vatican media

يهوديت. شباب مثير للإعجاب، وشيخوخة سخيّة

النص الكامل للمقابلة العامة مع المؤمنين يوم الأربعاء 12 أيار 2022

Share this Entry

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!

سنتكلّم اليوم على يهوديت، وهي شخصيّة رئيسيّة في الكتاب المقدّس. لخّصت الخاتمة في السّفر الذي يحمل اسمها – استمعنا إلى فقرة منه – الجزء الأخير من حياة هذه المرأة، التي دافعت عن إسرائيل أمام أعدائه. كانت يهوديت أرملة يهوديّة وشابّة فاضلة، وبفضل إيمانها، وجمالها ودهائها، أنقذت مدينة فَلْوى وشعب يهوذا من حصار أَليفانا، قائد جَيشِ نَبوكَدْنَصَّرَ ملك أَشُّور، والعدو المتسلّط والمُحتقر لله. وهكذا، بأسلوبها الماكر في التّصرف، كانت قادرة على أن تنهي حياة الديكتاتور الذي كان ضد بلدها. كانت المرأة هذه شجاعة، لكنّها كانت مؤمنة.

بعد المغامرة الكبيرة التي صوّرتها على أنّها شخصيّة رئيسيّة، عادت يهوديت لتعيش في مدينتها فَلْوى، حيث عاشت شيخوخة وقورة، وصلت إلى مائة وخمس سنوات. فقد حان وقت الشّيخوخة، بالنّسبة لها، كما هو الحال بالنّسبة لأشخاص كثيرين: أحيانًا بعد حياة مليئة من العمل، وأحيانًا بعد حياة مليئة بالمغامرات، أو بعد حياة مليئة بالتّفاني. ليست البطولة هي الأحداث الكبيرة التي تُسلَّط عليها الأضواء فقط، مثلًا بطولة يهوديت التي قتلت الديكتاتور. بل البطولة هي غالبًا في إصرار المحبّة المبذولة في عائلة صعبة ولصالح جماعة مهدّدة.

عاشت يهوديت أكثر من مائة سنة، وهذه نعمة خاصة. لكنّه ليس أمرًا نادرًا اليوم، أن نعيش سنوات كثيرة بعد مرحلة التّقاعد. كيف نفسّر، وكيف نستفيد من هذا الوقت المتوفّر لدينا؟ قد يقول قائلٌ: أنا سأتقاعد اليوم، وستمضي سنوات كثيرة، فماذا يمكنني أن أفعل في هذه السنوات، كيف يمكنني أن أنمو، بل كيف يمكنني أن أنمو في القدرة، وفي القداسة، وفي الحكمة؟

مفهوم التّقاعد يتفق، بالنّسبة للكثيرين، مع نظريّة الاستحقاق والرّغبة في الاستراحة من الأعمال المُلزِمة والمُتعِبة. لكن يحدث أيضًا أنّ نهاية العمل هي مصدر قلق ويرافقه بعض الخوف. فيقول البعض: ”ماذا سأفعل الآن بعد أن أصبحت حياتي خالية ممّا كان يملأها مدة فترة طويلة؟“. هذا هو السؤال. العمل اليومي يعني أيضًا مجموعة من العلاقات، والشعور بالرضى وبالارتياح لكسب لقمة العيش، والخبرة أن لنا دورًا في الحياة، ونستحق التقدير، وهو وقت مليء يتجاوز ساعات العمل العادية.

بالتأكيد، هناك الالتزام المُفرح والمُتعب في رعاية الأحفاد، واليوم يلعب الأجداد دورًا كبيرًا جدًّا في العائلة لمساعدة نمو الأحفاد، لكنّنا نعلم أنّ عدد الأطفال الذين يولدون اليوم أخذ يتناقص، والوالدون هم غالبًا بعيدون عن البيت، ومعرّضون للتنقّل، بسبب أوضاع العمل والسكن غير المناسبة. أحيانًا هم أيضًا متردّدون في أن يعطوا الأجداد مساحات للتّربية، فيمنحونهم فقط المساحات التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحاجة الأهل إلى المساعدة. وقال لي أحد ما وهو يبتسم قليلًا وبسخرية: ”اليوم، أصبح الأجداد، في هذا الوضع الاجتماعيّ والاقتصاديّ، أكثر أهميّة، لأن لديهم معاش التقاعد“. هناك احتياجات جديدة أيضًا في مجال العلاقات التربويّة والقرابة، التي تتطلّب منّا إعادة النظر في صورة العهد التّقليدي بين الأجيال.

لنسأل أنفسنا: هل نحن نبذل جهدًا لإعادة النظر وللتكيّف الجديد هذا؟ أم إنّنا نُعاني ببساطة من جمود الظّروف الماديّة والاقتصاديّة؟ في الواقع، زمن تواجد الأجيال معًا أخذ يطول. هل نحاول كلنّا معًا أن نجعل العلاقة بيننا أكثر إنسانيّة، وأصَحّ، وفيها مزيد من الحنان، في الظروف الجديدة للمجتمعات الحديثة؟ بالنّسبة للأجداد، فإنّ جزءًا مهمًّا من دعوتهم هو دعم أبنائهم في تربية الأطفال. يتعلّم الصّغار قوّة الحنيّة واحترام الضّعف، وهي دروس لا غنى عنها، يسهل نقلها وتلقيّها مع الأجداد. من جانبهم، يتعلّم الأجداد، أنّ الحنان والضّعف ليسا مجرد علامات تدهور، بل بالنّسبة للشّباب، هي خطوات تجعل المستقبل إنسانيًّا.

أصبحت يهوديت أرملة بسرعة وليس لديها أبناء، لكنّها، بصفتها امرأة كبيرة في السّنّ، ظلّت قادرة على أن تعيش فترة من الامتلاء والصّفاء، وهي مدركة أنّها عاشت بصورة كاملة الرسالة التي عهد بها الله إليها. بالنّسبة لها، لقد حان الوقت كي تترك ميراث الحكمة الصالحة، والحنان والهبات للعائلة والجماعة: إنّه ميراث خير وليس فقط ميراث خيرات ماديّة. عندما نفكر في الميراث، نفكر أحيانًا في الخيرات الماديّة، وليس في الخير الذي تمّ في سن الشّيخوخة والذي تمّ توريثه للآخرين، وهذا الخير هو أفضل ميراث يمكننا تركه.

يهوديت، في شيخوختها بالتّحديد، ”أعتقت وصيفتها“. إنّها علامة على نظرة متنبّهة وإنسانيّة تجاه الذين كانوا قريبين منها. كانت وصيفتها هذه قد رافقتها في وقت تلك المغامرة حتى تنتصر على الديكتاتور وتنهي حياته. عندما نكبر في السّنّ، نفقد قليلًا من قوّة نظرنا، لكن نظرنا الدّاخلي يزداد نفاذًا في الرؤية. ونصبح قادرين على رؤية أمورٍ لم نكن نراها من قبل. كبار السّنّ يعرفون كيف ينظرون ويعرفون كيف يرون… هذه هي الحال: لا يعهد الرّبّ يسوع مواهبه إلى الشّباب والأقوياء فقط: بل لديه مواهب للجميع، ومُصمّمة خصيصًا لكلّ واحد. يجب على حياة جماعاتنا أن تعرف كيف تتمتّع بالمواهب التي لدى كبار السّنّ الكثيرين، الذين هم تقاعدوا بحسب السّجلّ المدنيّ، لكنّهم ثروة يجب أن نقدّرها. هذا يتطلّب، من جانب كبار السّنّ أنفسهم، اهتمامًا خلّاقًا وجديدًا، وحضورًا سخيًا. فقدت مهارات الحياة الفعّالة السّابقة جزءًا من قيودها وأصبحت موارد للعطاء، منها: التّعليم، والمشورة، والبناء، والعلاج، والإصغاء… ولا سيّما للأشخاص الأقل حظًّا، الذين لا يقدرون أن يتعلّموا، أو الذين عُزِلوا وتُرِكوا في وحدتهم.

حرّرت يهوديت وصيفتها وغمرت الجميع بعنايتها. لما كانت شابة نالت تقدير الجماعة بشجاعتها. ولما صارت مُسِنَة، استحقّت هذا التّقدير، بحنانها الذي به أغنَت الحريّة والعواطف. ليست يهوديت امرأة متقاعدة عاشت فراغها بحزن، بل هي امرأة مسنّة شغوفة، ملأت الوقت الذي منحه الله إياه بالمواهب. أوصيكم: خذوا، في أحد هذه الأيام، الكتاب المقدس واقرؤوا سفر يهوديت: إنّه صغير، ويسهل قراءته، وهو مكوّن من عشر صفحات، لا أكثر. اقرؤوا هذه القصة عن امرأة شجاعة أنهت حياتها بهذه الطريقة، بالحنان والكرم، فقد كانت امرأة رفيعة المستوى. وهكذا أتمنى أن يكون جداتنا. أن يَكُنَّ جميعهن شجاعات وحكيمات، وألّا يَتْرُكْنَ لنا ميراثًا من المال، بل أن يَتْرُكْنَ لنا ميراثًا من الحكمة، ميراثًا مزروعًا في أحفادهن.

*******

 

قِراءَةٌ مِنْ سِفْرِ يهوديت (16، 21. 23-24)

وبعد تِلكَ الأَيَّام، رَجَعَ كُلُّ واحدٍ إِلى ميراثِه، وٱنصَرَفَت يَهوديتُ إِلى بَيتَ فَلْوى وأَقامَت في مِلكِها. وصارَت شَهيرةً في زَمَنِها في البَلَدِ كُلِّه. […] وكانَت تَزْدادُ عَظَمةً كُلَّما طَعَنَت في السِّنّ، وشاخَت في بَيتِ زَوجِها فبَلَغَت مائةً وخَمسَ سِنين. وأَعتَقَت وصيفَتَها. […] وقَبلَ وَفاتِها وَزَّعَت أَمْوالَها على جَميعِ أَقارِبِ زَوجِها مَنَسَّى وأَقارِبِ أُسرَتِها.

 

كلامُ الرَّبّ

*******

 

Speaker:

تَكلَّمَ قَداسَةُ البابا اليَوْمَ علَى يهوديت، الّتي تُمثّلُ الشَّبابَ المُثيرَ للإعجاب، والشّيخوخةَ السَخيّةَ المِعطاءَة، وَقال: كانت يهوديت أرملةً يهوديّة وشابّةً فاضلة، وَعاشت شيخوخةً وَقُورَة، وصلَت إلى مائةٍ وخمسِ سنوات. وهذه نعمةٌ خاصّة. وليس هذا أمرًا نادرًا اليوم أنْ نعيشَ سنواتٍ كثيرة بعدَ مرحلةِ التَّقاعُد. بالنِّسبَةِ للكثِيرين، مفهومُ التَّقاعُدِ يعني الاستحقاقَ والرّغبةَ في الاستراحةِ من الأعمالِ المُلزِمةِ والمُتعِبَة. لكن هناكَ أيضًا الالتزامَ المُفرِحَ والمُتعِبَ في رعايةِ الأحفاد. بالنِّسبَةِ للأجداد، فإنَّ جزءًا مهمًّا مِن دعوتِهِم هوَ دَعمُ أبنائِهِم في تربيةِ الأطفال. فيتعلَّمُ الصِّغارُ قوّةَ الحِنيَّةِ واحترامَ الضَّعف، وهيَ دروسٌ لا غِنَى عنها، يَسهَلُ نقلُها وَتَلَقِيها معَ الأجداد. ويتعلَّمُ الأجداد، أنَّ الحنانَ والضَّعفَ ليسا مجردَ علاماتِ تَدَهوُر، بل بالنِّسبَةِ للشَّباب، هيَ خطواتٌ تجعلُ المستقبلَ إنسانيًّا. وقالَ قداستُه: أصبحت يهوديت أرملةً بسرعةٍ ولم يكنْ لدَيها أبناء، ولكِنَّها بقيَت قادرةً مُدَةَ حياتِها على أن تعيشَ الرِّسالةَ الَّتي عَهَدَ بِها اللهُ إليها، فتركَت ميراثًا من الحِكمَةِ والحنانِ والهِباتِ للعائلةِ والجماعة. لم تكنْ يهوديت امرأةً مُتقاعِدَةً عاشت فراغَها بحُزن، بل كانت امرأةً مُسِنَّةً شغوفة، ملأت الوقتَ الَّذي منَحَها اللهُ إياه بالمَواهب.

*******

 

Speaker:

أُحَيِّي المُؤمِنِينَ الناطِقِينَ باللغَةِ العَرَبِيَّة. عندما نَكبُرُ في السِّنّ، نَفقِدُ قليلًا من قوّةِ نَظَرِنا، لكنَّ نَظَرَنا الدّاخليّ يصبحُ ثاقبًا ونصبحُ قادرين على رؤيةِ أمورٍ لم نكنْ نراها مِن قَبل. هذه الصُّورةُ هيَ رمزٌ لِما يفعلُه الرُّبُّ يسوع: فهو لا يَعهَدُ مواهبَهُ إلى الشَّبابِ والأقوياءِ فقط، بل يُعطيها للجميعِ وَحَسَبِ قُدُراتِ كلِّ واحد. باركَكُم الرَّبُّ جَميعًا وحَماكُم دائِمًا مِن كُلِّ شَرّ!

*******

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2022


Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير