أثناء اعتماد يسوع في نهر الاردن على يد يوحنا المعمدان ، ظهر الله الواحد بثالوثه الأقدس : الآب والإبن والرُّوح القُدُس . وجاء صوتٌ الله من السماء يقول : ” انت ابنيَ الحبيب ، عنك رضيت “، والابن الحبيب يسوع المسيح يتعمّد ، والرُّوح القُدُس الذي نزل عليه في صورة جِسمٍ كأنه حمامة ( لوقا ٣ : ٢١ – ٢٢ ).
بين معمودية يسوع والظهور الإلهي الثالوثي يوجد رابط لاهوتي . فالظهور الإلهي إعلاناً لألوهية يسوع وقداسته البريئة من أي خطيئة شخصية ، هو الذي مشى مع الخطأة لقبول معمودية يوحنا كعلامة للإقرار بحالة الخطيئة وللتوبة .
معمودية يسوع تذكّرنا بمعموديتنا، التي منها هويتنا المسيحية ورسالتنا.
الهوية : هي ولادتنا الروحيّة الثانية من الماء والروح ، وبواسطتها جُعلنا خلقاً جديداً ، إذ صوّرنا الروح القدس على شبه المسيح ، فدُعينا ” مسيحيين “. بهذه الولادة الجديدة أصبحنا أعضاء في جسد المسيح الذي هو الكنيسة ، وهذا يعني أنّ المسيح حاضر في الكنيسة والمجتمع من خلالنا، نحن أعضاء جسده الروحيّين ، ويواصل عمله الخلاصي بواسطتنا. كما تعني عضويتنا في جسد المسيح الإلتزام بالشركة في بُعدَيها : العمودي أي الاتّحاد مع الله بالمسيح ، والأفقي الوحدة بين جميع الناس .
أمّا الرسالة فهي : الشهادة لمحبة المسيح بالأفعال والمبادرات والمواقف .
عيد الغطاس والظهور الإلهيّ ، يدعونا إلى الإرتداد إلى الله ، وأن نعيش بسلام مع الله والذات ومع بعضنا البعض . ومن أجل أن نعيش الغفران والمصالحة في محيطنا الكنسي والاجتماعي، فنصبح هكذا أبناء الله بحكم المعمودية ومسحة الميرون ، وبالعيش في سلام مع الآخر مهما كان بتواضع وصبر ومحبة . يقول لنا المكمور ” وحدهم المتواضعون الودعاء ينعمون بوفرة السلام الذي لا يُسبر غوره ” (المزمور ٣٧ : ١١).
إنّ المسيح ، الذي دشّن بميلاده حالة الشركة ، قد أسّس الأخوّة الحقيقيّة بين الناس، التي تنبذ الانقسام والعداوة .
كتب القديس بولس الرسول : ” المسيح هو سلامنا، فقد جعل من الجماعتَين ، بعدما أحلّ السلام بينهما، إنساناً جديداً واحداً، وأصلح بينهما وبين الله إذ جعلهما جسداً واحداً بالصليب المُقدّس ، وبه قضى على العداوة ” (أفسس ٢: ١٤ – ١٦) .
إنّ يسوع المسيح ، ابن الله القدّوس ، المجهول من الناس في ألوهيته ، مشى مع الخطأة نحو يوحنا المعمدان في نهر الاردن ، ملتمساً معمودية التوبة ، وهو لم يرتكب أي خطيئة . لكنّه فعل ذلك لكي يتضامن مع الخطأة ويحمل خطاياهم ، ويتفهّمهم ، ويحاورهم حوار الحقيقة والمحبة ، من أجل أن يهديهم إلى نور الله الخلاصي ، وسيموت على الصليب فداءً عنهم وعن البشرية الخاطئة . فكان الحوار بين السماء والأرض، بين الله والبشر بالظهور الإلهي ، وكانت الدعوة إلى الحوار مع الله والناس .
لقد أقام يسوع حوار الحقيقة والمحبة مع العديدين كما يروي لنا الإنجيل المُقدّس : تحاور مع نيقوديمس رئيس اليهود الذي قصده ليلاً خوفاً من انتقاد الفريسيين. كان حواراً وجدانيّاً إلتماساً للحقيقة . فطلب نيقوديموس من يسوع التعليم الصحيح ” لأنّ الله أرسله معلّماً “. فحاوره يسوع عن الولادة الثانية من الماء والروح من أجل الدخول في شركة مع الله والناس (يوحنا ٣ : ١ – ٦).
تحاور يسوع مع زكا العشار الخاطئ الغارق في ثروته وظلمه ، فدخل بيته وجلس إلى مائدته ، مرتضياً إنتقاد الفرّيسيين في الخارج وتذمّرهم . فكان حوار توبة كاملة بلغها زكّا، ما جعل يسوع يقول : ” اليوم دخل الخلاص هذا البيت” (لوقا ١٩ : ٩). تحاور مع المرأة الكنعانية في نواحي صور، حواراً قاسياً وجارحاً ولكن بطوليّاً ، إذ اندهش يسوع من إيمان هذه المرأة الوثنيّة التي أصرّت على أنّه قادر على شفاء ابنتها، فكان الشفاء (متى ١٥ : ٢١ – ٢٨) تحاور مع السامرية على بئر يعقوب، حواراً صبوراً بالرغم من أنَّ المرأة رفضت أن تسقيَه ماء من جرّتها بسبب العداوة بين السامريين واليهود . وبدأت الحوار معه بشيء من السخرية والكذب . لكنَّ يسوع واصل الحوار بصبر فأدّى إلى إكتشافها أنه هو النّبي والمسيح المنتظر ، وراحت تشهد عنه أمام أهل السامرة ، فتقاطروا إليه وآمن به الكثيرون .
تحاور مع الأعمى والأبرص، حوار رحمة وشفاء، وكلاهما منبوذان من المجتمع، فأدرك الأعمى أنّ يسوع يستطيع أن ينعم عليه بالنظر . فلمّا ناداه الأعمى : ” يا ابن داود ارحمني “، سأله يسوع : ” ماذا تريد أن أصنع لك ” ؟ فأجاب : ” يا معلّم ، أن أبصر ” ! فقال له يسوع : إذهب ! إيمانكَ خلّصَكَ ” . فأبصر من وقته وتبعه في الطريق . ( مرقس ١٠ : ٥١ – ٥٢ ). والأبرص التمس منه قائلاً : ” يا معلم ، إن شئت فأنت قادر أن تُبرئني “. فأنفق عليه يسوع ومدَّ يده فلمست وقال له : قد شئتُ فابرأ ” فزالَ عَنهُ البرصُ لوقتهِ وبَرئ . وأعاده إلى حياة الشركة مع الجماعة (مرقس : ١ : ٤٠ – ٤٢).
ربُّنا يسوع المسيح يدعونا إلى حوار الحقيقة والمحبة ، على مثاله فلنسمع له . فالحوار يؤدّي إلى الخلاص ممّا نعاني منه في الحياة الزوجية والعائلية والإجتماعية ، في الكنيسة والمجتمع ، وفي الدولة وبين الشعوب والأمم. هذا الحوار لا يتمّ بالعنف والحرب والإرهاب ، بل عبر الحوار بالفكر والقلب واللسان . عالم اليوم الذي أصبح مع العولمة والتقنيّات الإعلاميّة ” قرية كبيرة “، أصبح في الواقع العكسي في مسافات نفسية بعيدة ، وغير قادر على التخاطب وجهاً لوجه . إنّه لفي حاجة ماسّة إلى حوار الحقيقة والمحبة .
نرفع صلاتنا اليوم إلى الله ، في تذكار معموديّة يسوع والظهور الإلهي ، وفِي ذكرى تجديد مواعيد معموديتنا ، من أجل جميع المسيحيّين لكي يعيشوا مواعيد معموديتهم ورسالتهم ، في خدمة الخير العام بتجرد وشفافية وإخلاص .
أعطنا أيها المسيح الإله أن نقتدي بك ونسمع صوتك الداعي إلى مواصلة حوار الحقيقة والمحبة الذي بدأته ووضعت أسسه في يوم ظهورك واعتمادك .
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك