أصحاب النّيافة الكرادلة،
الإخوة الموقرّون في الأسقفيّة والكهنوت،
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء!
نور الميلاد يشرق ويأتي للقائنا، ويدعونا إلى أن نكتشف الجديد الذي انطلق من مغارة بيت لحم المتواضعة ليضيء تاريخ البشريّة. في انجذابنا إلى هذا الجديد الذي يعانق كلّ الخليقة، لنسر في الفرح والرّجاء، لأنّه وُلِدَ لنا المخلّص (راجع لوقا 2، 11): صار الله بشرًا، وأخًا لنا، ويبقى إلى الأبد ”الله معنا“.
بهذا الفرح في قلوبنا، وبمشاعر الشّكر العميق، نستطيع أن ننظر إلى الأحداث المتعاقبة، حتّى في حياة الكنيسة. وهكذا، وقد اقتربنا من عشيّة عيد الميلاد، أحيّيكم جميعًا تحيّة حارّة، وأشكر عميد مجمع الكرادلة على كلامه – المفعم دائمًا بالحماس – وأودّ أوّلًا أن أذكر سلفِي الحبيب البابا فرنسيس، الذي ختم في هذه السّنة مسيرته الأرضيّة. لقد وسَمَ صوته النّبوي، وأسلوبه الرّعويّ، وتعليمه الغنيّ مسيرة الكنيسة في هذه السّنوات، وشجّعنا بصورة خاصّة لنضع من جديد رحمة الله في قلب أعمالنا، ولنعطي دفعة أقوى للبشارة بالإنجيل، ونكون كنيسة فرِحة ومبتهجة، تستقبل الجميع، ومتنبّهة لأشدّ النّاس فقرًا.
وانطلاقًا من إرشاده الرّسولي ”فرح الإنجيل“، أودّ أن أعود إلى جانبَين أساسيَّين من حياة الكنيسة: الرّسالة والوَحدة أي الشّركة.
الكنيسة، بطبيعتها، منفتحة إلى الخارج، ومتوجّهة نحو العالم، إنّها مُرسَلة. قَبِلَتْ من المسيح عطيّة الرّوح لتحمل إلى الجميع بُشرى محبّة الله السّارّة. وبصفتها علامة حيّة لهذه المحبّة الإلهيّة للبشريّة، وُجدت الكنيسة لتدعو وتستقبل وتجمع إلى المأدبة الاحتفاليّة التي يعدّها الرّبّ يسوع لنا، لكي يكتشف كلّ واحد أنّ الله يحبّه، وأنّه أخٌ لقريبه، وإنسان جديد على صورة المسيح، ومن ثمَّ فهو شاهد للحقّ والعدل والسّلام.
”فرح الإنجيل“ يشجّعنا لنتقدّم في تحويل الكنيسة لتكون إرساليّة، وهي تستمدّ قوّتها التي لا تنضب من تكليف المسيح القائم من بين الأموات لها. “في أمر يسوع هذا ”اذهبوا“، تَحضُرُنا المشاهد والتحدّياتُ الدّائمة التجدّد في رسالة الكنيسة للبشارة بالإنجيل، ونحن جميعًا مدعوّون إلى هذا ”الخروج“ الجديد الإرساليّ” (فرح الإنجيل، 20). وهذه الحالة الإرساليّة تنبع من كون الله نفسه، أوّلًا، قد خرج في مسيرة نحونا، وفي المسيح جاء يبحث عنا. بدأت الرّسالة في قلب الثّالوث الأقدس: في الواقع، كرّس الله الابن وأرسله إلى العالم “لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه، بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة” (يوحنّا 3، 16). فالخروج الكبير الأوّل هو خروج الله من ذاته ليلتقي بنا. وهذا ما يعلنه لنا سرّ الميلاد: رسالة الابن قوامها هو مجيئه إلى العالم (راجع القدّيس أغسطينس، الثّالوث، 4، 20. 28).
وكذلك رسالة يسوع على الأرض، التي يواصلها الرّوح القدس في رسالة الكنيسة، تصير معيار تمييز لحياتنا، ومسيرتنا الإيمانيّة، وممارساتنا الكنسيّة، وكذلك للخدمة التي نؤدّيها في الكوريا الرّومانيّة. في الواقع، الهيكليّات يجب ألّا تثقل أو تعيق مسيرة الإنجيل أو تحدّ من ديناميّة البشارة بالإنجيل، بل العكس، يجب “أن تصير كلَّها إرساليّة” (فرح الإنجيل، 27).
وبروح المسؤوليّة المشتركة المنبثقة من المعموديّة، فإنّنا جميعًا مدعوّون إلى أن نشارك في رسالة المسيح. كما ينبغي لعمل الكوريا أن يُحرّكه هذا الرّوح، وأن يعزّز الاهتمام الرّعويّ في خدمة الكنائس المحليّة ورعاتها. نحن بحاجة إلى كوريا رومانيّة فيها المزيد من عمل الرّسالة، حيث تصمَّم فيها المؤسّسات والمكاتب والمهام انطلاقًا من التحدّيات الكنسيّة والرّعويّة والاجتماعيّة الكبرى اليوم، وليس فقط مجرّد ضمان سير العمل الإداري العاديّ.
وفي الوقت نفسه، فإنّ الرّسالة في حياة الكنيسة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالوَحدة والشّركة. في الواقع، سرّ الميلاد، فيما يحتفل برسالة ابن الله بيننا، يتأمّل أيضًا في الغاية: لقد صالح الله العالم مع نفسه بالمسيح (راجع 2 قورنتس 5، 19)، وفيه جعلنا أبناءه. الميلاد يذكّرنا بأنّ يسوع جاء ليكشف لنا وجه الله الحقيقي الذي هو وجه الأب، لكي نصير جميعًا أبناءه، وبالتّالي إخوة وأخوات بعضنا لبعض. محبّة الآب، التي جسّدها يسوع وأظهرها في أعماله الباعثة على الحرّيّة وفي كرازته، تجعلنا، بالرّوح القدس، قادرين على أن نكون علامة لإنسانيّة جديدة، لا تقوم على منطق الأنانيّة والفرديّة، بل على المحبّة المتبادلة والتّضامن المتبادل.
وهذا واجب ملحّ جدًّا، في داخل الكنيسة وخارجها.
هو واجب في داخل الكنيسة، لأنّ الوَحدة والشّركة في الكنيسة تبقى دائمًا تحدّيًا يدعونا إلى التّوبة. أحيانًا، خلف مظاهر الهدوء، تتحرّك أشباح الانقسام، فتقودنا إلى الوقوع في تجربة التأرجح بين طرفَين متناقضَين: إمّا التّسوية بين كلّ شيء دون تقدير الاختلافات، أو العكس، تضخيم الاختلافات ووجهات النّظر بدل السّعي إلى الوَحدة والشّركة. وهكذا، في العلاقات الشّخصيّة، وفي ديناميّات المكاتب والوظائف الدّاخلية، أو عند معالجة قضايا الإيمان والليتورجيا والأخلاق وغيرها، قد نوشك أن نصير ضحيّة الجمود أو الإيديولوجيا، وما ينتج عنها من تناقضات.
لكنّنا نحن كنيسة المسيح، ونحن أعضاؤه، وجسده. نحن إخوة وأخوات فيه. وفي المسيح، على كثرتنا واختلافاتنا، نحن شيء واحد: “في المسيح الواحد نحن واحد”.
نحن مدعوّون، ولا سيّما هنا في الكوريا، إلى أن نكون بناة وَحدة وشركة في المسيح، التي يُراد لها أن تتجسّد في كنيسة سينوديّة، حيث يتعاون الجميع في الرّسالة الواحدة، كلٌّ بحسب موهبته والمهمّة الموكولة إليه. وهذا لا يُبنى بالكلام والوثائق فقط، بل يُبنى بالأعمال والمواقف العمليّة التي ينبغي أن تتجلّى في حياتنا اليوميّة، حتّى في مجال العمل. ويسعدني أن أذكر ما كتبه القدّيس أغسطينس في رسالته إلى بروبا (Proba): “في كلّ الأمور البشريّة، لا شيء يكون عزيزًا على الإنسان بدون صديق”. لكنّه تساءل بمرارة: “وكم يُوجد من أصدقاء أمناء إلى حدّ يمكن الوثوق بهم بأمان في ما يخصّ النّفس والسّلوك في هذه الحياة؟” (رسالة إلى بروبا، 130، 2. 4).
هذه المرارة تشقّ طريقها أحيانًا بيننا أيضًا، عندما نلاحظ بخيبة أمل، بعد سنوات طويلة من الخدمة في الكوريا، أنّ بعض الدّيناميّات المرتبطة بممارسة السّلطة، والرّغبة في التّصدّر، والسّعي إلى المصالح الخاصّة، لا تزال عصيّة على التّغيير. فنطرح السّؤال: هل يمكن أن نكون أصدقاء في الكوريا الرّومانيّة؟ هل يمكن أن تكون بيننا علاقات أخويّة صادقة؟ في تعب الحياة اليوميّة، ما أجمل أن نجد أصدقاء يمكن أن نثق بهم، حين تسقط الأقنعة والحِيَل، وحين لا يتّم استغلال الأشخاص أو تجاهلهم، وحين نتعاون ونعترف بقيمة كلّ واحد وكفاءته، ونتجنّب خلق الإحباطات والأحقاد. هناك توبة شخصيّة يجب أن نريدها ونسعى إليها، لكي يظهر في علاقاتنا حبّ المسيح الذي يجعلنا إخوة.
وهذا يصير علامة أيضًا خارج الكنيسة، في عالم مجروح بالنّزاعات والعنف والصّراعات، حيث نشهد تنامي العدوانية والغضب، ويستغلها مرارًا العالم الرّقمي والسّياسّة. ميلاد سيّدنا يسوع المسيح يحمل معه عطيّة السّلام، ويدعونا إلى أن نصير علامة نبويّة له في سياق إنسانيّ وثقافيّ شديد التمزّق. عمل الكوريا وعمل الكنيسة عمومًا يجب التّفكير فيه ضمن هذا الأفق الواسع: لسنا عمّالًا صغارًا في بستان نعتني بحدائقنا الخاصّة، بل نحن تلاميذ وشهود لملكوت الله، مدعوّون إلى أن نكون في المسيح خميرة أخوّة عالميّة بين شعوب مختلفة، وأديان مختلفة، وبين النّساء والرّجال من كلّ لغة وثقافة. وهذا يتحقّق عندما نعيش نحن أوّلًا إخوة، ونُشِعّ في العالم نور الوَحدة والشّركة.
أيّها الأعزّاء، الرّسالة والشّركة ممكنتان إن أعدنا وضع المسيح في المقام الأوّل. وذكّرنا يوبيل هذه السّنة بأنّه هو وحده الرّجاء الذي لا يخيّب. وخلال السّنة المقدسة، ذكّرتنا مناسبات مهمّة بحدثَين آخرَين: مجمع نيقية، الذي يعيدنا إلى جذور إيماننا، والمجمع الفاتيكانيّ الثّاني، الذي ثبَّت نظرنا في المسيح، ورسّخ الكنيسة ودفعها للقاء العالم، وجعلها في حالة إصغاء إلى أفراح النّاس وآمالهم، وإلى أحزانهم وقلقهم (راجع فرح ورجاء، 1).
اسمحوا لي أخيرًا أن أذكّر بأنّه قبل خمسين سنة، في عيد الحبل الطّاهر بسيّدتنا مريم العذراء، أصدر القدّيس البابا بولس السّادس الإرشاد الرّسوليّ ”البشارة بالإنجيل“ (Evangelii nuntiandi)، بعد الجمعيّة العامّة العاديّة الثّالثة لسينودس الأساقفة. وهو يُبَيِّن، من بين أمور أخرى، حقيقَتَين يمكننا أن نذكرهما هنا: أنّ “كلّ الكنيسة تسلّمت رسالة البشارة بالإنجيل، وعمل كلّ واحد مهمّ للكلّ” (رقم 15). وفي الوقت نفسه، القناعة بأنّ “شهادة حياة مسيحيّة أصيلة، مستسلمة بين يدَي الله في وحدة وشركة يجب ألّا يوقفها شيء، وتبذل نفسها بنفس القدر للقريب بغَيرة لا حدود لها، هي الوسيلة الأولى للبشارة بالإنجيل” (رقم 41).
لنتذكّر ذلك أيضًا في خدمتنا في الكوريا: عمل كلّ واحد مهمّ للكلّ، وشهادة حياة مسيحيّة تتجلّى في الوَحدة والشّركة هي الخدمة الأولى والأسمى التي يمكننا أن نقدّمها.
أصحاب النّيافة والسّيادة، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، نزل الله من السّماء وتنازل من أجلنا. وكما كتب بونهوفر (Bonhoeffer)، وهو يتأمّل في سرّ الميلاد: “الله لا يخجل من وضاعة الإنسان، بل يدخل فيها. […] الله يحبّ الإنسان الضّائع، ولا أهمّيّة له، والمُهمَّش، والضّعيف والمُتعَب” [1]. ليمنحنا الله هذا التّنازل نفسه، ورحمته نفسها، ومحبّته، لكي نصير تلاميذه وشهوده كلّ يوم.
أتمنّى لكم جميعًا من كلّ قلبي عيد ميلاد مجيد. ليحمل لنا الرّبّ يسوع نوره، ويمنح العالم السّلام.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2025
____________________
[1] D. Bonhoeffer, Riconoscere Dio al centro della vita, Brescia 2004, 12.
Copyright © دائرة الاتصالات – Libreria Editrice Vaticana
