في مقالنا السابق، تناولنا موضوع التيار الصوفيّ وطبيعته وأشكاله. أما في هذه المقالة، فسنتناول مسألة الروحانية الإغناطية. القديس إغناطيوس دي لويولا “Ignatio De Loyola” (1491 – 1556) هو فارس إسباني من أسرة نبيلة باسكيَّة. تنسك وأصبح كاهنًا منذ العام 1537، وهو عالم لاهوت أسس اليسوعية وأصبح أول قائد أعلى لها. برز إغناطيوس كزعيم ديني خلال الإصلاح المضاد للطاعة المطلقة لبابا الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. ويقول أحد كبار معاوني إغناطيوس الراهب الإسباني جيروم نادال “Gerome Nadal” يقول عن الخصوصية الإغناطية، إنها تتميز أولاً، بالتأمل بملك الله وبرايتين (بعلاقتين أو هدفين) هما نداء الملِك الأزلي للعمل معه بغية نشر ملكوتهِ ومحاربة الشيطان، وثانيًا، ارتباطها بقواعد الاختيار والتمييز. استنادا إلى هذه الخصوصية وضع اغناطيوس تمارين روحية تمتدّ على أربعة أسابيع وتهدف لعيش اختبار الإتحاد بالله الذي يقوده قرار حرّ يلتزم به الإنسان في حاضره ويبني عليه مستقبله. إنها تنير ضمير الإنسان وهكذا تقدم “روحانية القرار” و”روحانية الخدمة”. فبحسب قول القديس في هذا السياق: “يجب البحث عن الله والالتقاء به في كلّ شيء”. وترجم نادال هذا القول بـ “التأمل أثناء الصلاة”.
أثّرت التمارين الإغناطية في نشر الروحانية المسيحية لدى المؤمنين جميعاً، وذلك بطريقة جذرية من خلال تركيزها على الاختبار وانسجامها مع كلّ الحالات. وتسهم هذه التمارين بإدخال الاختبار الحياتي في حياة الروح. هكذا، انتشرت ليس في الأوساط الرهبانية فقط، بل عند الكهنة والعلمانيين من مختلف الأوضاع والفئات، وباتت تعتبر هذه التمارين اليوم من خيور الكنيسة.
تتميز الروحانية الإغناطية بأربع خصائص كالتالي:
لا تحدث عبر الصلاة والعمل إنما عبر إرادة إنسانية تتّحد بالإرادة الإلهية وتقدّم حريّة داخلية تسمح بالتفتيش عن الله وإرادته وإيجادها في ظروف حياتنا الشخصية. ويسمح هذا التجاوب الداخلي المترافق مع رغبة الاستجابة مع المسيح بتمييز حركات القلب الداخلية التي تظهر أثناء موقف الاختيار. في هذا المجال، لا نستطيع أن نفصل بين العمل والصلاة لأنهما يصبحان عملاً واحداً يميز حريّة الإنسان التي تبغي ما يريده الله.
تُفهم هذا الخاصيّة في إطار شخص يسوع المسيح. وتسهم التمارين الإعناطية في التعرّف على المسيح المتجسّد من أجل الشخص نفسه، بعلاقة ذاتية، لكي يحبّه هذا الأخير بطريقة أفضل ويتبعه.
ليست كل العلاقات مع المخلوقات تخلياً بوذياً، وهو حالة ذهنية تنظر إلى جهتين: الأولى إلى المعاناة وأسبابها، والثانية تنظر التحرر. أما في اتجاه المعاناة وأسبابها، فلديها الرغبة في التخلي عنهما، نبذهما، وليس التخلص منهما مؤقتًا، ولكن التخلص منهما إلى الأبد. وفي الاتجاه الثاني، هناك العزيمة لتحقيق حالة التحرر هذه. على العكس، تشكل هذه العلاقات عملاً متجسداً متحرّراً من الميول غير السليمة ومنتظماً بفضل النية السليمة. الله يريد أن يمجًّد كخالق عبر الطبيعة من خلال النعمة. لذلك، لا يدعو إغناطيوس فقط إلى التأمّل بأحداث الإنجيل والأمانة للأسرار والتأمّل بالوصايا، بل أيضاً إلى تمييز الأرواح الذي يجعلنا نشعر بما يريده روح المسيح منّا في مختلف ظروف حياتنا بهدف التعاطي مع المخلوقات حسب مشيئة الله. ويقوم اختبار التمييز هذا على أن الله يكلمنا عبر الشعور والذاكرة والفكر والإرادة.
يعود سبب الطاعة للكنيسة إلى كونها جسد المسيح السريّ بحيث يكون على الراهب اليسوعي إبراز النذور للكنيسة. وفي الرهبنة اليسوعية أربع نذور هي الطاعة والفقر والعفة وطاعة البابا.. أما عن الطاعة، فهي طاعة للبابا وتوصف بأنها ليست عمياء ولا خرساء، بل مسؤولة، وعلى المسؤول واجب معرفة ما هي ميول من هم تحت مسؤوليته. والمبادرة الأجرأ تأتي من أسفل أي من المرؤوس. الطاعة تشمل الجميع حتى الرؤساء والمسؤولين.
ولكي نفهم بشكل أعمق الروحانية الإغناطية، نستوحي من قول اللاهوتي اليسوعي هافنسي (Hafsny) “آمن بالله كما لو كان النجاح يرتبط بك وحدك وليس بالله. لكن اعتمد كل الوسائل كما لو كان على الله أن يقوم بكل شيء وأنت بلا شيء”. يقصد به أن كل نجاح تقوم به هو بمجهود المؤمن أي يعتمد على عمله الخاص وبالأخص الخلاص.
ولتحقيق ذلك، على المؤمن السعي للخلاص عبر الجهد، الذي لا يرتبط بالله وحده بل بالعمل الدؤوب وقبول مشيئة الله في الحياة. فالمؤمن هو من العالم وليس من العالم كما قال المسيح في يوحنا ١٧: ١٦. فكل ما يقوم به المؤمن هو مؤسس على الله وليس مستقلاً عنه، وعليه في الواقع السعي من أجل حصول ذلك، وليس الجلوس والتمنيّ بأن يحصل.
أخيراً، واجهت الرهبنة اليسوعية توتّرًا بين تيّار الصلاة وتيّار العمل كان له أثر كبيرً في التقليد الإغناطي. فقد فضّل إغناطيوس الإتحاد بالله عبر خدمة القريب بالرغم من كونه رجلَ صلاةٍ بشكل كبير. مع الوقت، أسهمت رسالة الرئيس العام لليسوعيين أكوافيفا (Aquafifa) سنة 1590 في وضع حدّ لهذا التوتّر التي قال فيها: “يجب أن تتوجّه الصلاة دائمًا إلى هدف عمليّ من دون التوقّف على أفراح التأمّل، خصوصاً وأن الحاجات الرسوليّة تستدعي تحرّكاً سريعاً. يجب إذاً الذهاب إلى الله بنيّة مستقيمة تحوّل العمل إلى صلاة. لكنّ عيش هذه الحقيقة تستدعي ممارسة الصلاة”.
يتبع
لقراءة المقالة السابقة، يُرجى النقر على الرابط الآتي: