِكُ على بَيتِ يَعقوبَ أَبَدَ الدَّهر، وَلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية […] إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى» (لو 1: 26- 36). إلا أن ملاك الرب لم يكشف لها تفاصيل هذه الدعوة. فهناك جانب لم يتم الإعلان عنه صراحة من ملاك الرب. إلا أن الرب يستخدم هذا الشيخ ليُهيّىء مريم الأم الشابة برسالة مستقبلية والتي تحمل وجه مؤلم كجزء من خياتها البشرية. إذن مريم منذ صِغر إبن الله بدأت تتلقى رسائل أخرى ليست وردية كرسالة ملاك الرب أثناء البشارة. فهي إنسانة بشرية مثلنا عليها أن تقبل وتواجه ما تقدّمه لها يد الله في الحياة. وبالفعل لم نسمع، هنا، صوت مريم تعلن كما قالت سابقًا: «أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ» (لو 1: 38). فهناك لغز غامض وغير مفهوم وهو سر الألم. إستخدم لوقا رمز السيف الذي يخترق نفسها كتعبير عن الألم التي ستعانيه مريم الأم. الألم هو مشاعر بشرية جميعنا نخافها ولا نرحب بها ولا نُفضل أن تكون جزء من حياتنا إلا أنه موجودة ولا ينبغي التهرب منها بل مواجهتها.
سر مريم
هذا الجزء من حوار سمعان مع مريم هو بمثابة كشف عن ظلال سر موت وقيامة الرب. كلام الشيخ للأم الشابة يحمل رمز “السيف” الذي بدوره يخترق قلب كل مؤمن وكل الكنيسة معًا. مريم هي المرأة الشابة والأم التي ترمز للكنيسة. سيستمر هذا السر في حياة كل تلميذ يلتحق بتبعية معلمه من الصليب إلى المجد. بل سيصير سر الموت والقيامة مركز الإيمان المسيحي. وهنا سيتحول بنعمة الرب الألم إلى مجد ليس بقدرة الإنسان بل بنعمة الله.
مريم أول تلميذة لإبنها المعلم والإله. فهي التي قبل ولادته الأولى التي علمت بما هو إلهي وسري وإحتضنت الكنز الإلهي في أحشائها. الآن تستمر في رسالتها وتواصل ما دعاها الرب لها دون أن تفهم ما يُقال إلا إنها إنطلاقًا من قولها أمام ملاك الرب: «أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ» (لو 1: 38). نراها الآن صامدة أمام ما تسمعه دون أن تسأل أو ترغب في معرفة الكثير. فقد أبدت مسبقًا إرادتها وهي تستكمل الآن مسيرة ردها منذ بداية مسيرتها على المخطط الإلهي.
صمت مريم أمام ألم الصليب
لا يتحدث لوقا في رواية الآلام عن مريم بشكل خاص بل عن النساء بشكل جماعي. لكن مار يوحنا يشير لدور مريم الأم الفريد تحت صليب إبنها قائلا: «هُناكَ عِندَ صَليبِ يسوع، وقَفَت أُمُّه» (يو 19: 25). وهنا نتابع تجسد “السيف” الذي سيخترق قلبها. مريم التي كانت تحفظ كل شئ في قلبها الآن قلبها يعتصر ألمًا لمصابها الأليم في الحكم المُميت على إبنها. مريم تفقد إبنها ظلمًا ولا تعلم ماذا تفعل فهو الإلهي يُحكم عليه من البشر وهي صامتة ولا تتفوه بكلمة واحدة. حضور مريم الصامت تحت الصليب ليس موقف سلبي منها فهي إستمرت أن تكون بحسب قولها “أمة” أي خادمة أينما يوجد إبنها توجد هي. مريم معلمتنا في فضيلة الصمت في ساعة الالم العظيمة التي تنال فيها البشرية حياة بينما قلب مريم يعتصر من الألم. مواجهة مريم العنف بقتل إبنها بصمت وحضور، بدموع وبمرارة، … فهي إنسانة بشرية إلا أن هناك حقيقة تكمن في أعماقها وهي قوة الروح القدس التي نالتها عند البشارة صارت قوتها تحت الصليب أيضًا لتواجه هذا الألم الكبير. وقت الألم يعيننا الرب بقوة روحه القدس كما أعان مريم. بحسب قول مار بولس «كَذلِكَ فإِنَّ الرُّوحَ أَيضاً يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا لأَنَّنا لا نُحسِنُ الصَّلاةَ كما يَجب، ولكِنَّ الرُّوحَ نَفسَه يَشفَعُ لَنا بأَنَّاتٍ لا تُوصَف» (رو 8: 26).
اليوم، هو يوم الصمت العظيم، الذي ترافق الكنيسة مريم بصمتها وبصمودها أمام سر الألم يمكننا أن نعبر عن مشاركتنا بصلاتنا مع مريم. يا مريم يا بنت أرضنا وأم الأوجاع، إختبرتي الكثير من الآلام بل وصلتي لقمة الألم. أنيري قلوبنا وحياتنا لتكون آلامنا البشرية وسيلة تساعدنا لإختبار القوة الإلهية التي تكمن فينا. علمينا أن في لحظة إعتصارنا بالألم لا نتهرب بل نقف بصمت مختبرين ضعف حياتنا البشرية التي هي لا شيء سوى نعمة إلهية. كما لم تستسلمي وصمدتي تحت صليب ابنك الإلهي وسمحتي للآلم يخترق قلبك ونفسك عاونينا أن نصمد بصمت أمام تجارب الحياة المؤلمة، فأنت أم يسوع وأمنا. يا أم الصمت رافقي مسيرتنا وتشفعي لنا لدى إبنك فيصير عونًا وسنداً لنا بقوة روحه وبقيامته المجيدة التي تمت بعد عبوره الكثير من الآلام والموت لأجلنا. فالحب هو السبب الذي يجعلنا نتحمل الألم حب مريم وحب يسوع هو السبب في تحمل الكثير من الآلام.
مدعوين اليوم، في هذا السبت العظيم لتكريس وقت للصمت أمام صليب يسوع واقفين بجوار مريم نتأمل حب إبنها وليصمت قلبنا وحياتنا حتى نقبل الدخول في هذا السر الإلهي مثل مريم بقوة الروح القدس.