* * *
“ان الحاجة الى امر واحد”
ان هذا الامر الواحد الذي يشير اليه الانجيل اليوم, انما هو محبة الله ومرضاته. واما الباقي فلا قيمة له. لذلك امتدح السيد المسيح عمل مريم التي كانت تستمع الى كلامه, ولم يعر اي انتباه لشكوى اختها مرتا التي كانت منهمكة بالخدمة, وطلبت اليه ان يقول لاختها ان تعينها في هذه الخدمة, فكان جوابه لها: مرتا, مرتا, تهتمين بأمور كثيرة والمطلوب هو واحد, او الحاجة هي الى امر واحد, وهو مرضاة الله, ومحبته. وهذا ما اعرب عنه السيد المسيح بقوله ايضا: الوصية الاولى هي ان تحب الرب الهك, والثانية التي تشبهها هي ان تحب قريبك كنفسك”.
وننتقل الى الكلام عن ايقاف الحمل الطوعي وما يتسبب به من مشاكل حياتية, وعن تطور هذا المفهوم منذ منتصف القرن الفائت الذي غلب التساهل في القضاء على الحياة اكثر منه في المحافظة عليها, وعما قاله البابا يوحنا بولس الثاني في هذا المجال.
1- ايقاف الحمل الطوعي
ان احترام الحياة البشرية انما هو قاعدة اساسية في كل التقاليد البشرية الكبيرة الادبية. وحرمان الولد الذي سيبصر النور من الحماية الشرعية يخالف الرغبة الشاملة في احترام حقوق كل كائن بشري الاساسية. ولإقرار قانون يشرع الاجهاض, تجب مكافحة اللغة المتفق عليها. ان ايقاف الحمل الطوعي هو نوع من التعبير المؤسف الذي اشاعه العاملون في سبيل الاجهاض. وهو ينطوي على كذبة مفضوحة. ان لفظة ايقاف تشير الى امر مؤقت, والى عملية جارية, توقفت, ولكنها ستستأنف. يجري الحديث عادة عن انقطاع التيار الكهربائي, وعن وقف مباراة, نتيجة جرح ما. ولكن في ما يخص العبارة المذكورة, فالحمل لم يتوقف, بل وضع حد له نهائيا.
ان هناك تحايلا على الالفاظ, وبدلا من استعمال كلمة اجهاض, باتت تستعمل عبارة ايقاف الحمل للدلالة على الشيء ذاته. وان لفظة اجهاض تشير الى عاطفة سلبية تعني الموت, فيما التعبير: “ايقاف الحمل” يشير الى نوع من الحيادية, تبعد عن الذهن الولد المفقود. واخذت منذ القرن الماضي تتكاثر التشريعات المتساهلة مع الاجهاض الذي يشير الى موت الولد والذي اخذ يشير اخيرا الى تعمد قتله. وتبديل التعبير نقل الانتباه من الولد الى المرأة وليس الى والدته, وذلك لصرف الانتباه عن فعل اجرامي. وهذا كله يرمي الى صرف النظر عن العمل المخزي واراحة الضمير اراحة مصطنعة.
ان ايقاف الحمل الطوعي معناه اجهاض طوعي, اي قتل الولد في حشا امه. ومهما كان من امر, فان التعبير لا يغير من طبيعة الفعل, وهو فعل اجرامي. والتشريع المتساهل في هذا الامر بدا في القرن العشرين. وكان التشريع يومذاك هو ذاته تقريبا في كل مكان. وكان الاجهاض يعتبر جناية يعاقب عليها القانون عقوبة قد تقل بعض الشيء عن عقوبة الجريمة الموصوفة. وظل هذا التشريع معمولا به منذ عهد الرومان. وكان الولد يعتبر جزءا من جسد الام. ولكن الاجهاض هو امتهان لكرامة الانسان, وكان يعتبر بمثابة جريمة قتل متعمد. وكان التشريع في هذا المجال يرمي الى المحافظة على الحياة البشرية. وكان الناس يحرصون على الحياة لاسباب اقتصادية, لأن كثرة الاولاد كان ينظر اليها على انها مصدر قوة, وحتى قوة حربية. ولكن الراهن هو ان الحياة كانت موضوع عناية وحماية. وانه لمن المخزي ان تكون التشريعات المتساهلة قد ترافقت مع الاستنباطات التي ترمي الى المحافظة على الحياة قبل ان تبصر النور. صحيح انه كانت هناك تشريعات تسمح, في حال الضرورة, بقتل الجنين للمحافظة على سلامة الام. ولكن الجنين لا يمكن تسميته بالمعتدي, ليطبق عليه مفهوم الدفاع المشروع. وكان التشريع سابقا لا يعاقب على الاجهاض اذا كانت الغاية منه المحافظة على صحة الام وحياتها. وكان الاجهاض لا يخرج اجمالا عن نطاق الضرورة القصوى.
2- تأثير الاتحاد السوفياتي
وتبدلت الذهنية في القرن العشرين, عندما بدأ الاتحاد السوفياتي يسن شرائع منذ سنة 1920 تجيز الاجهاض الطوعي. وتبعت الاتحاد السوفياتي منذ منتصف القرن الفائت, بعض الدول الاوروبية, فسنت تشريعات تجيز الاجهاض. واقتدت بهذه الدول بريطانيا والولايات المتحدة في الربع الاخير من القرن الفائت, فاباحت الاجهاض, بحجة المحافظة على صحة الام. ولم يشذ عن هذه القاعدة في اوروبا الا ايرلندا. واما في الصين, والهند, فقد طبق قانون ايقاف الحمل قسرا. ويمكن القول ان تبرير تشريعات ايقاف الحمل تختلف باختلاف البلدان, وفي غالب الاحيان, ان مبدأ انقاذ الام او الولد قد غاب عن الانظار, وحل محله تقسيم اشهر الحمل الى ثلاثة اقسام. القسم الثاني يؤخذ فيه بعين الاعتبار وجود تضاد بين حقوق المرأة ومصلحتها, والقسم الثالث, تؤخذ فيه بعين الاعتبار مصلحة المرأة ومصلحة الدولة. ويعتبر الاجهاض احيانا واجبا تحقيقا لمصلحة الدولة, تلافيا لزيادة عدد السكان.
ان ما قلناه سابقا في ما خص الاجهاض الشرعي يدل على مفهوم مادي للوجود. ولم يكن صدفة ان هذا التعبير ظهر للمرة الاولى في الاتحاد السوفياتي, اي في الفترة التي كانت فيها النظرية المادية تشكل العقيدة الرسمية، التي كانت تعلم في الجامعات والتي جعلت من الكنائس متاحف للالحاد. ولم يكن صدفة أن بلدان أوروبا الشرقية احتضنت الشيوعية فجاءت بعدها التشريعات المتساهلة. وهذا ما حدث خاصة في رومانيا التي كان الاجهاض فيها مشرعا، دونما نظر الى كرامة الاولاد، او سعيا الى زيادة قدرة الدولة. وقد لاقى الاجهاض ممانعة في بلدان الغرب قبل أن يفرض نفسه شرعا. ولم يتأصل الا بعد أن سادت النظرية المادية العملية التي لم تجرؤ على انكار وجود الله، ولا امكانية وجود ك
ائن فائق القدرة. وبدأ التشريع الذي يبيح الاجهاض يظهر في البلدان الناطقة بالانكليزية. وعندما كان العالم منقسما الى كتلتين متقابلتين، مختلفتين، كان هناك سعي خفي، لكنه قوي، الى البحث في النظرية المادية عن القاسم المشترك وعلامته الاجهاض الشرعي. وهذا ما أثر على تشريع بعض البلدان في هذه المادة. وعندما توحدت الالمانيتان, كان هناك تشريعان مختلفان في شأن الاجهاض. تشريع المانيا الشرقية المتساهل، وتشريع المانيا الغربية المتشدد. غير أن القوانين الغربية التي انتشرت على اراضي المانيا الشرقية ظلت معمولا بها، في استثناء الاجهاض، حتى تحقق الاندماج. وقد تمت الموافقة على هذا التشريع سنة 1996، الذي زاد في مساحة التسامح مع الاجهاض.
3 – موقف الكنيسة
ان البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته “انجيل الحياة” كتب يقول ان اسباب القوانين الصادرة ضد الحياة يجب البحث عنها في مسألة كسوف معنى الله. وهذا ما يبدو أنه يحققه تطور التشريع طوال القرن العشرين.
وقد ظهر ذلك في طريقة التعبير التي دأبت في تسمية الاجهاض بايقاف الحمل الطوعي. ولفظة اجهاض احصيت في عداد ما هو غير شرعي، فيما التعبير الاخر، اي ايقاف الحمل الطوعي يستعمل للعملية غير الشرعية. ولكن في الحالتين يقتل الولد، وتظهر بوضوح قباحة التشريع، وهذه محاولة لتغير طبيعة الفعل ذاته. وندد البابا يوحنا بولس الثاني ايضا في رسالته: “انجيل الحياة” بالوجهة الهدامة والباعثة على القلق المتمثلة في الاعتداء على الحياة والظاهرة في الميل الى تفسير الحقوق ضد الحياة على انها تعابير شرعية عن الحرية الفردية التي، في زعم من يجب الاقرار بها والدفاع عنها، كأنها حقوق صحيحة. والجديد في هذا العصر الذي نعيش فيه، ليس قتل كائن بريء، بل تشريع هذا العمل, لذلك يقول البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة المشار اليها في فقرتها السادسة والثمانين، حيث يقارن بين القانون المدني والقانون الادبي، “ان الشرائع التي تجيز الاجهاض، وتشجع عليه، واللجوء الى التخدير، كل هذا لا قيمة له قانونية على الاطلاق (عد 72)”. وهذا ما أشار اليه الاعلان الشامل لحقوق الانسان الذي تبنته الجمعية العامة لحقوق الانسان في العاشر من كانون الاول سنة 1948. وقد جاء فيه: أن الاقرار بكرامة جميع أعضاء العائلة البشرية، وبحقوقهم المتساوية والغير القابلة للانتزاع، تشكل أساس الحرية، والعدالة، والسلام في العالم ويبدو أن الفكر البشري قد وصل الى القمة من تاريخه، وهي تأسيس الصحة القانونية المتعلقة بالعدالة، والحرية، والسلام على انها غايات تتخذ حياة الناس معناها في جماعات منتظمة قانونا، وقائمة على مساواة كل من الناس، من حيث الكرامة.
ان الاعلان الشامل لحقوق الانسان جسدته عدة قواعد دولية ووطنية من مثل الشرعية الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، والاتفاقية الاوروبية الخاصة في حقوق الانسان وحرياته الاساسية، الى ما هنالك من اتفاقيات.
وقد وصف البابا يوحنا بولس الثاني اقرار الاجهاض بأنه اندحار للدولة. فقال: ان القبول بالتشريع الذي يجيز الاجهاض اعتبر انه تأكيد لمبدأ الحرية. وانا نتساءل، خلافا لذلك، عما اذا كان انتصارا لمبدأ الرفاه الشخصي تنجح في الحمل على القبول بما عنده من قاعدة آداب. وانا نعتقد في هذا المظهر المحزن والانانية على أقدس القيم، وهي قيمة الحياة. ويقال ان الكنيسة منيت بالفشل لأنها لم تنجح في حمل الناس على قبول قواعدها الادبية. والمؤذي أن من اندحر في هذا المجال، انما هو الرجل والمرأة، والطبيب الذي تنكر لحلفه اليمين ولأنبل لقب عرفه الطب، وهو الدفاع عن الحياة وانقاذها. وحيا الامهات اللواتي أبدين كل استعداد طيب للقبول بالتضحيات ليحيا الولد.
الحياة ليست ملكا للانسان، بل لله. وهي وديعة بين يديه عليه أن يحافظ عليها. لذلك كان النهي عن الاجهاض الذي هو قتل انسان بريء لا يقوى على افتعال أي شر. واذا كانت الحياة ملكا لله، فان الصيت أيضا هو ملك لصاحبه.
الا فلنتق الله في ما يقوله أحدنا في سواه. وسقى الله أياما مضت كان اللبنانيون يحسنون فيها لغة التخاطب التي لم تكن تخرج عما للتخاطب من قواعد أدب، وحرمة، واحترام، ولا تسترسل في التقبيح والتجريح كما هي حالنا اليوم.
عظة البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير
الديمان/لبنان، 26 أغسطس 2007 (zenit.org). – ننشر في ما يلي عظة البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير التي ألقاها في قداس الاحد في كنيسة الصرح البطريركي في الديمان.