أيّها الإخوة الأعزّاء، صباح الخير!
أشكركم على الفرصة التي أتيحت لي لمشاركة هذا التفكير معكم، الذي نشأ مما جعلني الرّبّ يسوع أختبره تدريجيًا خلال أكثر من خمسين عامًا من الكهنوت. لا أريد أن أستثني من هذه الذكرى الممتنة هؤلاء الكهنة الذين أظهروا لي منذ طفولتي ما يضفي على وجه الراعي الصالح شكلًا، بحياتهم وشهادتهم. لقد تأمّلت في ما أشاركه في حياة الكاهن اليوم وتوصّلت إلى استنتاج مفاده أنّ أفضل كلمة تأتي من الشهادة التي تلقيتها من كهنة عديدين على مر السنين. إنّ ما أقدمه هو ثمرة ممارسة التفكير فيهم، والاعتراف والتأمّل في السمات التي ميزتهم ومنحتهم قوّة وفرحًا ورجاءً فريدًا في رسالتهم الرعويّة.
في الوقت نفسه، يجب أن أقول نفس الشيء عن هؤلاء الإخوة الكهنة الذين كان عليّ أن أرافقهم لأنّهم فقدوا نار حبّهم الأوّل، وأصبحت خدمتهم عقيمة ومتكررة وبلا معنى تقريبًا. يمرّ الكاهن بظروف ولحظات مختلفة في حياته. شخصيًا، مرّرت بظروف مختلفة ولحظات مختلفة، وعندما ”اجتررت“ حركات الرّوح وجدت أنّه في بعض الحالات، بما في ذلك لحظات التجربة والصّعوبة والدّمار، عندما كنت أعيش وأشارك في الحياة بطريقة معينة، بقي السّلام في داخلي. إنّني أدرك أنّه يمكن أن نتكلّم وننظِّر كثيرًا في الكهنوت، وأودّ اليوم أن أشارككم هذا ”الحصاد الصغير“ حتى يتمكّن كاهن اليوم، مهما كانت اللحظة التي يمر بها، من أن يعيش السّلام والخصوبة اللذين يريد الرّوح أن يمنحهما. لا أعرف إن كانت هذه التأملات هي ”أغنية البجع“ (أي آخِر التأملات في الكهنوت) في حياتي الكهنوتية، ويمكنني أن أؤكد أنّها صادرة عن خبرتي. ليست نظريات، أنا أتكلّم عما عشته.
الوقت الذي نعيشه هو وقت يطلب منا ليس فقط أن نعارض التغيير، بل أن نستقبله مع الوعي بأنّنا نجد أنفسنا أمام تغيير العصر – لقد كرّرت هذا من قبل عدة مرات. إن كانت لدينا شكوك حول هذا الأمر، فقد جعله الكوفيد Covid أكثر من واضح: في الواقع، إنّ اقتحامه لعالمنا هو أكثر بكثير من مجرد مسألة صحيّة، أكثر بكثير من مجرد زكام.
التغيير يضعنا دائمًا أمام طرق مختلفة لمواجهتها. المشكلة هي أنّ العديد من الأفعال والمواقف يمكن أن تكون مفيدة وجيدة ولكن ليس كلّ منها يدخل في إطار الإنجيل. وهنا لُبُّ القضية: التغيير والعمل اللذان يمكنهما أو لا يمكنهما أن يدخلونا في إطار الإنجيل، علينا أن نميّز ذلك. مثلًا، البحث عن النماذج المشفرة، غالبًا ما تكون مرتبطة بالماضي والتي ”تضمن“ لنا نوعًا من الحماية من المخاطر، فنلجأ إلى عالم أو إلى مجتمع لم يعد موجودًا (ولربما لم يوجد قط)، كما لو كان هذا النظام المحدّد قادرًا على أن يضع حدًّا للصراعات التي يقدّمها لنا التاريخ. إنّها أزمة العودة إلى الوراء لنجد الملجأ الأمين.
قد يكون الموقف الآخر هو موقف التفاؤل الغاضب – ”سيكون كلّ شيء على ما يرام“ -، نذهب بعيدًا بدون تمييز وبدون اتخاذ القرارات اللازمة. هذا التفاؤل ينتهي بتجاهل جرحى هذا التحوّل ويفشل في مواجهة التوترات والتعقيدات والغموض السائدة في الوقت الحاضر و ”يكرّس“ آخر ما هو جديد على أنّه الحقيقة، وبالتالي يستخف بحكمة السنين. (هناك نوعان من الهروب، هما موقفا الأجير الذي يرى الذئب قادمًا فيهرب: يهرب إلى الماضي أو يهرب إلى المستقبل). لا يؤدّي أي من هذين الموقفين إلى حلول ناضجة. الواقع كما هو اليوم، يجب أن نتوقف هناك، عند ما هو الواقع اليوم.
بدلاً من ذلك، يعجبني الموقف الذي ينشأ من الثقة في تولي مسؤولية الواقع، الراسخ في تقليد الكنيسة الحكيم الباقي والحيّ، والذي يمكنه أن يسمح لنا بأن نسير في عُرض البحر دون خوف. أشعر أنّ يسوع، في هذه اللحظة التاريخيّة، يدعونا مرة أخرى إلى ”أن نسير في عُرض البحر“ (راجع لوقا 5 ، 4) بثقة على أنّه ربّ التاريخ وأنه، بتوجيه منه، سنكون قادرين على تمييز الآفاق التي نريد الوصول إليها. خلاصنا ليس خلاصًا معقمًا، صادرًا من مختبر، لا، أو من روحانيات بلا جسد – هناك دائمًا تجربة الغنوصية، وهي حديثة، وهي حاضرة -، إن تمييز مشيئة الله يعني أن نتعلّم كيف نفسِّر الواقع بعيون الله، دون الحاجة إلى أن نهرب مما يحدث لشعبنا حيث يعيش، ودون القلق الذي يقودنا إلى أن نبحث عن مخرج سريع ومطمئن ومسترشِدٍ بأيديولوجيا مرحليّة، أو من جواب ”مجهَّز“ من قبل، فكلاهما غير قادرين على تحمّل مسؤولية أصعب اللحظات وأحلكها في تاريخنا. يقودنا هذان الطريقان إلى أن ننكر ”تاريخنا، تاريخ الكنيسة، الذي هو تاريخ مجيد لأنّه تاريخ تضحيات، ورجاء، وجهاد يومي، وحياة مستنفدة في الخدمة، وثبات في العمل الشاق“ (الإرشاد الرسولي، البشارة بالإنجيل، Evangelii gaudium 96).
في هذا السياق، تتأثر الحياة الكهنوتية أيضًا من هذا التحدي، يظهر ذلك في أزمة الدعوات التي ابتليت بها جماعاتنا في أماكن مختلفة. ومع ذلك، فمن الصحيح أيضًا أنّ هذا يرجع غالبًا إلى غياب الحماسة الرسوليّة المعدية في الجماعات، فلا تحمل على الحماس، ولا تثير الانجذاب إليها: الجماعات التي تؤدي وظيفة، مثلًا، فهي منظمة بشكل جيّد ولكن بدون حماس، كلّ شيء منظم، لكن تنقص نار الرّوح. حيث توجد حياة وحماسة ورغبة في تقديم المسيح للآخرين، تنشأ دعوات عفويّة. حتى في الرعايا حيث الكهنة ليسوا شديدي الالتزام وليسوا فرحين، فإنّ الحياة الأخويّة وحماسة الجماعة هي التي تثير الرغبة في تكريس النفس كاملة لله وللبشارة بالإنجيل، خاصة إن كانت هذه الجماعة الحيّة تصلّي بإلحاح من أجل الدعوات ولديها الشجاعة لأن تقدّم لشبابها مسيرة تكريس خاصة. عندما نقع في روح الوظيفة، والتنظيم الرعوي – هذا فقط – هذا لا جاذبية فيه، ولكن عندما يكون هناك كاهن أو جماعة لديها هذا الحماس المسيحي، المتأصِّل في المعمودية، إذَّاك تظهر الجاذبية للدعوات الجديدة.
حياة كاهنٍ هي أوّلًا قصة خلاص إنسانٍ معمَّد. ميَّزَ الكاردينال Ouellet بين كهنوت الخدمة وكهنوت المعمودية. ونحن ننسى أحيانًا كهنوت المعمودية، ويصبح الكاهن كأنّه في وظيفة: الكهنوت وظيفة، وهذا أمرٌ خطير. يجب ألّا ننسى أبدًا أنّ كلّ دعوة، بما في ذلك الدعوة إلى الرهبنة، هي إتمام للمعمودية. إنّها دائمًا تجربة كبيرة أن نعيش الكهنوت بدون المعمودية – وهناك كهنة في هذه الحالة، غير متأصلين ”في المعمودية“ -، أي بدون ذاكرة أنّ دعوتنا الأولى هي دعوة إلى القداسة. أن نكون قديسين يعني أن نتفق مع المسيح وأن نترك حياتنا تنبض بمشاعره (راجع فيلبي 2، 15). عندما نحاول أن نحبّ كما أحبّ يسوع، نجعل الله مرئيًا أيضًا وبالتالي ندرك دعوتنا إلى القداسة. لقد ذكّرنا القدّيس يوحنا بولس الثاني بحقّ أنّ “الكاهن، مثل الكنيسة، يجب أن ينمو في الوعي لحاجته الدائمة إلى أن يُبشَّرَ هو نفسُه” (الإرشاد الرسولي، أُعْطيكُم رُعَاة Pastores dabo vobis، 25 آذار/مارس 1992، 26). ولو قلنا اليوم لبعض الأساقفة، وبعض الكهنة أنّهم يجب أن يكونوا هم مبشَّرين… إنّهم لا يفهمون. وهذا ما يحدث، إنّها مأساة اليوم.
يجب أن تخضع كلّ دعوة محددة لهذا النوع من التمييز. دعوتنا هي أوّلاً وقبل كلّ شيء جواب لمن أحبّنا أوّلاً (راجع 1 يوحنا 4، 19). وهذا هو ينبوع الرّجاء لأنّ الرّبّ يسوع، حتى في وسط الأزمة، لا يتوقف عن حبّنا، وبالتالي عن دعوتِنا. وكلّ منا شاهد على هذا: وجدنا الرّبّ يسوع يومًا حيث كنا وكما كنا، في بيئات متناقضة أو في ظروف عائلية معقدة. أحبّ، أنا، أن أقرأ من جديد سفر حزقيال فصل 16 وأطبقه على نفسي: لقد وجدني هنا، ووجدني هكذا، وحملني إلى الأمام… لكن هذا لم يبعده عن الرغبة في أن يكتب تاريخ الخلاص من خلال كلّ واحد منا. منذ البداية كان الأمر كذلك – لنفكّر في بطرس وبولس ومتى…، على سبيل المثال لا الحصر -. اختيارهم لا ينبع من خيار مثالي ولكن من التزام عملي مع كلّ منهم. كلّ واحد، بالنظر إلى إنسانيته، وتاريخه الخاص، وطبعه الخاص، يجب ألّا يسأل نفسه هل كان الاختيار نحو الدعوة مناسبًا أم لا، بل أن يسأل نفسه هل هذه الدعوة تكشف بداخله عن إمكانيات الحبّ التي تلقيناها في يوم معموديتنا.
خلال أوقات التغيير، الأسئلة التي يجب مواجهتها كثيرة، والتجارب أيضًا. لذلك، في مداخلتي هذه، أودّ ببساطة أن أتوقف عندما أراه حاسمًا لحياة الكاهن اليوم، فأتذكّر ما قاله بولس: “فيه – أي في المسيح – يُحكَمُ البِناءُ كُلُّه وَيرتَفِعُ لِيَكونَ هَيكلاً مُقدَّسًا في الرَّبّ” (أفسس 2، 21). أن ”يُحكَمَ البناء“ يعني أن يَنمُوَ في انسجام، وأن يَنمُوَ في انسجام، الرّوح القدس هو وحده الذي يستطيع أن يفعل ذلك، بحسب التعريف الجميل الذي قدّمه القدّيس باسيليوس: الرّوح هو نفسه الانسجام ”Ipse harmonia est“، العدد 38 من الرسالة [في الرّوح القدس]. لذلك فكّرت في أنّ كلّ بناء يحتاج إلى أساس متين لكي يبقى قائمًا. لهذا أريد أن أشارك المواقف التي تعطي صلابة لشخص الكاهن، أريد أن أشارك – لقد سمعتم عن ذلك من قبل، لكني أكرّره مرة أخرى – والأعمدة الأربعة المكوّنة لحياتنا الكهنوتية والتي سنسميها أساليب ”القرب الأربعة“، لأنّها تتبع أسلوب الله، الذي هو بالأساس ”القرب من خليقته“ (راجع تثنية الاشتراع 4، 7). هو نفسه عرّف نفسه للناس كما يلي: ”قولوا لي، من هو الشعب الذي له آلهته أقرب مما تكون إليّ؟“. أسلوب الله هو القرب، وهو قرب خاص ورحيم وحنون. هذه الكلمات الثلاث تحدّد حياة الكاهن والمسيحي أيضًا، لأنّها مأخوذة من أسلوب الله الذي هو: القرب والرحمة والحنان.
لقد أشرت إليها من قبل في الماضي، ومع ذلك، أودّ اليوم أن أتوقف عندها بطريقة أوسع، لأنّ الكاهن، أكثر من وصفات أو نظريات، يحتاج إلى أدوات عمليّة يواجه بها خدمته ورسالته وحياته اليوميّة. حثّ القديس بولس طيموتاوس على أن يحفظ حيّة هبة الله التي نالها من خلال وضع يدَيه، وهي ليست روح الخوف، بل روح القوّة والمحبّة والفِطنة (راجع 2 طيموتاوس 1، 6-7). أعتقد أنّ أعمدة ”القرب“ الأربعة التي سأتكلّم عنها الآن يمكن أن تساعد بطريقة عملية وملموسة ومفعمة بالأمل في إحياء الهبة والخصوبة التي وُعدنا بها ذات يوم، وفي الحفاظ على تلك الهبة حيّة.
أوّلًا القرب من الله. أربعة أنواع من القرب، الأوّل هو القرب من الله.
القرب من الرّبّ
أي القرب من الإله القريب. “أنا الكَرْمةُ وأَنتُمُ الأَغصان – هذا عندما تكلّم يوحنا في الإنجيل على ”الثبات“ -. فمَن ثَبَتَ فيَّ وثَبَتُّ فيه فَذاكَ الَّذي يُثمِرُ ثَمَراً كثيراً لأَنَّكُم، بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً. مَن لا يَثْبُتْ فيَّ يُلْقَ كالغُصنِ إِلى الخارِجِ فَيَيْبَس فيَجمَعونَ الأَغْصان وَيُلْقونَها في النَّارِ فَتَشتَعِل. إِذا ثَبَتُّم فيَّ وثَبَتَ كَلامي فيكُم فَاسأَلوا ما شِئتُم يَكُنْ لَكم” (يوحنا 15، 5-7).
الكاهن مدعو أوّلًا إلى تنمية هذا القرب، الصّلة الحميمة مع الله، ومن هذه العلاقة سيكون قادرًا على أن يستمدَّ كلّ القِوى اللازمة لخدمته. العلاقة مع الله، إن صحّ التعبير، هي تطعيم يبقينا ضمن رباطٍ خصب. بدون علاقة ذات معنى مع الله، سيكون مصير خدمتنا عقيمًا. القرب من يسوع، والتواصل مع كلمته، يسمح لنا بأن نقارن حياتنا بحياته وأن نتعلّم ألّا نتشكك ونعثر لأي شيء يحدث لنا، بل بأن ندافع عن أنفسنا أمام الشكوك والعثرات. كما كان الحال بالنسبة للمعلّم، سوف تمرون بلحظات من الفرح والاحتفالات بالأعراس، والمعجزات والشفاءات، وتكثير الأرغفة والراحة. ستكون هناك أوقات يمكِن أن تُمدَحوا فيها، ولكن ستكون هناك أيضًا ساعات من الجحود والرفض والشك والعزلة، لدرجة تضطرون إلى القول: “إِلهي، إِلهي، لِماذا تَرَكْتني؟” (متى 27، 46).
القرب من يسوع يدعونا إلى عدم الخوف من أي من هذه الساعات – ليس لأنّنا أقوياء، بل لأنّنا ننظر إليه، ونتشبث به ونقول له: “يا ربّ، لا تسمح لي بأن أقع في تجربة! دعني أفهم أنّني أعيش لحظة مهمة في حياتي وأنّك معي لتختبر إيماني وحبّي” (مارتيني، لقاء مع الرّبّ القائم من بين الأموات، دار نشر القديس بولس، 102 / C.M. Martini, Incontro al Signore Risorto, San Paolo, 102). يأخذ هذا القرب من الله أحيانًا شكل صراع: صراع مع الرّبّ خاصة في اللحظات التي يكون فيها غيابه محسوسًا في حياة الكاهن أو في حياة الأشخاص الموكلين إليه. نصارع طوال الليل ونطلب بركته (راجع تكوين 32، 25-27)، التي ستكون ينبوع حياة للكثيرين. في بعض الأحيان هناك صراع. قال لي كاهن يعمل هنا في الكوريا – إنّه مُكَلَّفٌ بعمل صعب، أن يضع نظامًا في مكان ما، هو شاب – قال لي إنّه يعود متعبًا، يعود متعبًا ولكنّه يستريح قبل الذهاب إلى الفراش أمام سيّدتا مريم العذراء والمسبحة في يده. كان بحاجة إلى هذا القرب. يعمل في الكوريا، وهو موظف في الفاتيكان. يتعرض العاملون في الكوريا للانتقاد كثيرًا، قد يكون انتقاد على حقّ في بعض الأحيان، لكن يمكنني أيضًا أن أقول وأشهد أنّه هنا في داخل الكوريا هناك أيضًا قديسون، هذا صحيح.
أزمات كهنوتية عديدة ترجع أصولها إلى ندرة حياة الصّلاة، وعدم وجود صلة حميمة مع الرّبّ، وحصر الحياة الروحية في مجرد ممارسات دينية. أريد أن أنبّه على هذا التمييز أيضًا في مرحلة التنشئة: الحياة الروحية شيء، والممارسات الدينية شيء آخر. قد تسأل: ”كيف هي حياتك الروحية؟“ – ويكون الجواب: ”ممتازة. أنا أقوم بالتأمل في الصباح، وأصلّي المسبحة، وأصلّي الفرض. هذا كلّ شيء… أتمِّمُ كلّ شيء“. لا، هذه ممارسات دينية. لكن كيف هي حياتك الروحية؟ أتذكّر لحظات مهمة في حياتي كان فيها هذا القرب من الرّبّ حاسمًا في مساندتي، في مساندتي في اللحظات الحالكة. بدون الصّلاة الحميمة، والحياة الروحية، والقرب الملموس من الله من خلال الاصغاء إلى الكلمة، والاحتفال الإفخارستي، وصمت السجود، واستيداع أنفسننا إلى مريم، ومرافقة مرشد حكيمة، وسرّ المصالحة، بدون كلّ ”القرب“ هذا، الكاهن، إن صحّ التعبير، مجرد عامل مُتعب لا يتمتع بفوائد أصدقاء الرّبّ. في الأبرشية الأخرى أحببت أن أسأل الكهنة: ”قولوا لي – وكانوا يحدثونني عن عملهم – قل لي، كيف تذهب إلى الفراش؟“. لم يفهموا. ”نعم نعم، كيف تذهب إلى الفراش في الليل؟“ – ”أصل متعبًا، وأتناول لقمة وأخلد إلى الفراش، وأمام الفراش التلفاز…“ – ”جيد! ألّا تمر أمام الرّبّ، على الأقل لتقول له ليلة سعيدة؟“. هذه هي المشكلة. ينقص القرب. من الطبيعي التعب من العمل والذهاب للراحة ومشاهدة التلفاز، وهو أمر جائز، لكن بدون الرّبّ، بدون هذا القرب؟ كان قد صلّى مسبحة الوردية، وصلّى صلاة الساعات، ولكن من دون الصّلة الحميمة مع الرّبّ. لم يشعر بالحاجة إلى أن يقول للرّبّ: ”مرحبا، أراك غدًا، شكرًا جزيلاً!“. إنّها حركات صغيرة تكشف موقف الرّوح الكهنوتية.
في كثير من الأحيان، مثلًا، تُمارس الصّلاة في الحياة الكهنوتية فقط كواجب، وننسى أنّ الصّداقة والمحبّة لا يمكن فرضهما كقاعدة خارجية، بل هي اختيار أساسي لقلوبنا. الكاهن الذي يصلّي يبقى، عند أصوله، مسيحيًا يفهم تمامًا الهبة التي نالها في المعمودية. الكاهن الذي يصلّي هو ابنٌ يتذكّر باستمرار أنّه ابنٌ وله أبٌ يحبّه. الكاهن الذي يصلّي هو ابنٌ يقترب من الرّبّ.
لكن كلّ هذا صعب إن لم تكن معتادًا على وجود مساحات صمت في النهار. وإن لم تعرف كيف تتخلى عن ”عمل“ مارتا لتتعلّم ”المكوث“ مثل مريم. من الصعب أن تتخلى عن كثرة النشاطات – في كثير من الأحيان يمكن أن يكون النشاط مهربًا -، لأنّه عندما تتوقّف عن الانشغال، لا يأتي السّلام فورًا إلى قلبك، بل يأتي الإحباط، ولكي لا ندخل في الإحباط، علينا ألّا نتوقف أبدًا. العمل هو إلهاء حتى لا نقع في الإحباط. لكن الإحباط يشبه إلى حد ما نقطة اللقاء مع الله. ومن خلال قبول الإحباط الذي يأتي من الصمت، والامتناع عن الأنشطة والكلمات، ومن الشجاعة لفحص أنفسنا بإخلاص، بالتحديد هناك، فإنّ كلّ شيء يستمدّ النور والسّلام اللذين لم يعودا يعتمدان على قوتنا وقدراتنا. فنتعلّم أن نسمح للرّبّ بأن يستمر في تحقيق عمله في كلّ واحد وتقليم كلّ ما هو غير خصب وعقيم ويشوّه الدعوة. المثابرة على الصّلاة لا تعني فقط أن نبقى مخلصين لممارسة ما: إنّها تعني ألّا نهرب عندما تقودنا الصّلاة بالتحديد إلى الصحراء. الطريق إلى الصحراء هو طريق يقودنا إلى الصّلة الحميمة مع الله، بشرط، مع ذلك، ألّا نهرب، وألّا نجد طرق للهروب من هذا اللقاء. وفي الصحراء قال الله لشعبه على لسان هوشع النبي: ”سأُخاطِبُ قَلبَه“ (راجع 2، 16). هذا أمر يجب على الكاهن أن يسأل نفسه عنه: إن كان قادرًا على أن يسمح لنفسه أن تذهب إلى الصحراء. يجب على المرشدين الروحيّين، الذين يرافقون الكهنة، أن يفهموا ويساعدوهم ويطرحوا عليهم هذا السؤال: هل تستطيع أن تترك نفسك تذهب إلى الصحراء؟ أم تذهب مباشرة إلى واحة التلفاز أو إلى شيء آخر؟
القرب من الله يسمح للكاهن بالتواصل مع الألم الذي في قلوبنا والذي يجردنا من سلاحنا إلى درجة جعل اللقاء ممكنًا، إن تم قبوله. الصّلاة التي تحيي الحياة الكهنوتية، مثل النار، هي صرخة قلب محطم وذليل، لا يزدريه الله – كما تقول لنا الكلمة – (راجع مزمور 51، 19). “صَرَخوا والرَّبّ سَمِعَهم ومِن جَميعِ مَضايِقِهم أَنقَذَهم. الرّبّ قَريب مِن مُنكَسِري القُلوب ويُخَلّصُ مُنسَحِقي الأرْواح” (مزمور 34، 18-19).
يجب أن يكون للكاهن قلبٌ ”كبير“ بما يكفي ليكونَ فيه مكانٌ يتَّسعُ لألمِ الشعبِ الموكولِ إليه، وليكونَ، في الوقت نفسه، الحارسَ الذي يُؤْذِنُ ببُزوغ فجرِ نعمةِ الله التي تتجلَّى في هذا الألم. معانقةُ حالةِ شقائِنا، وقبولُها ووضعُها أمام الله، هي أفضلُ مدرسة ليتعلَّمَ الكاهن، شيئًا فشيئًا، ويقدرَ أن يجعلَ في نفسه مكانًا لكلِّ الشقاء والألمِ الذي يَلقاه كلَّ يوم في خدمتِه، يجبُ أن يُصبِحَ هو نفسُه مثلَ قلبِ المـسيح. وهذا يُعِدُّ الكاهنَ لقربٍ آخَر: القربِ من شعبِ الله. في القربِ من الله يزيد قربُ الكاهن من شعبِه. والعَكس صحيح، فإنَّ قربَه من شعبِه يزيدُه قربًا من ربِّه. وهذا القرب من الله – يلفت انتباهي – هو مهمة الأساقفة الأولى، لأنّه عندما ”أنشأ“ الرسل الشمامسة، شرح بطرس مهمتهم وقال ما يلي: ”وبالنسبة لنا – للأساقفة – الصّلاة وتبشير الكلمة“ (راجع أعمال الرسل 6، 4). أي أنّ مهمة الأساقفة الأولى هي الصّلاة، وهذه أيضًا هي مهمة الكاهن الأولى: أن يصلّي.
كان يوحنا المعمدان يقول: “لا بدَّ له من أن يَكبُر. ولا بدَّ لي من أن أصغُر” (يوحنا 3، 30). الصّلة الحميمة مع الله تجعلُ هذا أمرًا ممكنًا، لأنّه يختبرُ في الصّلاة أنه كبيرٌ في عينَيْ الله، ومن ثَمَّ لم تعُدْ مشكلة للكهنة القريبين من الله أن يصبحوا صغارًا في عيونِ العالم. وفي هذا القرب، لم يعد مخيفًا التشبُّهُ بيسوع المصلوب، كما يُطلب منا في طقس الرسامة الكهنوتيّة، الذي هو جميل جدًا ولكن غالبًا ما ننساه.
لننتقل إلى القرب الثاني، الذي سيكون أقصر من الأوّل.
القرب من الأسقف
مدَّةَ فترة طويلة، تمَّ فَهمُ هذا القُربُ الثاني من جانب واحد فقط. ككنيسة في كثير من الأحيان، وحتى اليوم، أعطينا الطاعة تفسيرًا بعيدًا عن الحس الإنجيلي. الطاعة ليست صفة تأديبية بل هي أقوى علامة تعبِّرُ عن الروابط التي توحِّدنا في الشّرِكة. الطاعة، هنا الطاعة للأسقف، تعني أن نتعلَّمَ الاصغاء وأن نتذكَّرَ أنّه لا يمكن لأحد أن يدَّعي أنَّه مَالِكٌ لإرادةِ الله، وأنّها تُفهَمُ فقط بالتميِيز والحكمة. الطاعة هي الاستماعُ إلى إرادةِ الله، وهي التي تُفهَم على أنّها رباط. وموقفُ الإصغاءِ هذا يسمح بأن نطوِّر الفكرة: أنّه لا أحد وحده هو مبدأ وأساس الحياة، لكن على كلّ واحد أن يقارِنَ نفسه مع الآخرين. إنّ منطق القرب هذا – في هذه الحالة، مع الأسقف، ولكنّه ينطبق أيضًا على الآخرين – يمكِّنُنا من مقاومةِ كلِّ إغراءات الانغلاق والتبرير الذاتي، وأن نصنعَ لنا حياة منكمِشة. عندما ينغلق الكهنة على أنفسهم، ينتهي بهم الأمر إلى حالة من الانكماش ”والحَرَد“. وهذا ليس لطيفًا. هذا القرب على العكس من ذلك، يدعونا هذا المنطق إلى مناشدة كيانات أخرى تساعدُنا لنجد الطريق الذي يؤدّي إلى الحقيقة وإلى الحياة.
الأسقف، ليس مراقبًا في مدرسة، وليس حارسًا، بل هو أب، وعليه أن يُشعِرَ بهذا القرب. يجب أن يحاول الأسقف أن يتصرف بهذه الطريقة لأنّه بخلاف ذلك يبعد عنه الكهنة، أو يقرِّب فقط الطموحين. الأسقف أيًّا كان، يبقى، لكلّ كاهن ولكلّ كنيسة خاصة، رباطًا يساعد على تمييز إرادة الله. لكن يجب ألّا ننسى أنّ الأسقفَ نفسه يمكن أن يكونَ أداةً لهذا التمييز، فقط إذا أصغَى هو أيضًا إلى واقعِ كهنتِه وشعبِ الله المقدّس الموكولِ إليه. كتبتُ في الإرشاد الرسولي، فرح الإنجيل (Evangelii gaudium): “نحن بحاجة إلى أن نتدرَّبَ في فنِّ الإصغاء، وهو أكثرُ من السمع. أوّلُ شيء، في التواصل مع الآخر، هو قدرة القلب التي تجعل القُربَ ممكنًا، وبدونه لا يوجَد لقاءٌ روحيٌّ حقيقيّ. يساعدُنا الإصغاءُ على تحديدِ الحركة والكلمةِ الصحيحة التي تُخرِجُنا من حالة المتفرِّجين الهادئة. فقط، بالبدءِ بهذا الإصغاء المليء بالاحترام والحنان، يمكن وجود طرقٍ للنُمُوّ، ويمكن إيقاظُ الرغبةِ في المَثَلِ الأعلى المسيحي، وإثارةِ القلقِ أيضًا للاستجابةِ الكاملةِ لمحبةِ الله، والرغبةِ في تطوير أفضلِ ما زرعَه الله في حياتنا” (رقم 171).
ليس من قبيل الصدفة أنّ الشرّ، من أجل تدمير خصوبة عمل الكنيسة، يسعى إلى تقويض الروابط التي تكَوِّنُنا. الدفاع عن روابط الكاهن بالكنيسة الخاصة، مع المؤسسة التي ينتمي إليها ومع الأسقف يجعل الحياة الكهنوتيّة تُوحِي بالثقة. الدفاع عن الروابط. الطاعةُ هي الخيارُ الأساسي للترحيب بمَن هم أمامنا كعلامة ملموسةٍ لسِرّ الخلاص الشامل الذي هو الكنيسة. هي طاعةٌ يمكن أن تكون أيضًا مقارنة، وإصغاء، وأحيانًا توتُّرًا، لكنّها لا تقطع الرابط. وهذا يقتضي بالضرورة أن يصلّي الكهنة من أجل الأساقفة وأن يعرفوا كيف يعبّرون لهم عن آرائهم باحترام وشجاعة وصدق. كما يتطلَّبُ أيضًا تواضعًا من الأساقفة والقدرة على الإصغاء ونَقدِ الذات، والسماحِ للغير بالمساعدة. إن دافعنا عن هذا الرباط، سنتقدَّم في طريقنا بأمان.
أعتقد أن هذا كافٍ فيما يتعلق بالقرب من الأسقف.
القرب بين الكهنة
إنّه القرب الثالث. القرب من الله، والقرب من الأساقفة، والقرب من الكهنة. ينطلق هذا القرب الثالث، وهو القرب الأخوي، من الشركة مع الأسقف. يُظهِر يسوع نفسه حيث يوجد إخوة مستعدون لأن يُحِبُّوا بعضهم بعضًا: “حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، كنت بينهم” (متى 18، 20). الأخُوّة، مثلُ الطاعة، لا يمكن أن تكون فرضًا أخلاقيًا يُفرَضُ علينا من الخارج. الأخُوّة هي خيار طَوعِيّ نَسعَى به لأن نكون قديسين مع الآخرين، وليس معزولين عنهم، بل قديسين مع الآخرين. يقول مثل أفريقي: ”إذا أردت أن تمضي بسرعة، فاذهب وحدك؛ إذا كنت تريد أن تذهب بعيدًا، فاذهب مع الآخرين“. يبدو أحيانًا أنّ الكنيسة بطيئة – وهذا صحيح – لكني أحبّ أن أعتقد أنّ هذا هو بطء الذين قرَّرُوا أن يسيروا مثلَ الإخوة. وأيضًا مرافقة الأخيرين، ولكن دائمًا في الأخوّة.
صفات الأخُوّة هي صفات المحبّة. لقد ترك لنا القديس بولس، في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس (الفصل 13) ”خريطة“ واضحة للمحبّة وأظهر لنا، بمعنى ما، ما يجب أن تهدف إليه الأخُوّة. أوَلًا، نتعلّم الصبر، وهو القدرة على الشعور بأنّنا مسؤولون عن الآخرين، وعلينا أن نحمل أثقالهم، وأن نتألَّم معهم. نقيض الصبر هو اللامبالاة، المسافة التي نبنيها بيننا وبين الآخرين حتى لا نشعر بأننا مَعنِيُّون بحياتهم. قد تبلغ مأساة الوَحدة قِمّتَها، في كثيرٍ من الكهنة، فيشعرون بأنّهم وحدَهم. يشعرون أنّهم لا يستحقون الصبر والاعتبار. بل يبدو لهم أنّ الآخرين يحكمون عليهم. بدلًا من معاملتِهم بالحُسنَى وباللطف. الآخر غير قادر على الفرح بالخير الذي يصيبنا في الحياة، أو أنا أيضًا غير قادر على ذلك عندما أرى الخير في حياة الآخرين. هذا العجز غير القادر على الفرح بخير الآخرين، هو الحسد، الذي يعذِّبنا في حالات كثيرة وهو أمرٌ مُرهِق في تربية الحُبّ، وليس مجرد خطيئة نعترف بها. الخطيئة هي آخر شيء، وهي موقف الحاسد. الحسد حاضر جدًا في الجماعات الكهنوتية. وتقول لنا كلمة الله إنّ هذا هو الموقف الهدام: من خلال حسد إبليس دخلت الخطيئة إلى العالم (راجع حكمة 2، 24). إنّه الباب، باب الدمار. وفي هذا يجب أن نتكلّم بوضوح، بين كهنتنا يوجد حسد. ليس الجميع حسودين، لا، لكن التجربة قريبة والحسد في متناول اليد. لنكن متنبهين. ومن الحسد تأتي الثرثرة.
لكي نشعر بأنّنا جزء من جماعة المؤمنين، لكي ”نكون نحن“، جماعةً، لا داعي لارتداء أقنعة تُعطِي عنا صورة المنتصرين. بعبارة أخرى، لسنا بحاجة إلى التباهي، ولا أن نضخِّم أنفسنا، أو أسوأ من ذلك، لسنا بحاجة إلى ادّعاء مواقف عنيفة، وعدم احترام لمن حولنا. هناك مواقف إكليريكية فيها اعتداء أو تسلّط. مع أنّ الكاهن، إن كان له ما يفتخر به، فهو رحمة الله. إنّه يعرف خطيئة نفسه وشقاءه وحدوده، لكنّه اختبر أيضًا أنّه حيث كثُرَت الخطيئة، كثُرَت المحبّة (راجع رومة 5، 20)؛ وهذا أوّل أخباره السارة. الكاهن الذي يضع هذا في ذهنه ليس حسودًا، لا يمكنه أن يكون حسودًا.
الحبّ الأخوي لا يبحث عن مصلحته الخاصة، ولا يترك مجالًا للغضب والاستياء، كأنّ الأخ الواقف في جانبي قد جرَّدَني من شيءٍ ما. وعندما أواجه شقاء الآخر، فأنا على استعداد ألّا أتذكَّر دائمًا الشرَّ الذي تلقيته منه، فلا أجعلُه معيارَ الحكم الوحيد، إلى درجة أنّي أفرح بالظلم الذي يحِلُّ بالشخص نفسه الذي أساء إليّ. المحبّة الحقيقيّة تفرح بالحق وتعتبر خطيئة جسيمة الاعتداء على الحقيقة وعلى كرامة الإخوة بالغِيبَة والافتراء والثرثرة. الأصل هو حسد. يمكن الوصول أيضًا إلى الافتراء، للوصول إلى مكان ما… وهذا أمر محزن جدًّا. عندما يتم طلب معلومات من هنا لترشيح شخص للأسقفية، فإننا نتلقى في كثير من الأحيان معلومات ”مريضة“ بالحسد. وهذا مرض في كهنتنا. كثير منكم منشّؤون في الإكليريكيات، خذوا ذلك بالحسبان.
ومع ذلك، بهذا المعنى لا يمكن السماح للاعتقاد بأنّ الحبّ الأخوي هو يوتوبيا، أو ”خيال عام“ لإثارةِ مشاعرَ حسَنة أو كلماتِ مجاملَة في خطابٍ مُطَمْئِن. لا. نحن نعلَم جميعًا كم هو صعب العيشُ في جماعة أو في الكهنوت – قال أحد القدّيسين: الحياة الجماعية هي عقابي-، ما مدى صعوبة مشاركةُ الحياةِ اليوميَّة مع أولئك الذين أرَدْنا الاعتراف بهم إخوة. المحبّة الأخويّة، إن لم نُرِدْ أن نجمِّلَها، ونقلِّلَ من معناها، وتكييفَها بحسب الظروف، هي ”النُّبوءَةُ الكبرى“ التي نحن مدعوون إلى عيشها في هذا المجتمع الذي يُقصِي الكثيرين. أُحِبُّ أن أفكِّر في الحبِّ الأخوي على أنّه حافز الرّوح، الرّوح الذي يدفع، حيث نواجِهُ أنفسَنا يومًا بعد يوم، ونجد فيه مقياسَ الحرارة لحياتنا الروحيّة. اليوم نُبُوءةُ الأخوّة ما زالت حيّة وتحتاج إلى من يبشِّر بها. تحتاج إلى أشخاص، يعرفون حدودَهم والصعوباتِ القائمةَ أمامهم، ويسمحون لأنفسهم بأن يتأثروا بكلمات الرّبّ، ويشعرون أنّها موجهة إليهم، فتحرِّكُهم: “بهذا سيعرف الجميع أنّكم تلاميذي: إن أحببتم بعضكم بعضًا” (يوحنا 13، 35).
المحبّة الأخويّة للكهنة لا تبقى منغلقة في مجموعة صغيرة، بل هي محبّة رعوية شاملة (راجع الإرشاد الرسولي، أُعْطيكُم رُعَاة Pastores dabo vobis، 23)، تدفع إلى عيشها عمليًّا في الرسالة. يمكننا أن نقول إنّنا نُحِبّ إذا تعلَّمْنا أن ننظُرَ إليها كما وصفَها القديس بولس. الذي يريدُ أن يُحِبّ هو وحده في أمان. أولئك الذين يعيشون وهم يحملون روح قايين، فيعتقدون أنّهم لن يقدروا أن يُحِبُّوا لأنّهم لم يجدوا الحُبّ، ولا الاعتبارَ ولا التقديرَ اللازم، هؤلاء سيعيشون في النهاية دائمًا مثل المشرَّدين، دون أن يشعروا أبدًا أنّهم في بيتهم، ولهذا السبب فهم أكثر عُرضَةً للشرّ: لأن يُسيئوا إلى أنفسهم وإلى غيرهم. لهذا السبب، عمل المحبّة بين الكهنة أن يسهروا بعضهم على بعض. سهر متبادل.
أذهب إلى أبعد من ذلك، وأقول: عندما يعيش الكهنة الأخُوّة الكهنوتيّة، القرب بين الكهنة، وتربطهم روابط صداقة حقيقيّة، من الممكن أيضًا أن يعيشوا خيار العزوبية بمزيد من الصفاء. العزوبية هي عطية تحافظ عليها حتى الآن الكنيسة اللاتينية، لكنّها عطية تتطلب، لكي نعيشها وتكون تقديسًا لنا، علاقات صحيّة وعلاقات احترام حقيقي وخير حقيقي تجد جذورها في المسيح. بدون أصدقاء وبدون صلاة، يمكن أن تصبح العزوبة عبئًا لا يُطاق وشهادة معاكسة لجمال الكهنوت.
نأتي الآن إلى القرب الرابع والأخير، القرب من شعب الله، من شعب الله المقدس والأمين. ومن المفيد أن نقرأ Lumen gentium، رقم 8 و 12.
القرب من الناس
شدَّدْتُ مرارًا عديدة على أنّ العلاقة مع شعب الله المقدّس ليسَت واجبًا علينا بل نعمة. “محبّة الناس قوّة روحيّة تساعد على مِلءِ اللقاء مع الله” (الإرشاد الرسولي، فرح الإنجيل Evangelii gaudium، 272). لهذا فإنّ مكان كلّ كاهن هو أن يكون مع الشعب، في علاقة قرب مع الشعب.
شدَّدْتُ في الإرشاد الرسولي، فرح الإنجيل، وقُلْت: “لكي نكونَ مبشِّرين يجب أن نطوِّر فينا الذوق الروحي، فنُحِبَّ البقاء قريبين من حياة الناس، إلى أن نكتشف أنّ هذا القرب يصير لنا مصدر فرح أسمى. الرسالة هي انشغاف بيسوع، وهي في نفس الوقت انشغاف بشؤون شعبه. عندما نتوقف أمام يسوع المصلوب، ندرك كلّ محبته التي تمنحنا الكرامة وتدعمنا، في تلك اللحظة نفسها، إن لم نكن عميانًا، نبدَأُ أن ندرك أن نظرة يسوع تتَّسِعٌ وتتوجَّه مليئةً بالمودّة والعاطفة إلى جميع شعبه الأمين. وهكذا نكتشف أنّه يريد أن يستخدِمَنا ليزدادَ قربًا من شعبه المحبوب. أراد يسوع أن يخدم الكهنة ليكونوا أكثر قربًا من شعب الله المقدس الأمين. فإنّه يأخذُنا من بين الناس ويُرسلُنا إلى الناس، ولا تُفهم هوِّيَّتُنا دون هذا الانتماء إلى الشعب” (المرجع نفسه، 268). لا يمكن فهم الهوية الكهنوتية دون الانتماء إلى شعب الله المقدس الأمين.
من أجل فَهمِ هوّيَة الكهنوت من جديد، أنا متأكِّد من أنّه من المهِمّ اليوم أن نعيش في علاقة وثيقة مع حياة الناس الواقعيّة، بجانبهم، دون أيّ طريق للهرب. “نشعر أحيانًا بالتجربة أنّنا نصبح مسيحيّين بالابتعاد والحذر من جِرَاحِ الرَّبّ. لكن يسوع يريدُنا أن نَلمَس الشقاء البشري، وأن نَلمَس جسدَ الآخَرين المتألّم. إنّه ينتظر مِنّا أن نتخلَّى عن البحث عن الملاجئ الشخصيّة أو الجماعيّة التي تسمح لنا بالبقاء بعيدين عن عقدة المأساة البشريّة، حتى نقبل حقًا التواصل مع حياة الآخرين الملموسة ونعرف قوّة الحنان. عندما نفعل ذلك، تزداد حياتا تعقيدًا لكن بصورة مدهشة ونعيش الخبرة المكثَّفة أنّنا شعب، خبرةَ انتمائنا إلى شعب” (المرجع نفسه، 270). والشعب ليس فئة منطقية، لا، بل فئة ”مُثُل“ ومثالية. لفهم هذا يجب علينا أن نقترب من الشعب كما ولو كنا نقترب من فئة ”مثالية“.
القُربُ من شعبِ الله، هو القُربُ الذي يغتنى مع سائر أنواعِ القرب، يَدعُو – بل يقتضي – الاستمرار في طُرَق الرّبّ، وهي طرق القرب والرحمة والحنان، لأنّه قادر على السير معنا لا قاضيًا بل بصفة السامرِيِّ الرحيم، الذي يرى جراحَ شعبه، والألمَ الذي يعيشُه بصمت، وإنكارَ الذات وتضحياتِ الكثير من الآباء والأمهات ليُسنِدوا عائلاتهم، ويرى أيضًا عواقبَ العنف والفساد واللامبالاة، التي تحاول عند مروره إسكاتَ كلِّ أمل. هو القربُ الذي يسمح بدهن الجراح وإعلان سنة نعمة من الرّبّ (راجع أشعيا 61، 2). من المهم أن نتذكّر أنّ شعب الله يأمل في العثور على رعاة يسيرون على نمط يسوع – وليس ”رجال دين في الدولة“ – لنتذكر تلك الحقبة في فرنسا: كان هناك كاهن بلدة آرس، كان كاهنًا، وكان هناك ”السيد رئيس الرعية”، وهو رجل دين في الدولة -. حتى اليوم، يطلب الشعب منا رعاة للشعب وليس رؤساء دين في الدولة أو ”محترفي الأمور المقدسة“ -؛ يريدون رعاةً يعرفون الرحمة والفرصةَ المتاحةَ لكُلّ خير؛ رجالًا شجعانًا قادرين على الوقوف أمام الجريح ومدِّ يدِهم إليه؛ رجالًا تأَمُليِّين، قريبين من شعبهم، يمكنهم أن يعلنوا لجراحِ العالم قوَّةَ القيامة الشافية.
من السمات الحاسمة لمجتمعنا، مجتمع ”شبكات التواصل“، أنّه يكثر الشعور باليُتم (الإنسان يتيم)، وهذه ظاهرة حالية. نحن مرتبطون بكلّ شيء وبالجميع، ونفتقر إلى خبرة الانتماء، الذي هي أكثر بكثير من مجرد اتصال. مع قُربِ الراعي، يمكن استدعاء الجماعة لتشجيعِ نُمُوِّ الشعورِ بالانتماء، الانتماء إلى شعبِ الله المقدس المؤمن، المدعُوّ ليكون علامةَ مجيءِ ملكوت الله في هذا اليوم من التاريخ. لكن إن ضلَّ الراعي، وذهب بعيدًا، تشتَّتَت الخراف أيضًا وصارت فريسة لكلّ ذئب.
هذا الانتماء، بدوره، سيوفِّرُ التِرياقَ ضد تَشوِيه الدعوة الذي ينشأ تحديدًا حين ننسى أن الحياة الكهنوتيّة هي واجبٌ للآخرين – لله وللناس الموكولين إلينا -. يكمن هذا النسيان في أساس ”روح السيطرة الإكليركية“ – التي تكلّم عليها الكاردينال Ouellet – وعواقبها. السيطرة الإكليركية هي شذوذ، وإحدى علاماته أيضًا، التشدّد، وهي شذوذ آخر. السيطرة الإكليركية هي شذوذ لأنّها تقوم على أساليب الابتعاد عن الناس وعن الله. وليس من القرب. عندما أفكِّر في السيطرة الإكليركية، أفكِّرُ أيضًا في محاولةُ إضفاءِ طابعَ السيطرةِ نفسِه على العلمانيّين: أي تكوينُ نُخبةٍ صغيرةٍ حولَ الكاهن، هذا أيضًا يؤدِّي إلى تشويه رسالة الكهنوت الأساسية (راجع ”فرح ورجاء“ Gaudium et spes, 44). لنتذكّر أنّ “الرسالة في وسط الشعب ليست شيئًا لي من حياتي، أو زُخرُفًا يمكنني أن أنزِعَه عنّي، أو مُلحَق، أو لحظَة من لحَظَات وجودي العديدة. بل هي شيء لا يمكنُ استئصالُه من كوني كاهنًا إن لم أرِدْ تدميرَ نفسي. أنا رسالة على هذه الأرض، ولهذا أنا في هذا العالم. يجب أن نعرف أنفسنا أنّنا مَوْسُومُون بالنار بهذه الرسالة، التي هي الإنارة، والبركة، ومنحُ الحياة، والتخفيف من الآلام، والشفاء، والتحرير” (الإرشاد الرسولي، فرح الإنجيل Evangelii gaudium، 273).
أوَدُّ أن أربِطَ بين هذا القرب من شعب الله والقربِ من الله، لأنّ صلاة الراعي تتغذّى وتتجسَّد في قلب شعب الله. عندما يصلّي الراعي فإنّه يحمل علاماتِ جِراحِ شعبِه وأفراحِه، التي يقدِّمُها بصمت إلى الله، حتى يمسَحَها بموهبة الروح القدس. إنّه رجاء الراعي الذي يثق بالرّبّ ويجتهدُ حتى يبارك الله شعبه.
قال القديس أغناطيوس: “ليست المعرفةُ الكثيرةُ هي التي تُشبِعُ النفسَ وتُرضِيها، بل الإحساسُ بالأمور وتذَوُّقُها في الداخل” (الرياضة الروحية، شروح، 2، 4 / Esercizi spirituali, Annotazioni, 2, 4). من الجيد أن يسأل الأساقفة والكهنة أنفسهم: ”كيف هي طرق قربي من الله ومن الشعب؟“ كيف أعيش هذه الأبعاد الأربعة التي تكوِّنُ كياني الكهنوتي وتجتازُه وتَسمَحُ لي بإدارةِ التوتُّرات والاختلالات التي نتعامل معها كلّ يوم. هذه الأبعاد الأربعة في ”القرب من الله والناس“ مدرسةٌ جيِّدة ”للُّعبِ في مَيدانٍ مكشوف“، حيث يُدعى الكاهن إلى العمل، بلا خوف، وبلا جمود، ودون تقليص أو إفقار للرسالة. يعرف القلب الكهنوتي القرب لأنّ الرّبّ هو أوَّلُ من أراد أن يكون قريبًا. آمَل أن يزورَ هو كهنتَه في الصّلاة، والأسقفَ والإخوة الكهنةَ وشعبَه. انفُضْ الرتابة وعَكِّرْ الأمورَ قليلاً، وسبِّبْ لنفسك القلق – كما في زمن الحبِّ الأوّل -، حرِّكْ كلَّ قَدُراتِك حتى تكون لشعبِنا الحياة، وتكونَ الحياةُ وافرة (راجع يوحنا 10، 10). طُرُقُ القربِ من الرَّبِّ ليست رسالةَ إضافية: بل هي عطية يقدِّمُها هو ليحفظَ الدعوةَ حيَّةً ومثمرة. القرب من الله، والقرب من الأسقف، والقرب بين الكهنة، والقرب من شعب الله المقدس الأمين.
أمام تجربة الانغلاق على أنفسنا في خطابات ومناقشات لا تنتهي حول لاهوت الكهنوت أو نظرِيَّاتٍ حول ما ينبغي أن يكون، ينظُرُ الرّبُّ بحنانٍ ورحمة ويقدِّمُ للكهنة ما يَلزَم حتى يَعرِفَ حماسَ الكهنوت ويُبقِيَه متَّقدًا بنارِ الرسالة: القرب، الذي هو رحمة وحنان، القرب من الله، ومن الأسقف، ومن الإخوة الكهنة، ومن الشعب الموكول إليهم. قربٌ مثلُ قرب الله، بطريقة الله، القريبِ بالرحمة والحنان.
وشكرًا لكم لقربكم وصبركم، شكرًا جزيلًا لكم! أتمنى لكم جميعًا عملًا جيدًا. سأذهب إلى مكتبي لأن لدي العديد من المواعيد هذا الصباح. صلّوا من أجلي وسأصلّي من أجلكم. عملًا موفقًا!
[البركة]
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2022
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana