إنّه لَمِن الصعب، لا بل من الأمور المعقّدة نوعًا ما، تناول المواضيع الخاصة، بما يتعلّق بالكائنات الحيّة، خلائق الله، لا سيّما الجنس البشريّ؛ لا بل إنّه لَمِن الأصعب سبر أغوار خليقة الله العظمى والأحب على قلبه: الإنسان. الإنسان من أعظم وأروع ما صنعه الله في هذا الكون. قال الله “لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا ]…[ فخلق الله الإنسان على صورته على صورة الله خلقه ذكرًا وأنثى خلقهم” (تك 1: 26-27). هل أدرك الإنسان هذه الحقيقة وهذا الواقع؟ تلك النعمة والعطيّة؟ أم أنّه غارقٌ في “سُباتٍ” عميق؟ وأضاع فرصة الخلاص؟
خُلِقَ الإنسان لكي يعيش في الفردوس. أعطاه الخالق كلّ الإمكانات ووهبه العطايا، لكي يتنعم في الفردوس. سلّطه على الخليقة “وليتسلّط على أسماك البحر، ]…[ وجميع الحيوانات التي تدبّ على الأرض” (تك 1: 26). إنّ مشروع الخالق للإنسان هو مشروع خلاص وحياة، لا يعرف الموت الروحيّ والفناء؛ لكن الإنسان بجهله وتسلّطه ورفضه لإنسانيته، رفض حقيقته، وتمرّد على الخالق. “وغرس الربّ الإله جنّةً في عدن شرقًا وجعل هناك الإنسان الذي جبله ]…[ وأخذ الربّ الإله الإنسان وجعله في جنّة عدنٍ ليفلحها ويحرسها. ]…[ وأمّا شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها، فإنّك يوم تأكل منها تموت موتًا” (تك 2: 8-17). وتُخبرنا رواية خلق العالم في سفر التكوين، كيف أنّ الخالق عمل بجهدٍ وتأنٍّ وإبداع ومحبّة كاملة من أجل راحة الإنسان، مخلوقه الأحبّ والمفضّل على جميع خلائقه. إلاّ أنّ الإنسان الأوّل، آدم وحواء، وقع في التجربة والمعصية، فخرج من الفردوس الذي لم يستحقه بسبب خطيئته. “فسمعا وقعَ خُطَى الربّ الإله وهو يتمشَّى في الجنّة ]…[ قالَ “إنّي سمعتُ وقعَ خطاكَ في الجنّةِ فخفتُ لأنّي عُريان فاختبأتُ”، ]…[ وقالَ الربُّ الإله “هوذا الإنسانُ قد صارَ كواحدٍ منَّا، فيعرفُ الخيرَ والشرَّ”، ]…[ فأخرَجَهُ الربُّ الإله من جنّةِ عدن ليحرثَ الأرضَ التي أُخِذَ منها. فطُردَ الإنسانُ وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ، وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ” (تك 3: 8-24). “الإنسان الأوّل لم يُخلق صالحًا وحسب، ولكنّه أُقيم في صداقة مع خالقه، وفي تناغمٍ مع ذاته ومع الخليقة التي حوله والتي لا يفوقها إلاّ مجدُ الخليقة الجديدة في المسيح.”[1] فالفردوس هو المشاركة مع الله.
إنّ فكرة أو حالة “الحنين للفردوس، رغبة من الإنسان ألاّ يكون إنسانًا”، تدعونا إلى التحدّث عن الإنسان المسيحيّ المؤمن والممارس لإيمانه، وعن علاقته بالفردوس. لن ندخل في توصيف الفردوس وما يحوي، إنّما نودُّ التركيز على الحالة التي يعيش ويطمح من أجلها الإنسان أو يحنّ إليها. “السماء هي غاية الإنسان القصوى وتحقيق أعمق رغباته، وحالة السعادة الفائقة والنهائيّة.”[2]
تبتعد كلمة “باراديسوس” اليونانيّة عن كلمة “بارديس” الفارسيّة التي تعني الحديقة. استخدم كتاب الترجمة السبعينيّة (لكتاب المقدّس)، هذا المصطلح في بعض الأحيان بمعناه الحرفيّ، وفي أحيانٍ أخرى وفقًا للمعنى الدينيّ والروحيّ الذي نعتمده وحده في هذا السياق.
ألا نعتقد أنّ الفردوس الضائع، أي بعد طرد وخروج آدم منه بسبب خطيئته، عزّز العلاقة بين الله والإنسان أكثر ممّا كانت قبل الخروج من الفردوس؟
- الفردوس المُرتجى
إنّ الفردوس “المُستعاد” أو المُرتجى هو واقع إسكاتولوجيّ (أخيريٌّ: ما يتعلّق بالآخرة). أعاد الله بحكمته للإنسان طعم الفرح الفردوسيّ والسماويّ. يعطي الكتاب المقدّس، (العهد الجديد) السرّ الأخير لهذا التدبير والمخطّط الإلهيّ. “إنّ سرّ الشركة السعيدة هذا مع الله ]…[، والكتاب المقدّس يكلّمنا عليه في صور: الحياة، النور، وليمة العرس، … الملكوت، بيت الآب، أورشليم السماويّة، الفردوس: “ما لم ترَه عين، ولا سمعت به أُذن، ولا خطرَ على قلب بشر، ما أعدّه للذين يحبّونه” (1 كور 2: 9).[3] فالمسيح هو مصدر الحكمة، لا بل هو الحكمة بحدّ ذاتها، كذلك هو آدم الجديد؛ الذي منه تصل الإنسانيّة إلى حالتها الإسكاتولوجيّة. المسيح هو الوسيط الذي أتى من عند الآب. فهو طريق الخلاص الذي يقود إلى الفردوس. لقد سفك دمه على الصليب، من أجل الخطأة، لا سيّما من أجل كلّ مَن يتوب عن خطيئته ويؤمن به. “ونحن عاينّا ونشهد أنّ الآب أرسل إبنه مُخلّصًا للعالم” (1 يو 4: 14)، “لتعلموا أنّ الحياة الأبديّة لكم أنتم الذين يؤمنون باسم إبن الله” (1 يو 5: 13). لقد أظهرت عجائب المسيح أنّه يمكن أخيرًا التغلّب على المرض والموت. فالإنسان الذي يؤمن به يجد “قوت الحياة” و”الحياة الأبديّة” أي عطايا الفردوس الإسكاتولوجيّة (الأخيريّة) التي دُشِّنَت وأصبحت مفتوحة منذ الآن. “… فإنّ الأخيريّة هي حاضرة منذ الآن في العالم، أو أنّ عالمنا هو منذ الآن في الأخيريّة. لكنّ هذه الأخيريّة الحاضرة تنزع إلى أن تتمّ. وبهذا المعنى، فإنّ الأخيريّة ليست حقيقة وحاضرة حتّى الآن. فعبارة “منذ الآن” تدلّ على باكورة ما يجب أن يكون، كما في حبّة القمح والسنبل، أو كالشروع في ما سيكون الاكتمال.”[4]
في نصوص الكتاب المقدّس، يبقى وصف الفردوس الإسكاتولوجيّ قائمًا ويُصار إلى تنقيته تدريجيًّا. قبل العودة في نهاية الأزمنة إلى “الأرض المقدّسة”، يُعدّ (يُستخدم) الفردوس مرتبة وسطى حيث يجمع الله الصالحين بانتظار يوم الدين، والقيامة والحياة في العالم الآخر. هكذا كان وعد المسيح للصّ الصالح، الذي تحوّل مع وجود وحضور، ذلك الذي هو الحياة، إذ قال له “اليوم تكون معي…” أمّا بالنسبة لحالة النعيم، التي تأكّدت مع التاريخ المقدّس، كان يسوع أوّل الداخلين إلى الفردوس بعد موته، لكي يفسح المجال للمذنبين بالتكفير عن أنفسهم، الذين اشتراهم بدمه المُهرق على الصليب. “إنّ يسوع المسيح، بموته وقيامته، قد فتح لنا السماء.” “]…[ السماء هي الجماعة السعيدة المكوّنة من جميع الذين انضمّوا إليه إنضمامًا كاملاً”[5]
عند استعادة موضوع الفردوس في العهد الجديد (الإنجيل)، يبدو مهمًّا تأكيد الطبيعة المتمحورة حول المسيح. إنطلاقًا من صورة واضحة حيّة للغاية، يحوّل كتّاب النصوص المقدّسة، نظر قارئيها من العروض (الصوّر) الماديّة للغاية التي يتباهى بها الدُعاة، إلى الألفية الجديدة.[6] فَهُم يعلّمون كيف يكتشف الإنسان أنّه بوجود وحضور المسيح، يجد سعادة كبيرة؛ ولكي يدخل ويأكل من شجرة الحياة، لا وسيلة أخرى سوى طريق الفصح. غير أنّ موضوع الفردوس المحدّد، لا يفقد قيمته بالرغم من ذلك. ففي أسطورة العصر الذهبيّ بدا طموح الإنسان لحياة هادئة في عالم مضياف. يُعطي الكتاب المقدّس، أجوبة مقنعة ويقينيّة، بالنسبة إلى الحنين للفردوس الضائع. إنّ الله الآب يحضّر السماوات الجيدة والأرض الجديدة الموعودة. “ورأيتُ سماءً جديدة وأرضًا جديدة، لأنّ السماء الأولى والأرض قد زالتا، وللبحر لم يبقى وجود. ورأيت المدينة المقدّسة، أورشليم الجديدة ]…[ هوذا مسكنُ الله مع الناس، فيسكن معهم وهم سيكونون شعوبه وهو سيكون “الله معهم” ” (رؤيا 21: 1-3). انجذبت الطبيعة البشريّة في تيّار الفساد والانحلال، مع خطيئة آدم وسقوطه، فكان مصيرها الموت. مع سقوط الإنسان الأوّل، اضطرّبت السماء والأرض، فتبدّلتا، وما عادتا كما كانتا من قبل. أمّا الآن، فستتغيّران أيضًا، لتصيرا “سماءً جديدة وأرضًا جديدة”. فالسماء الجديدة (أي مدينة الله) والأرض الجديدة (أي أورشليم السماويّة)، وحضور الله يتغيّرون. هل ما زالت عيون الإنسان الداخليّة (بصيرته) مُغلقة ولا تستطيع أو لا تريد أن تفهم حاليًّا هذا السرّ؟ لقد فتح الله الفردوس ووضع الإنسان بداخله، كما فعل مع آدم. بحضور الله ووجوده، سوف يحيا الإنسان في سلام في عالمٍ متجلّي. يعبّر القدّيس بولس، بكلماتٍ أخرى، عن هذا التوقّع (الانتظار) (فليبي 3: 2).
عندما يفتح الإنسان بصيرته من خلال الإيمان، يُدرك أنّه دخل في حالة روحيّة يعيشها مع الله، لأنّ “السماء الجديدة والأرض الجديدة” دخلا في حالة من التحوّل. وهذا التحوّل يصير ويتمّ بصورة نهائيّة في حالته الإسكاتولوجيّة. علاقة الله مع الإنسان ومع السماء والأرض، ستأخذ الآن، ومن هنا، ميزة روحيّة أَخيريَّة، لأنّ الذي كان قبلاً ما عاد الآن موجودًا. كلّ هذا يؤكّد على أنّ حضور الله يتجدّد، لأنّه مُقيم مع الإنسان، بالرغم من معصيته، وضعفه، ونكرانه لحقيقة الله وقدرته الجبّارة القادرة على التجدّد والتحويل.
إنّ هذا التجدّد يدفع نحو الكمال، من خلال قدرة الله وحبّه اللامتناهي، الذي يجدّد العالم، منذ الآن وصاعدًا، تجديدًا عميقًا وقويًّا وراسخًا. إنّ حضور الروح الإلهيّ في العالم ما هو سوى الفردوس مهما عصفت به الأحداث والآلام، فالسماء والأرض كوكب واحد، والله يملأها معًا. “أمّا، نحن، فوطننا في السماء ومنها ننتظر شوق مجيء مخلّصنا الربّ يسوع المسيح” (فليبي 3: 20). من هذا المنطلق تأخذ جهود التحوّل في عالمنا هذا، كُلّ معناها وفقًا لعقيدة المجمع الفاتيكانيّ الثانيّ “غير أنّ انتظار الأرض الجديدة بدلاً من أن يخفّف من اهتمامنا باستثمار هذه الأرض، يجب بالأحرى أن يوقظها فينا: فجسم العائلة الإنسانيّة الجديدة ينمو فيها، راسمًا الخطوط الأولى للعالم الآتي”.[7]
وبما أنّ الفردوس هو “مكان” إقامة الله، لذلك هو خارج هذا العالم. غير أنّ لغة الكتاب المقدّس تحدّد أيضًا البيت الإلهيّ في السماء. بالتالي يُعرَّف الفردوس في بعض الأحيان بعبارة ” أعلى السماوات”، المكان الذي يُقيم فيه الله. فقد اختطف بولس لكي يمتّع نظره بحقائق لا توصف “أعرف رجلاً مؤمنًا بالمسيح أُختطف إلى السماء الثالثة ]…[ اختُطف إلى الفردوس، وسمع كلمات لا تُلفظ ولا يحّل لإنسانٍ أن يذكرها” (2 قور 12: 2-4). هنا أيضًا المعنى المُعتاد لكلمة الفردوس في النصوص المسيحيّة “اختطفته الملائكة وأخذته إلى الفردوس”. نعم، الفردوس إذًا أصبح مفتوحًا لكلّ الذين يموتون في الربّ. “الذين يموتون في نعمة الله وصداقته، وقد تطهّروا كليًّا، يحيون على الدوام مع المسيح. إنّهم سيكونون على الدوام أمثاله لأنّهم سيعاينونه “كما هو” (1 يو 3: 2)، وجهًا إلى وجه” (1 كور 13: 12).]…[ كانوا ويكونون وسيكونون في السماء، في ملكوت السماوات وفي الفردوس السماويّ مع المسيح…”[8]
- أنسنة الإنسان
ذكرنا آنفًا أنّ الإنسان من أَحَبّْ خلائق الله في هذا الكون. أوليس الكون صورةٌ عن الإنسان، الذي يعيش فيه، ويسيطر عليه؟ أيّ إنسانٍ لأيّ كونٍ؟ أوليس عالمنا اليوم، ومستقبله هما بأيدي وتخطيط الإنسان؟ أوليس هو مَن يقرّر مستقبله، “وحالته”، ومكانته، ومصيره، على هذه الأرض، وحياته الأخيريّة؟ هل يحتضن إنسان اليوم الكون وما فيه، كما احتضنه لقرون طويلة؟ أم أنّه يعتدي على مشروع الله الخلاصيّ، من خلال حروبه، وعداواته، وجشعه، وتعدياته على أخيه الإنسان والطبيعة؟ هل هكذا يتحضّر للدخول إلى الملكوت والعودة إلى الفردوس، بأنانيته وكبريائه، وعزله للآخر وتحقيره وقتله؟ أم بتطبيق ما طلب الربّ يسوع منه؟ وما تقدّمه القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة؟
بالتأكيد يعاني عالمنا اليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى، من الأحزان، والآلام، والبُغض، والحسد، والخيانة، والتقوقع، والعزلة، والتفرّد، والجروحات، والأحكام المسبقة والظالمة، وحبّ الذات والظهور، وفقدان الضمير، ورفض الآخر وإلى ما هنالك من نواقص تشوّه فكرة الخالق للكون. أَلِهذا لدى المسيحيّ حنين إلى الفردوس؟ هل يريد الهروب من تلك المعاناة؟ هل يئِسَ من تلك الحالة التي لا شفاءَ منها على هذه الأرض؟ هل هو خائف على مصيره، وحياته المستقبليّة؟
نعم، يطرح الإنسان اليوم أسئلة كثيرة، منها حول سبب وجوده على هذه الأرض، وما ينتظره بعد الموت. نعم، في ظلّ تلك الحالة، التي يختبرها الإنسان، عليه إعادة النظر، لرؤيته للحياة ولمسلكه مع الآخرين والطبيعة، وعلاقته بالله الخالق. لقد فقد الإنسان، بتصرفاته الخاطئة، إنسانيّته التي زرعها الله فيه، فسلّطه على الكون، وأعطاه الحكمة والقدرة والمعرفة والحبّ والرجاء والسلام؛ لكنّه أضاع معظم هذه القيم، كما أضاع الفردوس.
يُطلب اليوم، من إنسان هذا العصر، العودة إلى الإيمان، لكي يستعيد السلام، والتوازن، والطمأنينة على جميع الصُعُد. يهب الإيمان الإنسانَ الثقة، والرجاء، وبناء الذات، والترفّع عن الصغائر، والولوج إلى الحقيقة، والقبول بمحدوديته وضعفه، ولكن عليه، الإيمان والاتّكال على الله الخالق، مصدر الحياة.
يميل الإنسان بطبيعته لتجاوز حدوده. إنّه يرفض حالة الضعف الطبيعيّة التي يعيش فيها، يبحث عن المثال والكمال، ومن دون أيّ شكّ، يوجد الكمال في العالم الإلهيّ. من هنا، يحاول ويبحث الإنسان، الوصول إلى معرفة الحقيقة، من خلال طرق متعدّدة، والتي تشكّل هدفه. لذا، لا يقبل أن يبقى إنسانًا، كما خلقه الله؛ لهذا السبب كانت خطيئة آدم، إذ أنّه رفض أن يكون إنسانًا. نعم، يرى الإنسان في الفردوس إنجازه وكماله. نعم، لقد رفض الإنسان إنسانيّته بسبب عنجهيّته، وجهله، وإقصائه لأخيه الإنسان. كما رفضه لوجود الله ولتعاليمه. فلم يحترم مبادئ الخالق، والتعامل معها كمخلوق. أمّا الفردوس بالنسبة للمؤمن الممارس إيمانه، والمؤمن بتعاليم يسوع ووعوده، فهو مكان الابتهاج بحضرة الله. إنّ الرغبة في الفردوس، بالنسبة للآخرين، هي خطر عدم المحبّة، وخطر التهرّب من المسؤوليات والصعوبات التي تعترض الإنسان. فمتطلّبات الواجبات اليوميّة قد تؤدّي، في بعض الأحيان، إلى قتل الروح وغمره بعيدًا عن حقيقة الله. يريد بعض الناس العيش في السماء، أو الرغبة في الفردوس، والتخلّي عن إنسانيّتهم عندما تسير أمورهم اليوميّة بشكل سيّء وسلبيّ على الأرض (الآلام والأحزان والمصائب والتجارب). تعتبر هذه الأمور جميعها بالنسبة لهم، بمثابة هروب (استقالة وعدم الاتّكال على الله)، وليس رغبة في سلوك طريق الله. بالنسبة لآخرين، وبسبب فقدانهم الأشخاص الذين يحبّونهم، تزداد الرغبة في السماء، وبالتالي الرغبة في تغيير حياتهم، لأنّ أحدهم لا يمكن أن يستمرّ من دون الآخر. يرغبون باللقاء مع أصدقاء أعزّاء، عن طريق الترفّع إليهم ومعهم، بالانتقال لدى الله. يتعرّض الإنسان في مسيرته الحياتيّة على الأرض، لشتّى أنواع الحالات الإيجابيّة والظروف السيّئة؛ وهذه تعطيه القدرة على القيام بخيارات ناجحة، تساعده على التحضير والعيش للحياة الأبديّة. نعم، موقف الإنسان وتصرّفاته، تحدّد رؤيته ونظرته وحتى مصيره. “فالله قد وضعنا في العالم لنعرفه، ونخدمه، ونحبّه، ونبلغ هكذا الفردوس. والسعادة “تجعلنا مشاركين في الطبيعة الإلهيّة” (2 بط 1: 4) وفي الحياة الأبديّة. بها يدخل الإنسان في مجد المسيح والتمتّع بحياة الثالوث”.[9]
إنّ أنسنة الإنسان هي مَمَرّْ واقعيّ ومحتّم للدخول إلى ملكوت الله والتنعّم بالفردوس. أخذ الربّ الإله، يسوع المسيح، إنسانيّة الإنسان وجسده، ما عدا الخطيئة، ليؤكّد ويبرهن أنّ الإنسان مخلوق على صورة الله. إنّ تنقية إنسانيّة الإنسان من الشوائب، تفتح الباب على مصراعيه لعمل الرحمة والمحبّة ولتثبيت العلاقة مع الله والحصول على الخلاص. يقول المسيح “كلّما صنعتم شيئًا لإخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد صنعتموه…]…[ فذهب هؤلاء إلى العذاب الأبديّ، والأبرار إلى الحياة الأبديّة” (متى 25: 40-46)، ويتابع “مَن أرادَ أن يتبعني فليُزهد في نفسه ]…[ وأمّا الذي يفقد حياته في سبيلي فإنّه يجدها” (متى 16: 24-25). ويذكّر المسيح الإنسان بتعليمه فيقول:” لا تكنزوا لأنفسكم كنوزًا في الأرض، ]…[ بل اكنزوا لأنفسكم كنوزًا في السماء ]…[ فحيث يكون كنزك يكون قلبك” (متى 6: 19-21). يدعو المسيح الإنسانَ للمتاجرة بالوزنات: أي العطايا والمواهب والنعم، “أقول لكم: كلّ مَن كان له شيء يُعطى. ومَن ليس له شيء يُنتزع منه حتى الذي له” (لو 19: 26).
أخيرًا، على الإنسان أن يدرك تمامًا مشروع الله له، في هذا الكون. وأن يأخذ على عاتقه اختيار وعيش الحبّ والمحبّة، من أجل المحافظة على عالم يسوده السلام والتآخي والطمأنينة. لذا عليه أن يُسهم في تحقيق هدف وغاية وجوده على الأرض، بالاستعداد الهادئ لمشاهدة وجه الله، لا الهرب من “الواقع التعيس” الذي يسببه الإنسان لنفسه. فليتذكر الإنسان الدينونة الأخيرة، وليَعُد إلى رشده وحكمة الله، من أجل الابتعاد وإبعاد كلّ ما يشوّه إبداعات الله وفكره وإرادته. نعم، عليه خلق المساحات والفرص، من أجل عدم تسبّب هربه من واقع إنسانيّته، لا بل المحافظة عليها، لكي يستطيع التحضير إلى دخول ملكوت الله.
- نحو فردوس محقّق
كيف يمكن في الواقع، لأيّ شخص أن يصف السماء؟ لقد وصف الرسول بولس ملكوت الله كالتالي، “ما لم تره عين ولا سمعت به أُذن ولا خطر على قلب بشر، ذلك ما أعدّه الله للذين يحبّونه” (1 قور 2: 9). بالرغم من ذلك، تحدّث يسوع عن السماء. وبما أنّه كان يتحدّث مع أشخاص (عامة الشعب وليس العلماء) على الأرض وليس مع ملائكة، استخدم العديد من المقارنات، والأمثال والصور. فالسماء شبيهة بالمملكة، والعرس والمأدبة. تُشير هذه الصور إلى تجمّع: تشدّد على الطابع الجماعيّ، والأخويّ، والفرح والبهجة في ما يمكن أن تكون السماء عليه. يقول المجمع الفاتيكانيّ الثاني: “ولكن نعلم أنّ الله يُعدّ لنا مسكنًا جديدًا وأرضًا جديدة حيث يسود العدل وتفيض الغبطة وتتعدى كلّ رغبة في السلام خطرت على قلب الإنسان”. إنّ رغبة الإنسان في الفردوس تجذبه بسبب العديد من الأمور (أسباب وأهداف). فرغبة السماء هي معرفة الله حقًّا. يرتبط التفكير في السماء أيضًا، في البحث عن المُطلق، والوجود الكامل للإنسان، وانتظار السعادة المستحيلة التي لا يمكن تصوّرها. “سعادة السماء تحدّد مقاييس التمييز في استعمال الخيور الأرضيّة بحسب شريعة الله”.[10] يعتبر المؤمن بالمسيح، أنّ السماء مكان الفرح والحبّ، ورغبة الإنسان في السماء أو الفردوس تشكّل ظاهرة تدخل ضمن وجوده (وجود الإنسان). السماء هي مُبتغاه أي هدفه. ولهذا السبب خلقه الله، ويعتبر أنّ السماء هي وطنه. “…والسماء بيت الآب، هي الوطن الحقيقيّ اذي نسعى إليه، والذي منذ الآن ننتمي إليه”[11] لا نجد في الإنجيل أو في الرسائل (بولس، بطرس…) حقيقة أكثر وضوحًا وصراحة وثباتًا وأكثر تأكيدًا وتكرّرًا منها. ولإثبات هذا الأمر، يكفي أن نذكّر بالعبارات التي لا تُعَدّ ولا تُحصى المستخدمة في الكتاب المقدّس، للتحدّث عن السماء. فهي الحياة الأبديّة، والخلاص الأبديّ.
إنّ قصص الشهداء، والعذارى، والمعترفين والقدّيسين من أي رتبة ودرجة كانوا، تُعيد الإنسان إلى حيث يعيش لله، ومع يسوع المسيح، للحصول على الحقّ في الدخول إلى أورشليم السماويّة المذكورة. يتواصل الإنسان مع القدّيسين وهم يتواصلون معه من خلال صلوات الكنيسة وممارسة أسرارها.
الفردوس هو مكان للوجود البشريّ ومسكن الإنسان، كما أيضًا، هو مكان للحضور الإلهيّ ومسكن الله. هذا يدلّ ويعبّر عن حبّ الله للإنسان، بتنازله وانحنائه نحو خليقته أي الإنسان، بذل ذاته على الصليب حتى الموت. نعم، لقد منح الله الإنسان كلّ شيء. لقد أعدّه للدخول إلى ملكوت الله، عندما كتب أسماء المؤمنين في كتاب الحياة. فبالرغم من طبيعة الإنسان وحالته، التي ما زالت متعثّرة ومتأرجحة، إلاّ أنّه يعمل ويحنّ ويتوق، إلى سُكنى الفردوس، لا بل أصبح “منذ الآن” من سُكّانه، وإن كان لا يزال يعيش “هنا”، على كوكب الأرض، لأنّ الفردوس موجود، وفي الوقت عينه على الأرض وفي السماء. “…وقد جلسنا في السماوات في المسيح يسوع ]…[ وفي الوقت ذاته “نئنّ في وضعنا متشوّقين أن نلبس بيتنا السماويّ فوق الآخر (2 كور 5: 2). المسيحيّون “هُم في الجسد، ولكنّهم لا يعيشون بحسب الجسد. يقضون حياتهم على الأرض، ولكنّهم مواطنو السماء”.[12]
إنّ الفردوس والعالم والسماء هي أسرار، لا يمكن للإنسان أن يفهمها فهمًا كاملاً، لأنّها تتعلّق بحقائق إلهيّة، بيدَ أنّه يُدركها بقلبه وإيمانه ويلمسها بإرادته. “فالسماء ليست من صنعنا الشخصيّ ولن تكون كذلك. ففي لغّة اللاهوت المدرسيّ تُعتبر، عدا أنّها نعمة، عطيّة غير مستحقة أُضيفت على الطبيعة. فالسماء كونها محبّة جمّة…”[13]
نستنتج أنّ الفردوس حاضر في داخل الإنسان والسماء. الإنسان ليس من العالم، بل هو من الفردوس. من هنا تتحوّل حياة المؤمن بيسوع المسيح والممارس لإيمانه، عن كلّ ما هو أرضيّ إلى سماويّ، فتصبح أعماقه هيكلاً مقدّسًا، فيهبه الله نوره ويغمره فرحًا وبهجة. “أخضع كلّ شيء تحت قدميه وجعله رأسًا فوق الجميع للكنيسة، التي هي جسده وملءُ الذي يملأ الجميع في كلّ شيء” (أفسس 1: 22-32)، فالمسيح يملأ الكنيسة من خيرات الحياة الأبديّة، لأنّه مملوء من الآب. إنّه حاضر بشكل غير منظور في هذه الكنيسة، أيّ في هذا الفردوس. وبما أنّ الإنسان ابن الله وأخ يسوع المسيح، فحيث يكون هو، يكون الإنسان. أي أنّه في الفردوس، بالرغم من خطيئته، لأنّه حجارة كريمة في عينيه. “أن نحيا في السماء يعني أن نكون مع المسيح ]…[ فالحياة هي أن نكون مع المسيح: حيث المسيح، هناك الحياة، هناك الملكوت.”[14] إنّ الشركة والصلة بين الفردوس الأرضيّ والفردوس السماويّ، أو بين الكنيسة وأورشليم السماويّة، غير منقطعة؛ “مسكن الله ينزل “كَوعاءٍ هابط كأنّه سماط عظيم معقود من أَطْرَافه الأربعة وَمُدَلّى عَلَى الأَرْضِ” (أع 10: 11). يعيش الجميع معًا في الفردوس، وينعمون في الجوّ الفردوسيّ، حتى يبلغوا إلى حضن الله. “وإلى كنيسة الأبكار المكتوبين في السماوات، وإلى الله ديّان الجميع، وإلى أرواح الأبرار الذين بلغوا الكمال” (عبرانيين 12: 23). ندرك أنّ كنيسة الأبكار السماويّة تعادل إذًا “موطننا الأرضيّ”.
تحدثنا آنفًا أنّ الفردوس الأوّل، بحسب الكتاب المقدّس، كان قطعة في شرق الأرض. أمّا الفردوس الثاني هو الكنيسة، المكان الذي يتّحد فيه الإنسان مع الخالق، بصفته مخلوق منه وقد أُعطي الخلاص، بواسطة ابنه يسوع المسيح. فالكنيسة هي السماء على الأرض. ونجد يسوع المسيح في كلّ أصقاع الأرض، بصفته آدم الثاني. فهو يقيم في هيكل الإنسان وحيث يتواجد. من هنا نفهم أنّ الفردوس هو داخل الإنسان، وهو ممتلئ من حضوره الإلهيّ. لقد اختبر الإنسان محبّة الله عندما عرفه واختاره وخلّصه، لذا فهو يسعى هنا على الأرض ليبلغ الملء الأخير. “لذا، فإنّ السماء هي دائمًا أكثر من مصير متميّز خاص. إنّها ترتبط، بالضرورة مع “آخر آدم”، مع الإنسان النهائيّ، وعليه مع المستقبل الإجماليّ للإنسان.”[15] نعم، إنّ الغاية التي يجري وراءها الإنسان هي النعيم. فرغد الإنسان أو نعيمه يكون في رؤية جوهر الله. إنّ النعيم هذا بعيد جدًّا عن نعيم الله، لأنّ الله بطبيعته يملك النعيم، وأنّ الإنسان على عكس ذلك، لا يمكن أن يتوصّل إليه، من دون المشاركة في النور الإلهيّ. لذا عليه أن يعمل لكي ينمّي في داخله المحبّة الإلهيّة ويزيدها اضطرامًا، ويفسح مكانًا لسكن النور الإلهيّ. وهذا يزداد من خلال عيش الأسرار والتسبيح والعبادة الإلهيّة، لكي يكون في شركة دائمة معه، أيّ الله معه، وهو مع الله.
بالتأكيد، الإنسان الساعي إلى الفردوس، هو الإنسان الذي تحتاجه الكنيسة، أي الذي يضع ذاته في خدمة الله ويسوع، سرّ كلمته ولقائهما، باذلاً ذاته كما بذل السيّد المسيح ذاته، من أجل خلاص الإنسان، كلّ إنسان، لا سيّما المؤمن به والعامل بحسب وصاياه وتعاليمه. “… فالواقع الذي هو “السماء” لا يصبح حقيقة إلاّ في اللقاء الودّيّ بين الله والإنسان. ]…[ هذا اللقاء الودّيّ بين الله والإنسان تحقّق نهائيًّا في المسيح، عندما تجاوز، من خلال الموت، الكائن إلى الحياة الأبديّة. وهكذا فإنّ السماء هي مستقبل الإنسان والإنسانيّة، هذه الإنسانيّة التي لا تستطيع أن تمنح نفسها السماء الباقية مغلقة دونها طيلة إتّكالها على ذاتها، والتي فُتحت، للمرّة الأولى، وبصورة جذريّة، في الإنسان الذي كان الله تعالى مكان وجوده، والذي دخل به الله في كيان الإنسان.”[16]
أخيرًا، تتمحور مشيئة الله وإرادته، حول المحبّة العظمى والرحمة المتجدّدة للإنسان، الذي عليه أن يستنير بحكمة الله وعدله؛ فهذا، يبرهن الله أنّه محبّة وحبّ. من هنا، تكمن رسالته وإرادته، أن يشترك الإنسان في حياته الإلهيّة، لا سيّما المؤمن به. فهذا هو الفردوس وتلك هي السماء.
المراجع
- الكتاب المقدّس
- المجمع الفاتيكانيّ الثاني
- التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، المكتبة البولسيّة، 1999
- جوزف راتسنجر، مدخل الإيمان المسيحيّ، البولسيّة، 1994
- جوزف راتسنجر، يسوع الناصريّ، الجزء الثاني، من دخول أورشليم إلى القيامة، البولسيّة، 2014
- الأب أوغسطين دُويرِه لاتُور ، دراسة الإسكاتولوجيا، المشرق، 1999
- Document de la Congrégation de la Foi sur la vie éternelle et l’au-delà (1929)
- Commission théologique internationale : Quelques questions actuelles concernant l’eschatologie, Doc. Cath. no° 2069, 1993, Pg. 309-326.
الأب نجيب بعقليني
- يحمل كفاءة في اللاّهوت العقائديّ، ودكتورا في اللاّهوت الراعويّ.
- أخصائي في راعويّة الزواج والعائلة.
- خدم عدّة رعايا كما عمل في الإدارة التربويّة والتعليم: نائب رئيس الجامعة الأنطونيّة، المدير الماليّ والإداريّ للجامعة الأنطونيّة، مدير الجامعة الأنطونيّة فرع زحلة والبقاع، رئيس مدرسة مار روكز الأنطونيّة رياق، مدير المعهد الأنطونيّ بعبدا (لبنان).
- عمل في الحقل الراعويّ: إصدار كتب ومقالات، مقابلات وبرامج تلفزيونيّة وإذاعيّة، محاضرات وندوات.
- صدر له:
- الطريق إلى الزواج (بالعربيّة والفرنسيّة)
- حبّ واستمرار
- كي نبقى معًا
- لقاء وعهد
- المرأة والتّنمية
- الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة (بالعربيّة والفرنسيّة)
[1] التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، المكتبة البولسيّة، لبنان، 1999، عدد 374
[2] المرجع السابق، عدد 1024
[3] المرجع السابق، عدد 1027
[4] الأب أوغسطين دُويرِه لاتُور، دراسة في الإسكاتولوجيا، دار المشرق، بيروت، 1999، ص 9
[5] التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، المكتبة البولسيّة، لبنان، 1999، عدد 1026
[6] “فالمقصود هو الفترة الزمنيّة التي تفصل مجيء المسيح عن النهاية… وفي هذه الحال، تعني مملكة الألف سنة أنّ مجيء المسيح يفتح للمؤمن منذ الآن باب الدخول الحقيقيّ إلى حياة الفردوس”. الأب أوغسطين دُويرِه لاتُور، دراسة في الإسكاتولوجيا، دار المشرق، بيروت، 1999، ص 27
[7] المجمع الفاتيكانيّ الثانيّ، دستور راعويّ، فرح ورجاء، عدد 39
[8] التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، المكتبة البولسيّة، لبنان، 1999، عدد 1023
[9] المرجع السابق، عدد 1721
[10] المرجع السابق، عدد 1729
[11] المرجع السابق، عدد 2802
[12] المرجع السابق، عدد 2796
[13] جوزيف راتسنجر، مدخل إلى الإيمان المسيحيّ (ترجمة د. نبيل خوري)، البولسيّة، سلسلة الفكر المسيحيّ بين الأمس واليوم، لبنان، 1994، 228
[14] التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، المكتبة البولسيّة، لبنان، 1999، عدد 1025
[15] جوزيف راتسنجر، مدخل إلى الإيمان المسيحيّ (ترجمة د. نبيل خوري)، البولسيّة، سلسلة الفكر المسيحيّ بين الأمس واليوم، لبنان، 1994، 229
[16] المرجع السابق، ص 229