Pape Léon XIV © Vatican Media

الأمانة التي تَلِدُ مستقبلًا

النصّ الكامل للرّسالة البابويَّة
للحبر الأعظم البابا لاوُن الرَّابع عشر
في مناسبة الذِّكرى السِّتين للقرارَين المجمعيَّين
التَّنشئة الكهنوتيَّة (OPTATAM TOTIUS)
وخدمة الكهنة الرَّاعويَّة وحياتهم (PRESBYTERORUM ORDINIS)

Share this Entry

1. الأمانة التي تَلِدُ مستقبلًا هي الدّعوة التي يُدعى إليها الكهنة اليوم أيضًا، في وعيٍ بأنّ المثابرة في الرّسالة الرّسوليّة تتيح لنا الإمكانيّة لأن نسأل أنفسنا في مستقبل الخدمة، ونساعد الآخرين ليتذوّقوا فرح الدّعوة الكهنوتيّة. الذّكرى السّتون للمجمع الفاتيكانيّ الثّانيّ، التي نحتفل بها في هذه السّنة، سنة اليوبيل، تمنحنا فرصةً لنتأمّل من جديد في عطيّة هذه الأمانة المثمرة، ونتذكّر تعاليم القرارَين التّنشئة الكهنوتيّة (Optatam totius) وخدمة الكهنة الرّاعويّة وحياتهم (Presbyterorum Ordinis)، اللذين أُعلنا في 28 تشرين الأوّل/أكتوبر و7 كانون الأوّل/ديسمبرتوبرحنا فرصةً لنعاين ايوم أيضاً سنة 1965 على التوالي. وثيقتان بروح كنسيّة واحدة، من كنيسة ترى نفسها أنّها مدعوّة إلى أن تكون علامة وأداة وَحدة لجميع الشّعوب، ومدعوّة في الوقت نفسه إلى أن تجدّد نفسها، وهي واعية بأنّ “التّجديد المنشود لكلّ الكنيسة يعتمد إلى حدٍّ كبير على الخدمة الكهنوتيّة التي ينعشها روح المسيح” [1].

2. إنّنا لا نحتفل بذكرى كتابات وأوراق! في الواقع، هاتان الوثيقتان ترتكزان بقوّة على فهم الكنيسة على أنّها شعب الله الحاجّ في التّاريخ، وهما محطة أساسيّة في التّفكير في طبيعة الخدمة الرّعويّة ورسالتها، وبالإعداد لها، وتحافظان عبر الزّمن على نضارتهما وحداثتهما. لذلك أدعو إلى مواصلة قراءة هاتَين الوثيقَتَين في الجماعات المسيحيّة، ودراستهما، ولا سيّما في الإكليريكيّات وفي جميع البيئات المعنيّة بالإعداد والتّنشئة للخدمة الكهنوتيّة.

3. هذان القراران، التّنشئة الكهنوتيّة (Optatam totius) وخدمة الكهنة الرّاعويّة وحياتهم (Presbyterorum Ordinis)، منغرسان بعمق في تقليد الكنيسة التّعليمي في سرّ الكهنوت، وقد وضعا أمام أنظار المجمع التّفكير في الكهنوت الخدمي، وبيَّنا اهتمام المجمع بالكهنة. وكان الهدف هو بلورة الأسّس اللازمة لتنشئة أجيال كهنة المستقبل بحسب التّجديد الذي أطلقه المجمع، مع الحفاظ على هوية الكهنوت الخدميّ، وفي الوقت نفسه، إظهار آفاق جديدة تدمج التّأمّل السّابق ضمن رؤية نموٍّ عقائديٍّ سليم. [2] ومن ثمّ ينبغي أن تبقى هاتان الوثيقتان ذاكرة حيّة، استجابة للدّعوة الموجَّهة إلى الكنيسة بأسرها: تقويّة الخدمة الكهنوتيّة دائمًا وكلّ يوم، مستمدين القوّة من الجذور، أي من الرّباط بين المسيح والكنيسة، لكي نكون، مع جميع المؤمنين وفي خدمتهم، تلاميذ مرسلين بحسب قلبه.

4. وفي الوقت نفسه، خلال العقود السّتة التي تلت المجمع، شهدت البشريّة وما زالت تشهد تحوّلات تتطلّب مراجعةً دائمةً للمسيرة التي سلكناها، وتحديثًا منسجمًا مع تعاليم المجمع. وعلى الخط نفسه، قاد الرّوح القدس الكنيسة إلى تنمية تعليم المجمع في طبيعة الكنيسة أنّها ”وَحدة وشركة“، وفق الطّريقة السّينوديّة والرّسوليّة. [3] ومن هذا المنطلق أوجّه هذه الرّسالة الرّسوليّة إلى كلّ شعب الله، لكي نعيد معًا النّظر في هوية الخدمة الكهنوتيّة ووظيفتها، في ضوء ما يطلبه الرّبّ يسوع اليوم من كنيسته، ونواصل العمل الكبير للتجديد الذي أطلقه المجمع الفاتيكانيّ الثّاني. وأقترح أن يتمّ ذلك بمنظور الأمانة التي هي، في الوقت نفسه، نعمة من الله ومسيرة دائمة من التّوبة، للاستجابة بفرح لدعوة الرّبّ يسوع. وأودّ أن أسبق وأشكر الكهنة لشهادتهم وتفانيهم، ولأنّهم يقدّمون حياتهم في كلّ أنحاء العالم، ويحتفلون بذبيحة المسيح في الإفخارستيّا، ويبشّرون بالكلمة، ويمنحون مغفرة الخطايا، ويكرّسون أنفسهم بسخاء، يومًا بعد يوم، للإخوة والأخوات، فيخدمون الشّركة والوَحدة، ويهتمّون بصورة خاصّة بالمتألّمين والمحتاجين.

 

الأمانة والخدمة

5. كلّ دعوة في الكنيسة تولد من لقاء شخصيّ مع المسيح، “الذي يعطي الحياة أفقًا جديدًا، وبالتّالي الاتّجاه الحاسم” [4]. فقبل كلّ التزام، وقبل كلّ طموح شخصيّ صالح، وقبل كلّ خدمة، صوت المعلّم هو الذي يدعو ويقول: ”تعالَ اتبعني“ (راجع مرقس 1، 17). إنّ ربّ الحياة يعرفنا، وينير قلوبنا بنظرة محبّته (راجع مرقس 10، 21). ليست الدّعوة مجرّد صوت في داخلنا، بل هي اندفاع روحيّ، يولد فينا مرارًا عبر مثال تلاميذ الرّبّ الآخرين، ويتجسّد في خيار شجاع في حياتنا. الأمانة للدّعوة، ولا سيّما في زمن الشّدّة والتّجربة، تتقوّى عندما لا ننسى ذلك الصّوت، وعندما نكون قادرين على أن نذكر بشغف نبرة صوت الرّبّ يسوع الذي يحبّنا ويختارنا ويدعونا، ثمّ نوكل أنفسنا للإرشاد اللازم للذين لهم خبرة في حياة الرّوح. صدى تلك الكلمة يصير عبر الزّمن مبدأ الوَحدة في داخلنا مع المسيح، وهي وحدة أساسيّة ولا غنى عنها في الحياة الرّسوليّة.

6. الدّعوة إلى الخدمة الكهنوتيّة هي عطيّة حرّة ومجانيّة من الله. في الواقع، الدّعوة لا تعني قيدًا يفرضه الرّبّ يسوع، بل هي عرض محبّة لمخطّط خلاص وحرّيّة لحياتنا، نقبله عندما ندرك، بنعمة الله، أنّ يسوع الرّبّ هو عماد وقلب حياتنا. إذّاك تنمو الدّعوة إلى الكهنوت وبها نقدّم ذاتنا لله، ومن ثمّ لشعبه المقدّس. وكلّ الكنيسة تصلّي وتفرح بهذه العطيّة بقلب مفعم بالرّجاء والشّكر، كما عبّر عن ذلك البابا بندكتس السّادس عشر في ختام سنة الكهنوت. قال: “أردنا أن نوقظ الفرح لقرب الله منّا، والشّكر لكونه يثق بضعفنا، ويقودنا ويسندنا يومًا بعد يوم. وأردنا أيضًا أن نُظهر من جديد للشّباب أنّ هذه الدّعوة، وهذه الوَحدة والشّركة في خدمة الله ومع الله، موجودة، بل إنّ الله ينتظر جوابنا بكلمة ”نعم“” [5].

7. كلّ دعوة هي عطيّة من الآب، تطلب أن تُصان بالأمانة في ديناميّة توبة دائمة. الطّاعة للدّعوة تُبنى يومًا بعد يوم بالإصغاء إلى كلمة الله، والاحتفال بالأسرار المقدسّة، ولا سيّما الذّبيحة الإفخارستيّة، وبالبشارة بالإنجيل، والقرب من الأخيرين، والأخوّة الكهنوتيّة، وترتكز على الصّلاة كمكان مميّز للقاء الرّبّ يسوع. وكأنّ الكاهن يعود كلّ يوم إلى بحر الجليل، حيث سأل يسوع بطرس: “أَتُحِبُّني؟” (يوحنّا 21، 15)، لكي يجدّد جوابه ”نعم“. [6] ومن هنا نفهم ما يشير إليه القرار Optatam totius بشأن التّنشئة الكهنوتيّة، إذ المطلوب هو ألّا يقتصر على زمن الإكليريكيّة (راجع رقم 22)، بل يفتح الطّريق أمام تنشئة دائمة ومتواصلة، هي ديناميّة تجدّد إنسانيّ وروحيّ وفكريّ ورعويّ مستمرّ.

8. لذلك، يُدعى جميع الكهنة إلى الاهتمام الدّائم بتنشئة أنفسهم، لكي تبقى حيّة فيهم عطيّة الله التي قبلوها بسرّ الكهنوت (راجع 2 طيموتاوس 1، 6). الأمانة للدّعوة ليست جمودًا ولا انغلاقًا، بل مسيرة توبة يوميّة تثبِّت وتُنضِج الدّعوة التي قبلناها. ومن هذا المنظور، من المناسب أن نشجّع مبادرات مثل مؤتمر التّنشئة الدّائمة للكهنة، الذي انعقد في الفاتيكان من 6 إلى 10 شباط/فبراير 2024 بمشاركة أكثر من ثمانمائة مسؤول عن التّنشئة الدّائمة من ثمانين دولة. وقبل أن تكون التّنشئة الدّائمة جهدًا فكريًّا أو تحديثًا رعويًّا، هي ذاكرة حيّة وتفعيل دائم للدّعوة الشّخصيّة في مسيرة مشتركة.

9. منذ لحظة الدّعوة والتّنشئة الأولى، جمال المسيرة وثباتها يُصان باتّباع المسيح. فكلّ راعٍ، قبل أن يكرّس نفسه لقيادة القطيع، يجب أن يتذكّر دائمًا أنّه هو نفسه تلميذ للمعلّم، مع الإخوة والأخوات، لأنّنا “نبقى طوال حياتنا تلاميذ، مع توقٍ دائم إلى التّشبّه بالمسيح” [7]. وهذه العلاقة فقط، اتّباع المسيح المطيع والتتلمذ الأمين قادرة على أن تبقي العقل والقلب في الاتّجاه الصّحيح، بالرّغم ممَّا قد تحمله الحياة من اضطرابات.

10. وفي العقود الأخيرة، أزمة الثّقة بالكنيسة، النّاجمة عن الإساءات والتّجاوزات التي ارتكبها بعض أعضاء الإكليروس، والتي تملؤنا خجلًا وتدعونا من جديد إلى التّواضع، جعلتنا أكثر وعيًّا بالحاجة الملحّة إلى تنشئة متكاملة تضمن النّمو والنّضج الإنسانيّ للمرشّحين للكهنوت، مع حياة روحيّة غنيّة ومتينة.

11. ويظلّ موضوع التّنشئة محوريًّا أيضًا لمواجهة ظاهرة الذين يتركون الخدمة بعد سنوات، أو حتّى بعد عقود. في الواقع، هذه الحقيقة المؤلمة ينبغي ألّا نفسّرها فقط من منظور قانوني، بل تتطلّب أن ننظر بانتباه ورحمة إلى مسيرة هؤلاء الإخوة وإلى الأسباب المتعدّدة التي قد تكون قادتهم إلى هذا القرار. والجواب المطلوب هو أوّلًا التزام متجدّد بالتّنشئة، هدفه “مسيرة ألفة مع الرّبّ يسوع تشمل كلّ الإنسان، القلب، والعقل، والحرّيّة، وتصوغه على صورة الرّاعي الصّالح” [8].

12. وبالتّالي، “ينبغي أن تكون الإكليريكيّة، بأيّ شكلٍ كانت، مدرسةً لتربية المشاعر […]. نحن بحاجة إلى أن نتعلّم كيف نحبّ، وأن نحب كما أحبّ يسوع”. لذلك أدعو الإكليريكيّين إلى أن يقوموا بعمل تدقيق في داخلهم فيرون ما هي الأسباب التي تدفعهم في كلّ أوجه حياتهم: “في الواقع، يجب ألّا تتخلّوا عن أيّ شيء فيكم، بل يجب أن تقبلوا كلّ شيء وتحوّلوه وفق منطق حبّة الحنطة، لكي تصيروا أشخاصًا وكهنة سعداء، ”جسورًا“ لا عوائق أمام لقاء المسيح لكلّ من يقترب منكم” [9]. فالكهنة والمكرّسون النّاضجون إنسانيًّا والرّاسخون روحيًّا، أي الذين يتكامل فيهم البُعدان الإنسانيّ والرّوحيّ، والقادرون على علاقات أصيلة مع الجميع، هم وحدهم يستطيعون أن يلتزموا بالعزوبة وأن يعلنوا إنجيل الرّبّ القائم من بين الأموات بطريقة صادقة.

13. لذلك، يجب أن نصون الدّعوة وننمّيها في مسيرة دائمة في التّوبة والأمانة المتجدّدة، ولن تكون أبدًا مسيرة فرديّة، بل تُلزِمُنا بأن نهتمّ بعضنا ببعض. وهذه الدّيناميّة هي دائمًا عمل النّعمة التي تعانق إنسانيتنا الهشّة، وتشفيها من النّرجسيّة ومن تركيز كلّ شيء على الأنا. بالإيمان والرّجاء والمحبّة، نحن مدعوّون إلى أن نسلك كلّ يوم طريق اتّباع يسوع، ونضع كلّ ثقتنا في الله. فلا يمكن تحقيق الوَحدة والشّركة والسّينوديّة والرّسالة، إن لم تَغِب عن قلوب الكهنة تجربة المرجعيّة الذّاتيّة وإن لم يحِلَّ محلّها منطق الإصغاء والخدمة. قال البابا بندكتس السّادس عشر: “الكاهن هو خادم المسيح، بمعنى أنّ حياته، التي صُوِّرَتْ بصورة المسيح في عمق وجوده، تتّخذ طابعًا علائقيًّا جوهريًّا: فهو في المسيح، وللمسيح، ومع المسيح، في خدمة البشر. وبما أنّه ينتمي إلى المسيح، فإنّ الكاهن هو أساسًا في خدمة البشر: هو خادم خلاصهم وسعادتهم وتحرّرهم الحقيقيّ، ويَنضُجُ، في هذا الاتّحاد التّدريجي بإرادة المسيح، في الصّلاة، وفي ”بقاء قلبه مع قلب المسيح“” [10].

 

الأمانة والأخوّة

14. وضع المجمع الفاتيكانيّ الثّانيّ خدمة الكهنة الخاصّة في إطار الكرامة المتساويّة وأخوّة جميع المعمّدين، كما يشهد بوضوح قرار خدمة الكهنة الرّاعويّة وحياتهم (Presbyterorum Ordinis): “كهنة العهد الجديد، وإن كانوا بحكم سرّ الكهنوت يؤدّون مهمّة سامية ولا غنى عنها كآباء ومعلّمين في شعب الله ومن أجل شعب الله، إلّا أنّهم يظلّون تلاميذ للرّبّ يسوع كسائر المؤمنين، ومدعوّين إلى أن يشتركوا في ملكوته بنعمة الله. وفي وسط جميع الذين وُلدوا من جديد بمياه المعموديّة، الكهنة هم إخوة لهم، وأعضاء في جسد المسيح الواحد، الذي إنماؤه هو مهمّة الجميع” [11]. وداخل هذه الأخوّة الأساسيّة، المتجذّرة في المعموديّة والتي توحّد كلّ شعب الله، يُبَيِّنُ المجمع الرّباط الأخويّ الخاصّ بين الخدّام المرسومين، القائم على سرّ الكهنوت نفسه: “جميع الكهنة، الذين أُقيموا في رتبة الكهنوت بالسّيامة، متّحدون فيما بينهم بأخوّة مقدّسة وحميمة بقوّة الأسرار المقدسّة، وهم بشكل خاصّ يشكّلون جسمًا كهنوتيًّا واحدًا في الأبرشيّة التي يخدمونها تحت رئاسة أسقفهم. […] وبذلك يرتبط كلّ واحد منهم بسائر أعضاء هذا الكهنوت بروابط خاصّة من المحبّة الرّسوليّة، والخدمة، والأخوّة” [12]. فالأخوّة الكهنوتيّة، قبل أن تكون مهمّةً تُؤدَّى، هي عطيّة كامنة في نعمة السّيامة. يجب أن نُدرك أنّ هذه العطيّة تسبقنا ولا تُبنى فقط بحسن النّية أو بالجهد الجماعيّ، بل هي عطيّة ونعمة من الله تجعلنا شركاء في خدمة الأسقف، وتتحقّق في الوَحدة والشّركة معه ومع الإخوة.

