Audience générale du 10 Dec 2025 @ Vatican Media

البابا يُكرّم قرناً من الآثار المسيحيّة

النصّ الكامل للرسالة البابويّة
في أهمّيّة عِلم الآثار
للحبر الأعظم البابا لاوُن الرَّابع عشر
في الذّكرى المئويّة للمعهد البابويّ لعِلم الآثار المسيحيّة

Share this Entry

في الذّكرى المئويّة لتأسيس المعهد البابويّ لعِلم الآثار المسيحيّة، أشعر بالواجب والفرح أن أشارككم بعض التأمّلات التي أعتبرها مهمّة لمسيرة الكنيسة في الزّمن الحاضر. أقوم بذلك بقلب شاكر، وأنا مدرك أنّ ذكرى الماضي، عندما يُنيرُها الإيمان وتُطهِّرُها المحبّة، تصير غذاءً للرّجاء.

في سنة 1925 أُعلن عن ”يوبيل السّلام“، وكان يهدف إلى تخفيف الجراح الأليمة التي خلّفتها الحرب العالميّة الأولى. ومن اللافت أن يتزامن الاحتفال بمرور مائة سنة على تأسيس المعهد مع يوبيل جديد، يريد اليوم أيضًا أن يفتح آفاق رجاء للبشريّة المتألمّة بسبب الحروب الكثيرة.

عصرنا، الذي تؤثّر فيه التغيُّرات السّريعة والأزمات الإنسانيّة والانتقالات الثّقافية، يتطلّب، إلى جانب الالتجاء إلى معارف قديمة وحديثة، البحث عن حكمة عميقة قادرة على حفظ ما هو جوهريّ ونقله إلى المستقبل. وفي هذه الإضاءة، أودّ أن أؤكّد بقوّة على أنّ عِلم الآثار هو عنصر لا غنى عنه في تفسير المسيحيّة، ومن ثمّ في التّنشئة في التّعليم المسيحيّ واللاهوت.  فعِلم الآثار ليس مجرّد تخصّص، محصور في عدد قليل من الخبراء، بل هو طريق متاح لكلّ الذين يريدون أن يفهموا تجسّد الإيمان في الزّمان والمكان والثّقافات. التّاريخ بالنّسبة لنا نحن المسيحيّين ركن أساسيّ، إذ إنّنا نسير في رحلة حياتنا في واقع التّاريخ، وهو أيضًا المسرح الذي يتحقّق فيه سرّ الخلاص. ولذلك، كلّ مسيحيّ مدعوٌّ إلى أن يبني حياته على البشرى السّارّة التي تبدأ بتجسّد كلمة الله في التّاريخ (راجع يوحنّا 1، 14).

وكما ذكّرنا البابا فرنسيس المحبوب: “لا يمكن لأحد أن يعرف حقًّا من هو وماذا سيكون غدًا بدون أن يغذيّ الرّابط الذي يربطه بالأجيال التي سبقته. وهذا ينطبق ليس فقط على مجال الأفراد، بل أيضًا على مجال الجماعات الأوسع. في الواقع، دراسة التّاريخ وروايته يساعدان على الحفاظ على شعلة الوعيّ الجماعيّ. وإلّا، فلن تبقى سوى الذّاكرة الشّخصيّة للأحداث المرتبطة بالمصالح الشّخصيّة أو العواطف الفرديّة، بدون ارتباط حقيقيّ بجماعة النّاس وبالجماعة الكنسيّة التي نعيش فيها” [1].

بيت عِلم الآثار

مع الإرادة البابويَّة ”المدافن القديمة“ الصّادرة في 11 كانون الأوّل/ديسمبر 1925، ثبّت البابا بيوس الحادي عشر مشروعًا طموحًا وبعيد النّظر: تأسيس معهد للتعليم العالي، يمنح الدّكتوراه، بالتّنسيق مع لجنة الآثار المقدّسة والأكاديميّة الرّومانيّة البابويّة لعِلم الآثار، هدفه دراسة معالم المسيحيّة القديمة بأقصى درجات الدّقة العلميّة، لإعادة بناء حياة الجماعات الأولى، ولتنشئة “أساتذة في الآثار المسيحيّة للجامعات والإكليريكيات، ومديري حفريات الآثار، وحرّاس المعالم المقدّسة والمتاحف، وغيرهم” [2]. ففي رؤية البابا بيوس الحادي عشر، عِلم الآثار أداة ضروريّة لإعادة بناء دقيق للتاريخ، الذي هو “نور الحقيقة وشاهد الأزمنة، إذا ما سُئِل وتمّ النّظر فيه بدقّة” [3]، وهو يدلّ الشّعوب على خصوبة الجذور المسيحيّة وعلى ثمار الخير العام التي يمكن أن تنبع منها، وبذلك يمنح أيضًا مصداقية لعمل البشارة بالإنجيل.

على مدى كلّ هذه السّنوات، تخرَّج من المعهد البابويّ لعِلم الآثار المسيحيّة مئات المتخصّصين في عِلم الآثار المسيحيّة القديمة، والأساتذة أنفسهم، جاؤوا من كلّ أنحاء العالم، ثمّ عادوا إلى بلدانهم فتولّوا مسؤوليّات مهمّة في التّعليم والإرشاد. وشجّع المعهد أبحاثًا في روما وفي كلّ العالم المسيحيّ، ولعب دورًا دوليًّا فعّالًا في تعزيز عِلم الآثار المسيحيّة، سواء بتنظيم المؤتمرات الدّوريّة والمبادرات العلميّة العديدة، أم بالعلاقات الوثيقة والتّبادلات الدّائمة مع الجامعات ومراكز البحث في العالم.

وقد استطاع المعهد، في بعض اللحظات التّاريخيّة، أن يكون راعيًّا للسّلام والحوار الدّينيّ، مثلًا بتنظيم المؤتمر الدّوليّ الثّالث عشر في سبالاتو (Spalato) في أثناء الحرب في يوغوسلافيا السّابقة، وهو خيار صعب أثار اعتراضات واسعة في الوسط الأكاديميّ [4]، أو بمواصلة بعثاته في الخارج في بلدان غير مستقرّة سياسيًّا. ولم يحِد المعهد قط عن أهدافه في التّنشئة في التّعليم العاليّ، وظلّ يمنح الأولويّة للاتّصال المباشر مع المصادر المكتوبة ومع المعالم الأثريّة، وهي الشّواهد المرئيّة الواضحة للجماعات المسيحيّة الأولى، وقام بالزّيارات إلى سراديب الشّهداء وكنائس روما، وكذلك برحلات دراسيّة سنويّة في المناطق الجغرافيّة التي انتشرت فيها المسيحيّة.

عندما اقتضت الضّرورات التّعليميّة والطّلبات من الخارج، ولا سيّما في السّنوات الأخيرة مع ”مبادرة بولونيا“ التي أيّدها الكرسيّ الرّسوليّ بهدف بناء نظام تعليم عالٍ منسجم في أوروبا، قام المعهد بتحديث التخصّصات ومسارات التّنشئة، بدون أن يبتعد قط عن أهداف وروح المؤسّسين. وظلّ يسير على خطى روّاد عِلم الآثار المسيحيّة، وخصّوصًا جيوفاني باتيستا دي روسي، “الباحث الذي لم يعرف الكلل، والذي وضع أُسس هذا التّخصّص العلميّ” [5]. وهو الذي اكتشف، في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر، أغلبيّة المدافن المسيحيّة المحيطة بأسوار روما، كما درس مزارات الشّهداء الذين استشهدوا في اثناء الاضطهاد، ولا سيّما في زمن داقيوس (Decio) وڤاليريانس (Valeriano) وديوقليسيانس (Diocleziano)، وتتبّع تطوّرها منذ عهد قسطنطين، حيث صارت مقاصد حجّ مزدهرة حتّى مطلع العصور الوسطى.

كان هذا كلّه خدمةً للكنيسة، التي استطاعت أن تعتمد على المعهد في تعزيز المعرفة بالشّهادات المطبوعة في الحجارة للمسيحيّة الأولى، وبالشّهداء الذين لا يزالون حتّى اليوم أمثلة لإيمان متّقد وشجاع. وكانت خدمة المعهد أيضًا عمليّة، إذ شارك في الحفريات، التي شرعت بها إدارة كاتدرائيّة القدّيس بطرس، لقبر الرّسول بطرس تحت مذبح “الاعتراف” (اعتراف بطرس بالإيمان) في البازيليكا في الفاتيكان، ومؤخّرًا في أعمال التّنقيب التي أجراها متحف الفاتيكان قرب بازيليكا القدّيس بولس خارج الأسوار.

عِلم الآثار مدرسة للتجسّد

نحن مدعوّون اليوم إلى أن نسأل أنفسنا: ما مدى قدرة دور عِلم الآثار المسيحيّة على أن يبقى مفيدًا للمجتمع والكنيسة، في عصر الذّكاء الاصطناعيّ والأبحاث في مجرّات الكون اللامتناهية؟

المسيحيّة لم تولد من فكرة، بل من جسد. لم تنشأ من مفهوم تجريدي، بل من أحشاء، ومن جسد تكوَّن فيها، ومن قبر. فالإيمان المسيحيّ، في جوهره الأصيل، هو تاريخ يقوم على أحداث ملموسة، وعلى وجوه، وحركات، وعلى كلمات نُطقت بلغة معيّنة، وفي زمن محدّد، وفي بيئة معيّنة. [6] هذا ما يوضِّحُه عِلم الآثار، ويجعله ملموسًا. فهو يذكّرنا بأنّ الله اختار أن يتكلّم لغة بشريّة، وأن يسير على أرض، وأن يسكن أماكن وبيوتًا ومَجامِع وطرقات.

لا يمكن فهم اللاهوت المسيحيّ فهمًا كاملًا بدون أن ندرك الأماكن والآثار الماديّة التي تشهد لإيمان القرون الأولى. وليس من قبيل الصّدفة أنّ الإنجيليّ يوحنّا افتتح رسالته الأولى بما يشبه تأكيد الخبرة الحسيّة: “ذاك الَّذي سَمِعناه، ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا، ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه، ولَمَسَتْه يَدانا، مِن كَلِمَةِ الحَياة” (1 يوحنّا 1، 1). وعِلم الآثار المسيحيّة، بطريقة ما، هو جواب أمين لهذا الكلام. إنّه يريد أن يلمس لمس اليد، وأن يرى ويسمع الكلمة الذي صار جسدًا. لا لكي يتوقّف عند ما هو مرئيّ، بل لكي يترك نفسه تنقاد إلى السّرّ الكامن فيه.

عندما يهتمّ عِلم الآثار بآثار الإيمان الماديّة، فهو يربّي على لاهوت قائم على الحواس: لاهوت يعرف أن يرى ويلمس ويشمّ ويصغي. وعِلم الآثار المسيحيّة يربّي على هذه الحساسيّة. بالتّنقيب بين الحجارة والأنقاض والأشياء، يعلّمنا أن لا شيء لمسه الإيمان هو شيء لا قيمة له. حتّى قطعة فسيفساء صغيرة، أو نقش منسي، أو خدش على جدار من جدران سراديب الشّهداء، يمكن أن تروي سيرة الإيمان. بهذا المعنى، فإنّ عِلم الآثار هو أيضًا مدرسة تواضع: فهو يعلّمنا ألّا نحتقر ما هو صغير أو ما يبدو ثانويًّا. ويعلّمنا قراءة العلامات، وتفسير صمت الأشياء وألغازها، والحَدْس بما لم يعد مكتوبًا. إنّه عِلم يقف على العتبة، بين التّاريخ والإيمان، وبين المادة والرّوح، وبين القديم والأبدي.

نحن نعيش في زمن سيطر عليه الاستهلاك والاستخدام بدل احترام الأشياء والمحافظة عليها. أمّا عِلم الآثار، فيعلّمنا أنّ حتّى أصغر شهادة تستحق الانتباه، وأنّ لكلّ أثر قيمته، وأنّ لا شيء يجب أن يُطرح جانبًا. بهذا المعنى، فهو مدرسة للاستدامة الثّقافيّة وللبيئة الرّوحيّة. إنّه تربية على احترام المادة والذّاكرة والتّاريخ. فالعالِم الأثري لا يرمي، بل يحتفظ. ولا يستهلك، بل يتأمّل. ولا يدمّر، بل يفسّر. نظره صبور، ودقيق، ومحترم. إنّه نَظَرٌ يعرف كيف يلتقط، في قطعة خزف، أو في عملة متآكلة، أو في نقش متآكل، نفَسَ عصر بكامله، ومعنى إيمان، وصلاة صامتة. وهو نَظَرٌ قادر على أن يعلّم الكثير أيضًا في العمل الرّعويّ والتّعليم المسيحيّ.

من ناحية أخرى، أدوات التّكنولوجيا الحديثة تسمح لنا بأن نستخلص معلومات جديدة من مجالات كانت تُعدّ سابقًا بلا أهمّيّة. وهذا يذكّرنا بأنّ لا شيء عديم الفائدة أو ضائع حقًا. فحتّى ما يبدو هامشيًّا يمكن، في ضوء أسئلة جديدة ومناهج حديثة، أن يكشف لنا معانيَ عميقة. وفي هذا أيضًا، عِلم الآثار هو مدرسة رجاء.

في قواعد التّطبيق للدّستور الرّسولي ”فرح الحقيقة-Veritatis gaudium“  تؤكّد أنّ عِلم الآثار، مع تاريخ الكنيسة ودراسة آباء الكنيسة، يجب أن يكون ضمن مواد التّنشئة اللاهوتيّة الأساسيّة. [7] ليس ذلك إضافة ثانويّة، بل مبدأ تربوي عميق: فمن يدرس اللاهوت ينبغي أن يعرف من أين جاءت الكنيسة، وكيف عاشت، وما هي الأشكال التي اتّخذها الإيمان عبر القرون. فعِلم الآثار لا يكلِّمنا فقط عن الأشياء، بل عن الأشخاص: وعن بيوتهم، وقبورهم، وكنائسهم، وصلواتهم. ويكلِّمنا عن الحياة اليوميّة للمسيحيّين الأوائل، وأماكن عبادتهم، وأسلوب إعلان إيمانهم. ويقول لنا كيف أثَّر الإيمان في الأماكن والمدن والمشاهد الطّبيعيّة والعقليات. ويساعدنا لنفهم كيف تجسّد الوحي في التّاريخ، وكيف وجد الإنجيل كلمات وأشكالًا داخل الثّقافات. فلاهوت يتجاهل عِلم الآثار يوشك أن يصير غير متجسّد، ونظريًّا، وإيديولوجيًّا. أمّا اللاهوت الذي يقبل عِلم الآثار شريكًا فهو لاهوت يصغي إلى جسد الكنيسة، ويتساءل عن جراحها، ويقرأ علاماتها، ويسمح لنفسه بأن تتأثّر بتاريخها.

مهنة عالِم الآثار هي مهنة ”ملموسة“، إلى حد كبير. فعلماء الآثار هم أوّل من يلمس، بعد قرون، مادة مدفونة تحمل طاقة الزّمن. ومهمّة عالِم الآثار المسيحيّ لا تتوقّف عند المادة، بل تتجاوزها إلى البعد الإنسانيّ. فهي لا تدرس القطع الأثريّة فقط، بل أيضًا الأيدي التي صنعتها، والعقول التي ابتكرتها، والقلوب التي أحبّتها. وراء كلّ شيء يوجد إنسان، وروح، وجماعة. ووراء كلّ خراب يوجد حلم إيمان، وليتورجيا، وعلاقة. من هنا، فإنّ عِلم الآثار المسيحيّة هو أيضًا شكل من أشكال المحبّة: إنّه طريقة لجعل صمت التّاريخ يتكلّم، ولإعادة الكرامة إلى من تمّ نسيانهم، ولإظهار قداسة مجهولة لكثير من المؤمنين الذين بنوا الكنيسة.

ذاكرة من أجل البشارة بالإنجيل

منذ بدايات المسيحيّة، كانت للذاكرة مكانة أساسيّة في البشارة بالإنجيل، لا ذكريات عابرة، بل إحياء حيّ لأحداث الخلاص. فالجماعات المسيحيّة الأولى حفظت أيضًا، مع كلام يسوع، الأماكن والأشياء والرّموز الدّالة على حضوره. القبر الفارغ، وبيت بطرس في كفرناحوم، وقبور الشّهداء، وسراديب الشّهداء في روما: كلّها أسهمت في الشّهادة على أنّ الله دخل حقًّا في التّاريخ، وأنّ الإيمان لم يكن فلسفة بل مسيرة ملموسة في جسد العالم.

كتب البابا فرنسيس أنّنا نجد، في مسارات سراديب الشّهداء “علامات كثيرة للحجّ المسيحيّ في البدايات: أفكّر، مثلًا، في النّقوش المهمّة جدًّا في ما يُسمى ”القطع الثّلاث- triclia“ لسرداب القدّيس سباستيانس، و”ذاكرة الرّسل“، حيث كانت تُكرَّم معًا ذخائر الرّسولَين بطرس وبولس. ثمّ نكتشف أيضًا في هذه المسارات أقدم الرّموز والرّسوم المسيحيّة التي تشهد على الرّجاء المسيحيّ. ففي سراديب الشّهداء، كلّ شيء يتكلّم على الرّجاء، كلّ شيء يتكلّم على الحياة بعد الموت، والتّحرير من الأخطار ومن الموت نفسه بعمل الله، الذي يدعونا، في المسيح، الرّاعي الصّالح، إلى أن نشترك في نعيم الفردوس، والمُشار إليه بصور النّباتات اليانعة، والزّهور، والمروج الخضراء، وصور الطّاؤوس والحمام، والخراف في المراعي… كلّ شيء يتكلّم على الرّجاء والحياة!” [8].

هذه هي مهمّة عِلم الآثار المسيحيّة اليوم أيضًا: أن يساعد الكنيسة لتتذكّر أصولها، وتحفظ الذّاكرة الحيّة لبداياتها، وتروي تاريخ خلاصها لا بالكلام فقط، بل أيضًا بالصّور والأشكال والأماكن. ففي زمن يفقد مرارًا جذوره، يصير عِلم الآثار أداة ثمينة للبشارة بالإنجيل ينطلق من حقيقة التّاريخ ليفتح نفسه على الرّجاء المسيحيّ وتجدّد الرّوح.

عِلم الآثار المسيحيّة يجعلنا نرى كيف تمّ قبول الإنجيل وتفسيره وإحياؤه في سياقات ثقافيّة مختلفة. ويُبَيِّنُ لنا كيف كوَّن الإيمان الحياة اليوميّة، والمدينة، والفنّ، والزّمن. ويدعونا إلى أن نواصل مسار الانثقاف هذا، لكي يجد الإنجيل اليوم أيضًا بيتًا جديدًا في قلوب البشر وثقافات العالم المعاصر. فهو بهذا لا ينظر إلى الماضي فقط: بل يتكلّم إلى الحاضر ويوجّه نحو المستقبل. يكلّم المؤمنين الذين يكتشفون من جديد جذور إيمانهم. ويكلّم البعيدين وغير المؤمنين، والذين يبحثون عن معنى الحياة ويجدون، في صمت القبور وجمال الكنائس المسيحيّة الأولى، صدىً للأبديّة. ويكلّم الشّباب الذين يبحثون مرارًا عن الأصالة والواقعيّة. ويكلّم الدّارسين الذين لا يرون الإيمان فكرة تجريديّة، بل واقعًا موثّقًا تاريخيًّا. ويكلّم الحجّاج الذين يجدون في سراديب الشّهداء والمزارات معنى المسيرة ودعوةً إلى الصّلاة من أجل الكنيسة.

في زمن تُدعى الكنيسة فيه إلى أن تفتح نفسها على المنسيّين في أطراف المجتمع، الجغرافيّة والحياتيّة، يمكن لعِلم الآثار أن يكون أداة قويّة للحوار، وأن يُسهم في بناء جسور بين عوالم متباعدة، وبين ثقافات مختلفة، وبين أجيال متنوّعة، وأن يشهد على أنّ الإيمان المسيحيّ لم يكن قطّ واقعًا منغلقًا، بل قوّة ديناميكيّة قادرة على أن تنفذ إلى أعماق تاريخ البشريّة.

نعرف أن نرى ما هو أبعد: الكنيسة بين الزّمن والأبديّة

أهمّيّة رسالة عِلم الآثار تقاس أيضًا بقدرتها على وضع الكنيسة داخل النّزاع بين الزّمن والأبديّة. كلّ اكتشاف، كلّ شظية تُستخرج إلى الضّوء، تقول لنا إنّ المسيحيّة ليست فكرة معلّقة، بل هي جسد عاش، واحتفل، وسكن المكان والزّمان. الإيمان ليس خارج العالم، بل في العالم. وليس ضدّ التّاريخ، بل في داخله.

ومع ذلك، فإنّ عِلم الآثار لا يكتفي بوصف ماديّة الأشياء. فهو يقودنا إلى ما هو أبعد: يجعلنا نلمس قوّة الحياة التي تتجاوز القرون، ولا تنحصر في المادة بل تتجاوزها. وهكذا، مثلًا، في قراءة ”المدافن المسيحيّة“ نرى، ما هو أبعد من الموت، انتظار القيامة، وفي ترتيب الأقبية ندرك، ما هو أبعد من الحساب الهندسيّ، التّوجّه نحو المسيح، وفي آثار العبادة نلمس، ما هو أبعد من الطّقس الليتورجيّ، الشّوق إلى السّرّ.

وبمنظور أكثر منهجيّة، يمكن أن نؤكّد أنّ لعِلم الآثار أهمّيّة خاصّة أيضًا في لاهوت الوَحي. تكلّم الله في الزّمن، بأحداث وأشخاص. تكلّم في تاريخ إسرائيل، وفي أحداث حياة يسوع المسيح، وفي مسيرة الكنيسة. لذا، فالوَحي هو دائمًا حدث تاريخيّ. وإن كان الأمر كذلك، فإنّ فهم الوَحي لا يمكن أن ينفصل عن معرفة كافية بالسّياقات التّاريخيّة والثّقافيّة والماديّة التي تجلّى فيها. ويسهم عِلم الآثار المسيحيّة في هذه المعرفة. فهو يضيء النّصوص بالشّهادات الماديّة، ويستنطق المصادر المكتوبة، ويكملها، ويثير حولها الأسئلة. وفي بعض الحالات، يؤكّد أصالة التّقاليد، وفي أخرى يضعها في سياقها الصّحيح، وفي حالات أخرى يطرح أسئلة جديدة. كلّ هذا له أهمّيّة لاهوتيّة، لأنّ لاهوتًا يريد أن يكون أمينًا للوَحي يجب أن يبقى منفتحًا على تعقيدات التّاريخ.

وعِلم الآثار يُبَيِّنُ أيضًا كيف تبلورت المسيحيّة تدريجًا عبر الزّمن، وواجهت تحدّيات وصراعات وأزمات، وعرفت لحظات إشراق ولحظات ظلمة. وهذا يساعد اللاهوت ليتخلى عن الرّؤى المثاليّة أو المبسَّطة للماضي، ويدخل في حقيقة الواقع: حقيقة مكوَّنة من العظمة والحدود، ومن القداسة والضّعف، ومن الاستمراريّة والانقطاع. وفي هذه الحقيقة الواقعيّة، الملموسة، وأحيانًا المتناقضة، شاء الله أن يكشف لنا عن ذاته.

وأخيرًا، ليس من قبيل الصّدفة أنّ كلّ تعمّق في سرّ الكنيسة يرافقه رجوع إلى الأصول. ليس بدافع الرّغبة في استعادة الماضي، بل بحثًا عن الأصالة. فالكنيسة تستيقظ وتتجدّد عندما تعود لتسأل نفسها عمّا أوجدها، وعمّا يحدّد هويتها في أعماقها. ويمكن لعِلم الآثار المسيحيّة أن يقدّم إسهامًا كبيرًا في هذا المجال. فهو يساعد على التّمييز بين الجوهر والثّانوي، وبين النّواة الأصليّة وترسبات التّاريخ.

ويجب أن ننتبه، ليس الأمر هو عمليّة تقليص لحياة الكنسية وعبادة للماضي. فعِلم الآثار المسيحيّ الحقيقيّ ليس صيانة عقيمة، بل ذاكرة حيّة. إنّه قدرة على أن يجعل الماضي يكلِّم الحاضر، وهو حكمة في تمييز ما أثاره الرّوح القدس في التّاريخ. إنّه أمانة خلاّقة، لا اقتداء آلي. لهذا السّبب، يمكن لعِلم الآثار المسيحيّة أن يقدّم لغة مشتركة، وأساسًا موحّدًا، وذاكرة متصالحة. ويمكنه أن يساعد لنتعرّف إلى تعدّد الخبرات الكنسيّة، وتنوّع أشكالها، والوَحدة في التّنوّع. كما يستطيع أن يصير مكانًا للإصغاء، ومساحة للحوار، وأداة للتّمييز.

قيمة الوَحدة والشّركة الأكاديميّة

عندما أراد البابا بيوس الحادي عشر، في سنة 1925، إنشاء المعهد البابويّ لعِلم الآثار المسيحيّة، قام بذلك بالرّغم من الصّعوبات الاقتصاديّة والأوضاع غير المستقرة التي أعقبت الحرب العالمّية. وقام بذلك بشجاعة وبُعد نظر وثقة بالعِلم والإيمان. واليوم، بعد مرور مائة سنة، هذا العمل يخاطبنا. يسألنا هل نحن أيضًا قادرون على الإيمان بقوّة الدّراسة والتّنشئة والذّاكرة. ويسألنا هل نحن مستعدّون لنستثمر في الثّقافة بالرّغم من الأزمات، ونعزّز المعرفة بالرّغم من اللامبالاة، وندافع عن الجمال حتّى عندما يبدو هامشيًّا. أن نكون أوفياء لروح المؤسّسين يعني ألّا نكتفي بما تمّ القيام به، بل أن ننطلق من جديد. ويعني أن نكوِّن أشخاصًا قادرين على التّفكير والتّساؤل والتّمييز والرّواية. ويعني ألّا ننغلق على أنفسنا في معرفة محصورة في نخبة، بل أن نشاركها وننشرها ونشرك الآخرين فيها.

وفي هذه الذّكرى المئويّة، أودّ أيضًا أن أؤكّد على أهمّيّة الوَحدة والشّركة بين المؤسّسات المختلفة التي تهتمّ بعِلم الآثار. الأكاديميّة الرّومانيّة البابويّة لعِلم الآثار، واللجنة البابويّة للآثار المقدّسة، والأكاديميّة البابويّة لتكريم الشّهداء، والمعهد البابويّ لعِلم الآثار المسيحيّة: لكلٍّ منها خصوصيتها، وتشترك جميعها في رسالة واحدة. ومن الضّروريّ أن تتعاون هذه المؤسّسات، وأن تتواصل بعضها مع بعض وتسند بعضها البعض. وأن تنشئ طاقات منسجمة بينها، وتطوّر مشاريع مشتركة، وتعزّز الشّبكات الدّوليّة.

عِلم الآثار المسيحيّة ليس محصورًا في قلة من النّاس، بل هو مورد للجميع. ويمكنه أن يقدّم مساهمة أصيلة في معرفة البشريّة، واحترام التّنوّع، وتعزيز الثّقافة.

كما أنّ العلاقة مع الشّرق المسيحيّ يمكن أن تجد في عِلم الآثار أرضًا خصبة. فسراديب الشّهداء المشتركة، والكنائس المشتركة، والممارسات الليتورجيّة المتشابهة، وسنسكار الشّهداء المتقارب: كلّ هذا تراث روحيّ وثقافيّ يمكن أن نعمل على تعزيزه معًا.

التّربية على الذّاكرة، والحفاظ على الرّجاء

نحن نعيش في عالم يميل إلى النّسيان، ويسير بسرعة، ويستهلك الصّوّر والكلمات بدون أن يستوعب المعنى. أمّا الكنيسة، فهي مدعوّة إلى تربية الذّاكرة، وعِلم الآثار المسيحيّة هو أحد أسمى أدواتها للقيام بذلك. ليس للهروب إلى الماضي، بل للعيش في الحاضر بوَعي، وبناء المستقبل بجذور راسخة.

من يعرف تاريخه، يعرف من هو. يعرف إلى أين يذهب. ويعرف من هو ابنه، وإلى أيّ رجاء هو مدعوّ. المسيحيّون ليسوا أيتامًا. لهم نسب إيماني، وتقاليد حيّة، ووَحدة وشركة من الشّهود. عِلم الآثار المسيحيّة يجعل هذا النّسب مرئيًا، ويحفظ علاماته، ويفسّرها، ويرويها، وينقلها. بهذا المعنى، هو أيضًا خدمة للرّجاء، لأنّه يُبَيِّن أنّ الإيمان قد اجتاز أوقاتًا صعبة وصمد أمام الاضطهادات والأزمات والتّغيّرات. وعرف أن يجدّد نفسه، ويبتكر، ويترسّخ بين شعوب جديدة، ويزدهر بأشكال جديدة. من يدرس البدايات المسيحيّة يرى أنّ الإنجيل كان دائمًا قوّة تُوَلِّد الحياة، وأنّ الكنيسة كانت تُولَد دائمًا من جديد، وأنّ الرّجاء لم يَغِبْ يومًا.

* * *

أتوجّه إلى الأساقفة والمسؤولين عن الثّقافة والتّربية: شجّعوا الشّباب والعلمانيّين والكهنة على دراسة عِلم الآثار، الذي يقدّم آفاقًا تكوينيّة ومهنيّة واسعة داخل المؤسّسات الكنسيّة والمدنيّة، وفي الأوساط الأكاديميّة والاجتماعيّة، وفي ميادين الثّقافة والرّعاية.

أخيرًا، كلامي موجّه إليكم، إخوتي وأخواتي، العلماء والمدرّسين والطّلاب والباحثين والعاملين في التّراث الثّقافي، والمسؤولين الكنسيّين والعلمانيّين: عملكم ثمين. لا تدعوا الصّعوبات تُهبِط عزيمتكم. علِم الآثار المسيحيّة هو خدمة، وهو دعوة، وهو شكل من أشكال المحبّة للكنيسة وللإنسانيّة. استمرّوا في التّنقيب والدّراسة والتّعليم والرّواية. كونوا دؤوبين في البحث، ودقيقين في التّحليل، ومتحمّسين في نقل معارفكم. وفوق كلّ شيء، كونوا أمناء لمعنى التزامكم العميق: اجعلوا كلمة الحياة مرئية، واشهدوا أنّ الله صار جسدًا، وأنّ الخلاص ترك أثره، وأنّ سرّ الله صار تاريخًا يُروَى.

لترافقكم بركة الرّبّ يسوع جميعًا. ولتسندكم وَحدة وشركة الكنيسة. وليلهمكم نور الرّوح القدس، الذي هو ذاكرة حيّة وإبداع لا ينضب. ولتحفظكم مريم العذراء، التي عرفت كيف تتأمّل في كلّ شيء في قلبها، فجمعت الماضي والمستقبل في نظر الإيمان.

من الفاتيكان، يوم 11 كانون الأوّل/ديسمبر 2025.

لاوُن الرَّابع عشر

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2025

_____________________

[1] فرنسيس، رسالة في تجديد دراسة تاريخ الكنيسة (21 تشرين الثّاني/نوفمبر 2024): أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 116 (2024)، 1590.

[2] قواعد المعهد البابويّ لعِلم الآثار المسيحيّة (11 كانون الأوّل/ديسمبر 1925)، المادة 1: مجلّة عِلم الآثار المسيحيّة للجنة البابويّة للآثار المقدّسة، 3 (1926)، 21.

[3] بيوس الحادي عشر، رسالة بابويّة عامّة، نور الحقيقة (25 كانون الأوّل/ديسمبر 1931)، مقدّمة: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 23 (1931)، 493.

[4] Cf. P. Saint-Roch, Discours inaugural: a cura di N. Cambi – E. Marin, Acta XIII Congressus Internationalis Archaeologiae Christianae, I, Città del Vaticano 1998, 66-67.

[5] فرنسيس، رسالة إلى الكاردينال جانفرانكو رافاسي في مناسبة الدّورة العامّة الخامسة والعشرين للأكاديميّات البابويّة (1 شباط/فبراير 2022): أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 114 (2022)، 211.

[6] مثلًا، نجد في قانون الإيمان إشارة إلى بيلاطس البنطي، وهو شخصيّة تاريخيّة، فيسمح لنا ذلك بتحديد تاريخ الأحداث التي نتذكّرها.

[7] مجمع التربية الكاثوليكيّة، قواعد تطبيق للتنفيذ الأمين للدستور الرّسولي ”فرح الحقيقة“ (27 كانون الأوّل/ديسمبر 2017)، المادة 55، الفقرة 1 ب: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 110 (2018)، 149.

[8] فرنسيس، كلمة إلى المشاركين في الجمعيّة العامّة للجنة البابويّة للآثار المقدّسة (17 أيّار/مايو 2024): أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 116 (2024)، 697-698.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير