أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،
نحتفل اليوم بيوبيل الرّجاء، لأهل السّجون، من أجل الموقوفين، ومن أجل كلّ الذين يهتمّون بشؤونهم وبالسّجون. نحتفل بهذا اليوبيل قصدًا في الأحد الثّالث من زمن المجيء، الذي تسمّيه الليتورجيّا: أحد الفرح، ”افرَحوا!“، وهي الكلمة التي تبدأ بها آية الدخول في القدّاس الإلهيّ (راجع فيلبي 4، 4). إنّه أحد ”الفرح“ في السّنة الليتورجيّة، الذي يذكّرنا بمعنى الانتظار الذي يحمل النّور: انتظارٌ وثقة بأنّ شيئًا جميلًا ومفرحًا سيحدث.
وفي هذا الصّدد، في 26 كانون الأوّل/ديسمبر من السّنة الماضيّة، البابا فرنسيس، عند فتح الباب المقدّس في كنيسة ”الأبانا“ داخل سجن ريبيبيا (Rebibbia)، وجّه نداء إلى الجميع، قال: “أقول لكم أمرَين. أوّلًا: تمسّكوا بالحبل في يدكم وبمرساة الرّجاء. ثانيًّا: افتحوا أبواب قلوبكم على مصاريعها”. كان يشير إلى صورة مرساة تُلقى نحو الأبديّة، بما يتجاوز كلّ حواجز المكان والزّمان (راجع عبرانيين 6، 17-20)، ودعانا إلى أن نبقي الإيمان حيًّا بالحياة التي تنتظرنا، وأن نؤمن دائمًا بإمكانيّة مستقبل أفضل. وفي الوقت نفسه، دعانا إلى أن نكون صانعي عدل ومحبّة، بقلب كريم، في كلّ بيئة نعيش فيها.
ومع اقتراب اختتام سنة اليوبيل، يجب أن نعترف بأنّه لا يزال هناك الكثير الذي يجب القيام به في عالم السّجون أيضًا، بالرّغم من التزام الكثيرين. وكلمات النّبي أشعيا التي أصغينا إليها: “الَّذينَ فَداهُمُ الرَّبُّ يَرجِعون، ويَأتونَ إِلى صِهْيونَ بِهُتاف” (أشعيا 35، 10)، تذكّرنا بأنّ الله هو الذي يفدي ويحرّر، وهي تتردّد في آذاننا كرسالة مهمّة ومُلزِمَة لنا جميعًا. بالطّبع، السّجن بيئة صعبة، وحتّى أفضل النّوايا قد تواجه هنا عقبات كثيرة. لكن لهذا تحديدًا، ينبغي ألّا نتعب أو نصاب بالإحباط أو نتراجع، بل يجب أن نستمرّ بثبات وشجاعة وروح تعاون. في الواقع، لا يزال كثيرون لا يفهمون أنّنا، في كلّ سقطة، يجب أن نكون قادرين على النّهوض من جديد، وأنّ لا أحد يبقى في ما صنع، وأنّ العدالة هي دائمًا عمليّة إصلاح ومصالحة.
وعندما نحافظ، حتّى في الظّروف الصّعبة، على جمال المشاعر، والأحاسيس، والانتباه إلى احتياجات الآخرين، والاحترام، والقدرة على الرّحمة والمغفرة، إذّاك تُزهر في تربة الآلام الجافّة والخطيئة، أزهار رائعة، وتنضج حتّى خلف جدران السّجون مبادرات ومشاريع ولقاءات فريدة في إنسانيّتها. إنّها عمليّة فحص في مشاعر الإنسان وأفكاره، ضروريّة للأشخاص المحرومين حرّيّتهم، بل وأكثر ضرورة للذين يقع على عاتقهم مسؤوليّة كبيرة في تمثيل العدالة بينهم ومن أجلهم. اليوبيل هو دعوة إلى التّوبة، وهو بهذا المعنى سبب للرّجاء والفرح.
لذلك، من المهمّ أن ننظر أوّلًا إلى يسوع، وإلى إنسانيّته، وإلى ملكوته حيث “العُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْيًا سَوِيًّا […]، والفُقراءُ يُبَشَّرون” (متّى 11، 5)، ونتذكّر أنّ هذه المعجزات، وإن كانت تتمّ أحيانًا بتدخّل إلهيّ استثنائي، فهي تُوكَل غالبًا إلينا، وإلى رحمتنا واهتمامنا وحكمتنا وإلى مسؤوليّة جماعاتنا ومؤسّساتنا.
وهذا يقودنا إلى المعنى الآخر للنّبوءة التي أصغينا إليها: الالتزام بأن نعزّز في كلّ بيئة، ونؤكّد اليوم بصورة خاصّة في السّجون، حضارة قائمة على معايير جديدة، وفي نهاية المطاف تقوم على المحبّة، كما قال البابا القدّيس بولس السّادس في ختام سنة اليوبيل سنة 1975: “هذه – أي المحبّة – تريد أن تكون، خاصّة على مستوى الحياة العامّة، […] بدءَ السّاعةِ الجديدة، ساعة النّعمة والنّوايا الحسنة التي يبدأها لنا تقويم التّاريخ: حضارة المحبّة!” (المقابلة العامّة، 31 كانون الأوّل/ديسمبر 1975).
ولهذه الغاية، تمنّى البابا فرنسيس في مناسبة السّنة المقدّسة خصّوصًا، أن يتمّ أيضًا منح “أشكال من العفو أو تخفيف الأحكام التي تهدف إلى مساعدة الأشخاص على استعادة الثّقة بأنفسهم وبالمجتمع” (مرسوم الدّعوة إلى اليوبيل العادي، الرَّجاءُ لا يُخَيِّبُ، 10)، وأن تُقدَّم للجميع فُرص اندماج في المجتمع من جديد (راجع المرجع نفسه). أتمنّى أن تَستَجيب بلدانٌ كثيرة لرغبته هذه. اليوبيل، كما نعلَم، في أصله في الكتاب المقدّس، كان سنة نعمة، كان يُمنح الجميع فيها، وبطرق متعدّدة، إمكانيّة البدء من جديد (راجع الأحبار 25، 8-10).
الإنجيل الذي أصغينا إليه يُكلّمنا على ذلك أيضًا. فبينما كان يوحنّا المعمدان يعظ ويعمّد، كان يدعو الشّعب إلى التّوبة وإلى أن يعبر النّهر من جديد، وكان ذلك رمزًا، كما في عهد يشوع بن نون (راجع يشوع بن نون 3، 17)، ليدخل إلى ”أرض الميعاد“ الجديدة، أي إلى قلب متصالح مع الله ومع الإخوة. كان نبيًّا بليغًا: كان مستقيمًا، وزاهدًا، وصريحًا إلى حدّ أنّه تعرّض للسَّجن بسبب جرأة كلامه – لم يكُن “قَصَبةً تَهُزُّها الرِّيح” (متّى 11، 7) –، ومع ذلك، كان في الوقت نفسه غنيًّا بالرّحمة والتّفهّم تجاه الذين تابوا توبة صادقة، وكانوا يجاهدون ليغيّروا أنفسهم (راجع لوقا 3، 10-14).
في هذا الموضوع، اختتم القدّيس أغسطينس في إحدى شروحاته المعروفة لمقطع الإنجيل عن المرأة الزّانية والتي غُفِر لها (راجع يوحنّا 8، 1-11) قال: “انصرف المشتكون، وبقي معًا […] البائسة والرّحمة. وقال الرّبّ يسوع للبائسة: […] اذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئَة (يوحنّا 8، 10-11)” (العظة 302، 14).
أيّها الأعزّاء، المهمّة التي يكلّفكم بها الرّبّ يسوع، جميعكم، الموقوفين والمسؤولين عن عالم السّجون، ليست سهلة. المشاكل التي يجب مواجهتها كثيرة. لنفكّر في اكتظاظ السّجون، وفي الالتزام غير الكافي حتّى الآن لضمان برامج تربويّة ثابتة لإعادة التّأهيل وفرص العمل. ولا ننسَ، على المستوى الشّخصيّ، ثقل الماضي، والجراح التي تحتاج إلى علاج في الجسد والقلب، وخيبات الأمل، والصّبر الكثير المطلوب، مع أنفسنا ومع الآخرين، عندما نبدأ السّير في طريق التّوبة، وتجربة الاستسلام أو عدم المغفرة بعد الآن. ومع ذلك، الرّبّ يسوع يكرّر لنا باستمرار، بالرّغم من كلّ شيء، أنّ هناك أمرًا واحدًا مهمًّا: ألّا يَهلِك أحد (راجع يوحنّا 6، 39) وأن “يَخْلُصَ جَميعُ النَّاس” (1 طيموتاوس 2، 4).
ألّا يَهلِك أحد! وأن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاس! هذا ما يريده إلهنا، وهذا هو ملكوته، وهذا هو هدف عمله في العالم. مع اقتراب عيد الميلاد، نريد نحن أيضًا أن نعانق حُلمَه بقوّة أكبر، ونكون ثابتين في التزامنا (راجع يعقوب 5، 8) وواثقين. لأنّنا نعلَم أنّنا لسنا وحدنا، حتّى أمام أكبر التّحدّيات: الرّبّ يسوع قريب منّا (راجع فيلبي 4، 5)، ويسير معنا، وبوجوده إلى جانبنا، سيحدث دائمًا شيء جميل ومفرح.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2025
Copyright © دائرة الاتصالات – Libreria Editrice Vaticana