15. ولهذا، فإنّ الكهنة مدعوّون إلى أن يستجيبوا لنعمة الأخوّة، فيبيّنوا ويؤكّدوا في حياتهم، عبر الأمانة للوَحدة والشّركة التي تربطهم لا بنعمة المعموديّة فقط، بل أيضًا بسرّ الكهنوت. فالأمانة للوَحدة والشّركة تعني أوّلًا أن نتجاوز تجربة الفرديّة، التي لا تنسجم مع عمل الرّسالة والبشارة بالإنجيل، التي تهمّ دائمًا كلّ الكنيسة. وليس من قبيل الصّدفة أنّ المجمع الفاتيكانيّ الثّانيّ تكلّم على الكهنة مرارًا بصيغة الجمع، لا يوجد أبدًا راعٍ وحده: الرّبّ يسوع نفسه “أَقامَ مِنهُمُ اثنَي عَشَرَ -سمّاهم رسلًا – لِكَي يَصحَبوه” (مرقس 3، 14). وهذا يعني أنّه لا يمكن أن توجد خدمة منفصلة عن الوَحدة والشّركة مع يسوع المسيح ومع جسده، أي الكنيسة. وأن نزيد وضوحًا هذا البعد، العلاقة والشّراكة في الخدمة الكهنوتيّة، واعين أنّ وَحدة الكنيسة تنبع “من وَحدة الآب والابن والرّوح القدس” [13]، هو أحد تحدّيات المستقبل الكبرى، ولا سيّما في عالم يتميّز بالحروب والانقسامات والنّزاعات.

16. لذلك يجب اعتبار الأخوّة الكهنوتيّة عنصرًا مكوِّنًا لهوية الكهنة، [14] لا مجرّد مثال أو شعار، بل هو وجه من كياننا يتطلّب التزامًا متجدّدًا. وفي هذا الإطار، تمّ إنجاز الكثير بتطبيق توجيهات القرار المجمعيّ في خدمة الكهنة الرّاعويّة وحياتهم (Presbyterorum Ordinis) (راجع رقم 8)، لكن ما زال هناك الشّيء الكثير الذي ينتظر التّنفيذ، بدءًا مثلًا بتحقيق العدالة الاقتصاديّة بين من يخدمون رعايا فقيرة ومن يؤدّون خدمتهم في جماعات ميسورة. كما ينبغي الإقرار بأنّ الضّمانات اللازمة للمرض والشّيخوخة غير مؤمّنة بعد في العديد من البلدان والأبرشيّات. العناية المتبادلة، ولا سيّما الاهتمام بالإخوة الذين يحيون في الوِحدة والعزلة، وكذلك بالمرضى والمسنّين، لا تقلّ أهمّيّة عن العناية بالشّعب الموكول إلينا. وقد أوصيتُ بهذا الموضوع الكهنة في مناسبة يوبيلهم الأخير: “في الواقع، كيف يمكننا نحن الخُدّام أن نكون بُناة لجماعات مؤمنين حيّة، إن لم تَسُد أوّلًا بيننا أخوّة حقيقيّة وصادقة” [15].

17. في كثير من السّياقات، ولا سيّما في الغرب، تظهر تحدّيات جديدة في حياة الكهنة، مرتبطة بحركة النّاس في عصرنا وتفكّك النّسيج الاجتماعيّ. وهذا يجعل الكهنة أقلّ اندماجًا في بيئة متماسكة ومؤمنة كانت تسند خدمتهم في الماضيّ، وهم اليوم أكثر عرضة لوِحدة تطفئ الاندفاع الرّسوليّ وقد تقود إلى انطواء حزين على الذّات. ولهذا أيضًا، واتّباعًا لتوجيهات أسلافي، [16] أتمنّى أن ينشأ في جميع الكنائس المحليّة التزام متجدّد لتوفير أشكال ممكنة من الحياة المشتركة وتعزيزها، “لكي يتمكّن الكهنة من أن يساعدوا بعضهم بعضًا على تنمية الحياة الرّوحيّة والفكريّة، ويتعاونوا بصورة أكثر فعّالية في الخدمة، ويتجنّبوا أخطار العزلة” [17].

18. ومن جهة أخرى، من الضّروري أن نذكّر بأنّ الشّركة الكهنوتيّة لا تعني أبدًا طمس الأفراد، أو المواهب التي أفاضها الله في حياة كلّ واحد. من المهمّ أن يعمل الأسقف، وبوساطة مجالس الكهنة في الأبرشيّة، لكي يجد توازنًا بين تقدير هذه العطايا الفرديّة والمحافظة على الوَحدة والشّركة. مدرسة السّينوديّة، في هذه الرّؤية، يمكن أن تساعد الجميع على النّضوج الدّاخليّ في قبول تنوّع المواهب ضمن وَحدة تعزّز الشّركة بين الكهنة، بالأمانة للإنجيل ولتعاليم الكنيسة. وفي زمن كثر فيه الضّعف، جميع الخدّام المرسومين مدعوّون إلى أن يعيشوا الشّركة بالعودة إلى الجوهر، والقرب من النّاس، للمحافظة على الرّجاء الذي يتجسّد في خدمة متواضعة وعمليّة. في هذا المجال، تُعدّ خدمة الشّماس الدّائم، الشّبيه بمثال المسيح الخادم، علامةً حيّةً على محبّةٍ لا تبقى سطحيّة، بل تنحني وتصغي وتبذل نفسها. إنّ جمال كنيسةٍ يتعاون فيها الكهنة والشّمامسة، متّحدين بالحبّ نفسه للإنجيل، ومتنبّهين لأشّد النّاس فقرًا، يصير شهادة مضيئة للوَحدة والشّركة. فبحسب كلام يسوع (راجع يوحنّا 13: 34-35)، من هذه الوَحدة المتجذّرة في المحبّة المتبادلة، تستمدّ البشارة المسيحيّة مصداقيتها وقوّتها. ولهذا فإنّ الخدمة الشّماسيّة، ولا سيّما عندما تُعاش في شركة مع العائلة، هي عطيّة يجب أن نعرفها، ونقدّرها، ونسندها. الخدمة المتواضعة، لكن الأساسيّة، لرجالٍ مكرّسين للمحبّة، تذكّرنا بأنّ الرّسالة لا تتحقّق بالأعمال الكبيرة، بل بالاتّحاد في الحبّ من أجل الملكوت، وبالأمانة اليوميّة للإنجيل.

19. قال القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ في رسالته إلى أهل أفسس كلامًا هو بمثابة أيقونة للأمانة البهيجة والبليغة للوَحدة الكنسيّة: “يليق بكم أن تسيروا في انسجام مع فكر الأسقف، كما تفعلون أصلًا. في الواقع، كهنتكم الجديرون بأن يُذكَروا بالثّناء، الجديرون بالله، منسجمون تمامًا مع الأسقف، مثل أوتار القيثارة. ولهذا، في وَحدتكم ومحبّتكم المتناغمة، يُسبَّح يسوع المسيح. […] فمن الأفضل إذن أن تكونوا في وَحدة لا لوم فيها، لكي تشاركوا دائمًا في الله” [18].

 

الأمانة والسّينوديّة

20. أصِلُ الآن إلى موضوع له مكانةً خاصّة في قلبي. عندما يتكلّم القرار المجمعيّ في خدمة الكهنة الرّاعويّة وحياتهم (Presbyterorum Ordinis) على هوية الكهنة، فإنّه يبيّن أوّلًا الرّباط مع كهنوت يسوع المسيح ورسالته (راجع رقم 2)، ثمّ يشير إلى ثلاثة أمور أساسيّة: العلاقة مع الأسقف، الذي يرى في الكهنة “معاونين ومستشارين ضروريّين”، ويحافظ معهم على علاقة أخويّة وودّية (راجع رقم 7). ثمّ الوَحدة والشّركة الأسراريّة والأخوّة مع سائر الكهنة، فيسهمون معًا “في عمل واحد” ويقومون “بخدمة واحدة”، ويعملون جميعًا “من أجل القضيّة نفسها”، وإن اختلفت المهام الموكولة إليهم (رقم 8). وأخيرًا العلاقة مع المؤمنين العلمانيّين، الذين يكون الكهنة في وسطهم، وبحسب مهمّتهم الخاصّة: إنّهم إخوة بين إخوة، مشاركين في كرامة المعموديّة الواحدة، فيوحّدون “جهودهم مع جهود المؤمنين العلمانيّين”، ويستفيدون “من خبرتهم وكفاءتهم في مختلف مجالات النّشاط الإنسانيّ، لكي يتمكّنوا معًا من تمييز علامات الأزمنة”. ومن ثمَّ بدلًا من التسلّط أو حصر جميع المهام في ذاتهم، “عليهم أن يكتشفوا بروح الإيمان المواهب، سواء المتواضعة أم السّامية، التي تُمنَح للعلمانيّين بأشكال متعدّدة” (رقم 9).

21. في هذا المجال، لا يزال هناك شيء كثير يجب أن نقوم به. اندفاع المسار السّينودي هو دعوة قويّة من الرّوح القدس لنتّخذ خطوات حاسمة في هذا الاتّجاه. ولذلك أؤكّد رغبتي في “دعوة الكهنة […] إلى أن يفتحوا قلوبهم بطريقة ما ويشاركوا في هذه المسارات” [19] التي نعيشها. بهذا المعنى، اقترحت الدّورة الثّانية للجمعيّة السّينوديّة السّادسة عشرة، في الوثيقة الختاميّة، [20] ضرورة الارتداد أو التّوبة في العلاقات وفي النّشاطات. ويبدو أساسيًّا أن تُطلق، في جميع الكنائس الخاصّة، مبادرات مناسبة تمكّن الكهنة من التعرّف على الخطوط التّوجيهيّة لهذه الوثيقة، ومن اختبار خصوبة الأسلوب الكنسيّ السّينوديّ.

22. كلّ هذا يتطلّب التزامًا في التّنشئة على جميع المستويّات، ولا سيّما في مجال التّنشئة الأولى والدّائمة للكهنة. ففي كنيسةٍ تزداد فيها السّينوديّة والرّسالة، خدمة الكهنوت لا تفقد شيئًا من أهمّيّتها وضرورتها، بل تستطيع أن تركّز بشكل أوضح على مهامها الخاصّة والمميّزة. وتبقى تحدّيات السّينوديّة، التي لا تلغي الاختلافات بل تقدّرها، واحدة من أهمّ الفرص الأساسيّة لكهنة المستقبل. وتذكّرنا الوثيقة الختاميّة المذكورة، بأنَّ “الكهنة مدعوّون إلى أن يعيشوا خدمتهم في موقف قربٍ من النّاس، وقبول، وإصغاء إلى الجميع، عليهم أن يفتحوا أنفسهم على أسلوب سينودسي” (رقم 72). ولتجسيد لاهوت الشّركة الكنسيّة على نحوٍ أفضل، يجب أن تتجاوز خدمة الكاهن طريقة القيادة الفرديّة، التي تفضي إلى تركيز الحياة الرّعويّة وتحميل الكاهن وحده جميع المسؤوليّات، بل يجب أن تتّجه إلى قيادة فيها مزيد من المشاركة الجماعيّة، في تعاونٍ بين الكهنة والشّمامسة وكلّ شعب الله، ضمن ذلك الإغناء المتبادل والذي هو ثمرة تنوّع المواهب التي يرسلها الرّوح القدس. ويذكّرناالإرشاد الرّسولي ”فرح الإنجيل“، أنَّ الكهنوت الخدمي والتّشبّه بالمسيح العريس يجب ألّا يقودانا إلى مساواة سلطة السّر بالقدرة والسّلطان، لأنّ “تشبّه الكاهن بالمسيح الرأس، أي باعتباره مصدر النّعمة الرّئيسيّ، لا يعني تمجيد الكاهن فوق كلّ شيء” [21].

 

الأمانة والرّسالة

23. هوية الكهنة تُبنَى على كونهم ”من أجل“ الآخرين، ولا يمكن فصلها عن رسالتهم. في الواقع، من “يدّعي العثور على هويته الكهنوتيّة عبر تفحّصٍ باطنيٍّ داخليّ، قد لا يجد إلّا إشارات تقول له: ”اخرج“: اخرج من ذاتك، واخرج باحثًا عن الله في السّجود، واخرج وأعطِ شعبك ما أُوكل إليك، وسيهتمّ شعبك بأن يجعلك تشعر وتختبر من أنت، وما اسمك، وما هي هويتك، وسيُفرحك مئة ضعف، كما وعد الرّبّ يسوع خدامه. أمّا إن لم تخرج من ذاتك، فإنّ الزّيت يفسد، وتفقد المسحة مفعولها” [22].  قال القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني، “إنّ الكهنة، في الكنيسة ومن أجل الكنيسة، إنّهم يعيدون بطريقة الأسرار حضور يسوع المسيح الرّأس والرّاعي، ويعلنون كلمته بسلطان، ويعيدون أفعال المغفرة وتقدمة الخلاص، ولا سيّما في المعموديّة وسرّ التّوبة والإفخارستيّا، ويمارسون العناية المليئة بالمحبّة حتّى بذل الذّات كاملة من أجل القطيع، الذي يجمعونه في الوَحدة ويقودونه إلى الآب بالمسيح في الرّوح” [23]. وهكذا تتجلّى الدّعوة الكهنوتيّة بين أفراح ومتاعب خدمةٍ متواضعة للإخوة، قد لا يعترف بها العالم، لكنّه يتوق إليها بعمق: فلقاء شهودٍ مؤمنين وصادقين لمحبّة الله الأمينة والرّحيمة هو طريق أساسيّ للبشارة بالإنجيل.

24. في عالمنا المعاصر، المميّز بإيقاعات متسارعة وبقلق الاتّصال الدّائم، الذي يضعنا مرارًا في حالة جنونيّة ويدفعنا إلى النّشاط المفرط، تظهر على الأقل تجربتان تهدّدان الأمانة لهذه الرّسالة. الأولى هي عقليّة تركّز على القدرة الإنتاجيّة، يُقاس فيها الإنسان بما ينجزه من أنشطة ومشاريع.ووفقًا لهذا التّفكير، فإنّ إنتاجك أهمّ من هويتك، وهذا يقلب التّرتيب الحقيقيّ في اعتبار الهوية الرّوحيّة. أمّا التّجربة الثّانية، فهي، على النّقيض، نوع من الطّمأنينة الزّائدة: نخاف من الواقع، فننكفئ على ذاتنا، ونرفض تحدي البشارة بالإنجيل، ونتخذ موقفًا كسولًا ومُحبِطًا. على عكس ذلك، الخدمة المندفعة بالفرح والشّغف، بالرّغم من كلّ أنواع الضّعف البشريّ، تقدر ويجب أن تَوصِّلَ، بحماس واندفاع، البشارة بالإنجيل إلى جميع مجالات مجتمعنا، ولا سّيما الثّقافة والاقتصاد والسّياسة، لكي يكون كلّ شيء واحدًا في المسيح (راجع أفسس 1، 10). وللتغلّب على هاتَين التّجربتَين ولتكون خدمتنا مثمرة في الفرح، ليبقَ كلّ كاهن أمينًا للرّسالة التي قَبِلها، أي لموهبة النّعمة التي سلّمها إليه الأسقف يوم السّيامة الكهنوتيّة. والأمانة للرّسالة تعني أن نتبنّى المبدأ الذي سلّمه إلينا القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني، حين ذكّر الجميع بأنّ المحبّة الرّعويّة هي المبدأ الذي يوحّد حياة الكاهن. [24] إنّ إبقاء نار المحبّة الرّعوية حيّة، أي محبّة الرّاعي الصّالح، هو ما يمكّن كلّ كاهن من أن يجد التّوازن في حياته اليوميّة، ومن تمييز ما يفيد وما هو جوهر خدمته، بحسب توجيهات الكنيسة.

25. الانسجام بين التأمّل والعمل لا يتحقّق عبر اتّباع نماذج تنظيميّة مرهقة أو عبر مجرّد التّوازن بين الأنشطة، بل بأن يكون البعد الفصحيّ هو محور الخدمة. فعطاء الذّات بلا تحفظ في كلّ حالة لا يمكن ويجب ألّا يعني التخلّي عن الصّلاة أو الدّراسة أو الأخوّة الكهنوتيّة، بل العكس، بالعطاء ينفتح الأفق ويصير كلّ شيء له معنى بقدر ما يتّجه نحو الرّبّ يسوع، الذي مات وقام من بين الأموات من أجل خلاص العالم. هكذا تتحقّق أيضًا وعود الرّسامة، التي تنمّي في قلب الكاهن بحثًا دائمًا عن مشيئة الله والتّمسّك بها، مع التّجرّد من الخيرات الماديّة، ما يجعل المسيح يتجلّى في كلّ أعماله. ويتجلّى ذلك، مثلًا، في الهروب من كلّ تركيز على الذّات ومن كلّ تمجيد للذّات، بالرّغم من أنّ الخدمة تلزمنا بالعمل للخدمة العامّة. السّرّ الذي يحتفل به الكاهن في الليتورجيّا المقدّسة، يجب أن يَصُوغَ الكاهن، فيختفي هو لكي يبقى المسيح، ويصير هو صغيرًا لكي يُعرَف المسيح ويُمجَّد، ويبذل نفسه حتّى النّهاية لكي لا يُحرَم أحد من فرصة معرفة المسيح ومحبّته” [25]. ولهذا يجب دائمًا إعادة النّظر في الظّهور في الإعلام، وفي استخدام وسائل التّواصل الاجتماعي وسائر الأدوات المتاحة اليوم، بحكمة، فنضع معيار خدمة البشارة بالإنجيل أساسًا للتمييز. “كُلُّ شَيءٍ يَحِلُّ لي، ولكِن لَيسَ كُلُّ شَيءٍ يَنفَع” (1 قورنتس 6، 12).

26. في كلّ ظرف، الكهنة مدعوّون إلى أن يقدّموا جوابًا فعّالًا، بشهادة حياة بسيطة وعفيفة، على الجوع الكبير في المجتمع المعاصر إلى علاقات أصيلة وصادقة، ويشهدوا على كنيسة تكون “خميرة فعّالة للروابط والعلاقات والأخوّة والعائلة البشريّة”، “وقادرة على تغذيّة العلاقات: مع الرّبّ يسوع، وبين الرّجال والنّساء، وفي العائلات، وفي الجماعات، وبين جميع المسيحيّين، وبين المجموعات الاجتماعيّة، وبين الأديان” [26]. ولتحقيق ذلك، لا بدّ من أن يقوم الكهنة والعلمانيّون معًا بتوبة حقيقيّة لحمل الرّسالة، توجّه الجماعات المسيحيّة، تحت قيادة رعاتها، “لخدمة الرّسالة التي يضطلع بها المؤمنون داخل المجتمع، وفي الحياة العائليّة والمهنيّة”. وكما لاحظ السّينودس، “سيتضح عندئذٍ بشكل أوضح أنّ الرّعية ليست متمركزة على نفسها، بل متّجهة نحو الرّسالة، ومدعّوة إلى أن تسند التزام كثيرين، يعيشون ويشهدون لإيمانهم بطرق مختلفة في حياتهم المهنيّة وأنشطتهم الاجتماعيّة والثّقافيّة والسّياسيّة” [27].

 

الأمانة والمستقبل

27. أتمنّى أن تتحوّل ذكرى الاحتفال بالقرارَين المجمعيَّين، والمسيرة التي نحن مدعوّون إلى المشاركة فيها وتفعيلها، إلى عنصرة دعوات متجدّدة في الكنيسة، توقظ دعواتٍ مقدّسة، ووافرة، وثابتة إلى الكهنوت الخدمي، لكي لا ينقص أبدًا العمّال في حصاد الرّبّ. وأتمنّى أن يحيي هذا الاحتفال فينا جميعًا الرّغبة في أن نلتزم بصورة كاملة لتشجيع الدّعوات والصّلاة الدّائمة إلى ربّ الحصاد (راجع متّى 9، 37-38).

28. ومع الصّلاة، فإنّ النّقص في الدّعوات إلى الكهنوت، ولا سيّما في بعض مناطق العالم، يدعو الجميع إلى أن يعيدوا النّظر في طبيعة ممارسات الكنيسة الرّعويّة وفي قدرتها على إعطاء الثّمر. صحيح أنّ أسباب هذه الأزمة قد تكون غالبًا متنوعة ومتعدّدة، وقد تكون خصوصًا مرتبطة بالسّياق الاجتماعيّ-الثّقافي، لكن في الوقت نفسه، من الضّروري أن نتحلّى بالشّجاعة لنقدّم للشباب مقترحات قويّة ومحرِّرة، وأن نضمن أن تنمو في الكنائس الخاصّة “بيئات وطرق رعويّة شبابيّة مشبعة بالإنجيل، حيث يمكن أن تظهر وتنضج الدّعوات إلى البذل الكامل للذّات” [28]. وفي يقيننا بأنّ الرّبّ يسوع لا يتوقّف أبدًا عن أن يدعو (راجع يوحنّا 11، 28)، من الضّروريّ أن تبقى النّظرة إلى الدّعوات حاضرة في كلّ مجال رعويّ، ولا سيّما في المجالات الرّعويّة الشّبابيّة والعائليّة. لنتذكّر ذلك: لا مستقبل من دون الاهتمام بجميع الدّعوات!

29. وفي الختام، أشكر الرّبّ يسوع القريب دائمًا من شعبه، والذي يسير معنا، ويملأ قلوبنا رجاءً وسلامًا لنعطيهما إلى الجميع. “أيّها الإخوة والأخوات، أودّ أن يكون ما نطلبه أوّلًا هو: كنيسة متّحدة، علامة على الوَحدة والشّركة، فتصير خميرة لعالم مُتصالح” [29]. وأشكركم جميعًا، رعاةً ومؤمنين علمانيّين، لأنّكم تفتحون عقلكم وقلبكم للرّسالة النّبوية التي في القرارَين المجمعيَّين: التّنشئة الكهنوتيّة (Optatam totius) وخدمة الكهنة الرّاعويّة وحياتهم (Presbyterorum Ordinis)، وتستعدّون معًا لاستلهام الغذاء والدّافع منهما لمسيرة الكنيسة. أوكل جميع الإكليريكيّين، والشّمامسة، والكهنة إلى شفاعة سيّدتنا مريم العذراء الكلّيّة الطّهارة، وأمّ المشورة الصّالحة، وإلى القدّيس يوحنّا ماري فيانيه، شفيع كهنة الرّعايا ومثال جميع الكهنة. وكما كان يقول كاهن آرس: “الكهنوت هو محبّة قلب يسوع” [30]. محبّة بهذه القوّة تبدّد غيوم العادة، واليأس، والعزلة، إنّها محبّة شاملة تُعطى لنا كاملةً في الإفخارستيّا. محبّة إفخارستيّة، ومحبّة كهنوتيّة.

 

صَدَرَ في روما، قرب ضريح القدّيس بطرس، في 8 كانون الأوّل/ديسمبر 2025، في عيد الحبل الطّاهر بسيّدتنا مريم العذراء، في سنة اليوبيل 2025، السّنة الأولى من حبريّتي.

 

لاوُن الرَّابع عشر

 

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2025

 


[1] Conc. Ecum. Vat. II, Decr. Optatam totius sulla formazione sacerdotale, Proemio.

[2] Cfr S.J.H. Newman, An Essay on the Development of Christian Doctrine, Notre Dame 2024. In questo senso ricordo l’appello di Optatam totius, 16 al rinnovamento e alla promozione degli studi ecclesiastici, ancora in corso.

[3] Cfr Sinodo dei Vescovi, Per una Chiesa sinodale: comunione – partecipazione – missione, Documento preparatorio (2021), 1; Francesco, Discorso per la Commemorazione del 50° anniversario dell’istituzione del Sinodo dei Vescovi (17 ottobre 2015).

[4] Benedetto XVI, Lett. enc. Deus caritas est (25 dicembre 2005), 1.

[5] Benedetto XVI, Omelia nella Messa a conclusione dell’Anno sacerdotale (11 giugno 2010).

[6] «Chiedendo a Pietro se lo amava, non lo interrogava col bisogno di sapere l’amore del discepolo, ma con la volontà di mostrare la grandezza del suo amore» (S. Giovanni Crisostomo, De sacerdotio II, 1: SCh 272, Parigi 1980, 104, 48-51).

[7] Congregazione per il Clero, Il dono della vocazione presbiterale. Ratio Fundamentalis Institutionis Sacerdotalis (8 dicembre 2016), n. 57.

[8] Discorso ai partecipanti all’Incontro internazionale “Sacerdoti felici – «Vi ho chiamato amici» (Gv 15,15)” promosso dal Dicastero per il Clero in occasione del Giubileo dei Sacerdoti e dei Seminaristi (26 giugno 2025).

[9] Meditazione in occasione del Giubileo dei Seminaristi (24 giugno 2025).

[10] Benedetto XVI, Catechesi (24 giugno 2009).

[11] Conc. Ecum. Vat. II, Decr. Presbyterorum Ordinis sul ministero e la vita dei presbiteri, 9.

[12] Ibid., 8.

[13] S. Cipriano, De dominica oratione, 23: CCSL 3A, Turnhout 1976, 105.

[14] Cfr Congregazione per il Clero, Il dono della vocazione presbiterale. Ratio Fundamentalis Institutionis Sacerdotalis (8 dicembre 2016), nn. 87-88.

[15] Dicastero per il Clero in occasione del Giubileo dei Sacerdoti e dei Seminaristi (26 giugno 2025).

[16] Cfr S. Giovanni Paolo II, Esort. ap. post-sin. Pastores dabo vobis (25 marzo 1992), 61; Benedetto XVI, Lett. ap. in forma di motu proprio Ministrorum institutio (16 gennaio 2013).

[17] Conc. Ecum. Vat. II, Decr. Presbyterorum Ordinis (7 dicembre 1965), 8.

[18] S. Ignazio di Antiochia, Ad Ephesios, 4, 1-2: SCh 10, Parigi 1969, 72.

[19] Ai partecipanti al Giubileo delle équipe sinodali e degli organismi di partecipazione (24 ottobre 2025).

[20] Sinodo dei Vescovi, Documento finale della Seconda Sessione della XVI Assemblea Generale Ordinaria “ Per una Chiesa sinodale: comunione, partecipazione, missione” (26 ottobre 2024).

[21] Francesco, Esort. ap. Evangelii gaudium (24 novembre 2013), 104.

[23] S. Giovanni Paolo II, Esort. ap. post-sin. Pastores dabo vobis (25 marzo 1992), 15.

[24] Cfr ibid., 23.

[25] Omelia nella Santa Messa pro Ecclesia (9 maggio 2025).

[26] Sinodo dei Vescovi, Documento finale della Seconda Sessione della XVI Assemblea Generale Ordinaria “ Per una Chiesa sinodale: comunione, partecipazione, missione (26 ottobre 2024), 20; 50.

[27] Ibid., 59; 117.

[28] Discorso ai partecipanti all’Incontro internazionale Sacerdoti felici «Vi ho chiamato amici» (Gv 15,15) promosso dal Dicastero per il Clero in occasione del Giubileo dei Sacerdoti e dei Seminaristi (26 giugno 2025).

[29] Omelia per l’inizio del Ministero petrino del Vescovo di Roma (18 maggio 2025).

[30] « Le Sacerdoce, c’est l’amour du cœur de Jésus», in Bernard Nodet, Le curé d’Ars. Sa pensée, son cœur, Parigi 1995, 98.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير