إنّ نصّ عيد العنصرة نجده مدَّون في أعمال الرسل ، ( أعمال الرسل ٢ : ١ – ٢١ ) . ويعود هذا النص في خلفيّته إلى إحدى النماذج الأساسيّة التي نجدها في بداية العهد القديم وهي : وهي قصّة بناء برج بابل ( سفر التكوين ١١ : ١ – ٩ ) .
ولكن ما هو بابل ؟
إنّه وصف لمملكة حيث بذل الناس جهداً كبيراً معتقدين أنّه بإمكانهم التغلّب على إله بعيد ، ويكونوا أقوياء ، وبقوتهم وعزيمتهم يبنون درب يقودهم حتى السماء لفتح الأبواب وأخذ مكان الله . ولكن من خلال هذه الظروف ، طرأ أمر غريب . بينما كان الرجال يعملون سوياً لبناء البرج ، لاحظوا فجأة أنّهم كانوا يبنون بعكس بعضهم . مع أنّهم كانوا يحاولون التمثّل بالله ، وقد واجهوا خطر جثيماً ألّا يكونوا بشراً ، بل آلهة ، ولذلك فقدوا أهمّ عنصر في الطبيعة البشريّة : القدرة على الاتفاق والتفاهم والعمل سوياً.
هذا النص الكتابي يتضمّن حقيقة أبديّة ؛ نشهدها في التاريخ وفي عالمنا اليوم أيضاً . مع تطوّر العلم والتقنيات الحديثة ، تمكّننا من السيطرة على قوات الطبيعة ، والتلاعب بعناصرها وصنع مخلوقات حيّة لنكون على وشك المساس بجوهر الإنسان نفسه. في هذا السياق ، تبدو الصلاة لله وكأنها شيء سخيف ، وكأنه بإمكاننا أن نصنع ونحقق ما نريده بأنفسنا وبدون اللجوء إلى الله .
في هذه الأيام ، نحن نعيش من جديد قصّة برج بابل . صحيح أنّنا ضاعفنا إحتمالات التواصل والحصول على المعلومات ونقلها عبر التواصل الإجتماعي ، ولكن هل يمكننا القول أنّ قدرتنا على التفاهم قد زادت أو أنّنا بالعكس أصبحنا أقل فهماً ؟
ألا يبدو لنا أنّ شعور الريبة والشك والخوف المتبادل ينتشر بيننا ، بين الناس أجمعين إلى حدّ يجعل منهم خطراً على بعضهم البعض ؟ فلنعد إلى السؤال الرئيسي : هل بإمكاننا فعلاً إيجاد الوحدة والتوافق ؟ وكيف ؟
نجد الجواب في الكتاب المقدّس واضحاً ، وهو : يمكن للوحدة أن تتحقّق فقط من خلال نعمة روح الله ، التي تمنحنا قلباً جديداً ، ولساناً جديداً ، وقدرةً جديدة على التخاطب . هذا ما حصل في يوم العنصرة ، بعد خمسين يوماً من عيد قيامة الرّبّ يسوع من بين الأموات ، عصف ريح قويّ في أورشليم ونزلت شعلة الروح القدس على التلاميذ المجتمعين في العلية ، نزلت على كلّ واحدٍ منهم ، وأشعلت فيهم الشعلة الإلهيّة ، شعلة الحبّ القادرة على التغيير . زال الخوف وشعر قلبهم بقوّة جديدة ، وأطلقت ألسنتهم فبدأوا يتكلّمون بصراحة لدرجة أنّهم فهموا جميعهم بشارة يسوع المسيح الذي مات وقام من الموت . في عيد العنصرة ، بعدما كان الانقسام والتباعد ، ولدت الوحدة والتفاهم .
لنتأمل في إنجيل اليوم ، حيث يقول لنا يسوع : ” فمتى جاء هو ، أي روح الحق ، أرشدكم إلى الحقّ كُلِّه ” ( يوحنا ١٦ : ١٣ ) . يتحدّث هنا يسوع عن الروح القدس ويشرح لنا ماهيّة الكنيسة وكيفيّة عيشها لتكون على طبيعتها ، ولتكون مكاناً للوحدة والمشاركة في الحقيقة. يقول لنا أنّ التصرّف على أساس كوننا مسيحيين يعني ألّا ننغلق على ” ذاتنا ” إنّما أن ننفتح على الغير . هذا يعني أن نستقبل الكنيسة بكاملها فينا ، وحتى أن نتركها تستقبلنا هي في قلبِها . إضافة إلى ذلك ، عندما أنا أتكلّم وأفكّر وأتصرّف على أساس كوني مسيحياً، لا أقوم بذلك وأنا منغلق على ” نفسي ” ، إنّما أقوم بذلك مع الجميع ، وهكذا يستطيع الروح القدس، روح الوحدة والحقيقة، أن يكمل عمله في قلوب الناس ونفوسهم، لحثّهم على التلاقي والاستقبال المتبادل .
عندما نتصّرف على هذا النحو، يرينا الروح الحقيقة كاملة ، وهي يسوع ، ويوجّهنا لنتعمّق فيها ونفهمها ونفهمها جيّداً ، وهي : لا نكبر في المعرفة ونحن منغلقين على ” أنفسنا “، ولكن نكبر فقط عندما نصبح قادرين على الإستماع والمشاركة ، من خلال ” نحن ” في الكنيسة مع شعور داخلي بالخشوع . الأسباب التي تجعل من بابل بابل ، ومن العنصرة العنصرة أصبحت أكثر وضوحاً. عندما أراد الناس أن يأخذوا مكان الله ، وجدوا أنفسهم يقفون ضد بعضهم البعض وعندما أراد الناس فعل العكس، و يضعون أنفسهم في حقيقة الرب ، وبين يديه ، بدأوا ينفتحون على أفعال روحه الذي يدعمهم ويوحّدهم .
يتطرّق الرسول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية إلى موضوع التعارض بين برج بابل والعنصرة قائلاً : ” أسلكوا سبيل الرُّوح ، ولا تقضوا شهوة الجَسد ، لأن الجَسد يشتهي ما يُخالف الروح ، والرُّوح يشتهي ما يخالف الجَسد : كلاهما يُقاوم الآخر حتى إنكم تعملون مالاتُرِيدُون ” (غلاطية ٥ : ١٦ ) يوضّح لنا القدّيس بولس أنّ حياتنا الشخصيّة تتميّز بصراع داخلي وانقسام بين الحاجات الجسديّة والحاجات الروحيّة؛ ولا يمكننا أن نلحق بها جميعها. في الواقع ، لا يمكننا أن نكون في الوقت نفسه أنانيين وكرماء ، وأن نلحق بالميول للسيطرة على الآخرين والوصول إلى الفرح في العطاء غير المشروط . علينا أن نختار دائماً أيّ ميول نريد ولا يمكننا أن نقوم بذلك فعلياً إلّا من خلال مساعدة روح المسيح .
يعدّد القديس بولس أعمال الجسد ، إنّها خطايا الأنانيّة والعنف ، مثل العداوة والتنافر والغيرة والخلافات . إنّها أفكار وأفعال تمنعنا من العيش بطريقة إنسانية ومسيحيّة في المحبّة . إنّها درب يقودنا إلى خسارة الحياة . بالعكس، يقودنا الروح القدس نحو آفاق الله ، لنتمكّن من عيش بذرة الحياة الإلهيّة الموجودة فينا على هذه الأرض .
يعلمنا القديس بولس قائلاً : ” إنّ ثمر الروح هو المحبّة والفرح والسلام ” (غلاطية ٥ : ٢٢ ) . تجدر الإشارة إلى أنّ الرسول يستخدم الجمع للتحدّث عن أعمال الجسد التي تسبّب التشتت في الإنسان ، ولكنّه يستعمل المفرد لتحديد عمل الروح ، فيتحدّث عن ” الثمرة “، مثل تشتت بابل تحديداً الذي يتعارض مع وحدة العنصرة
حلول الرُّوح القُدُس في يوم العنصرة ، يدعونا إلى العيش بحسب روح الوحدة والحقيقة ، ولذلك علينا أن نرفع الصلاة لينيرنا الروح ويقودنا لنتغلّب على سحر اللحاق بحقائقنا ، ولنستقبل حقيقة المسيح المنقولة من خلال الكنيسة . إنّ نص إنجيل القديس لوقا عن العنصرة يعلمنا أنّ يسوع قبل صعوده إلى السماء، طلب من الرسل البقاء معاً للتحضّر لاستقبال نعمة الروح القدس. فاجتمعوا في الصلاة مع مريـم في العليّة ، منتظرين الحدث الموعود ( أعمال الرسل ١ : ١٤ ).
تصلّي الكنيسة اليوم كما فعلت عند نشأتها واستقبالها مع مريـم والتلاميذ الرُّوح القُدُس قائلةً : ” هلُّمَّ أيُّها الروح القدس وإملأ قلوب تلاميذك ومؤمنيك وإشعل في قُلوبِهم نعمة حبّك! ” .
+ المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك