- راعويّة الواقع
” أنا هو الراعيّ الصّالح” (يو 1: 1). بهذا العنوان خاطب السيّد المسيح الرسل والجموع، والذي عبّر من جديد وبطريقة مختلفة، عن اهتمامه وحضوره وعنايته ورعايته لأبناء الأرض، لا سيّما الذين يحاولون السير في طريق الخلاص. هذا التأكيد “أنا هو الراعيّ”، ما هو إلاّ تثبيت لقدرة ابن الله المخلّص، الذي بذل ذاته من أجل أحبّائه. وهذا الشعار تحقّق وما زال في تجدّد دائم من خلال حضور المسيح المستمر وروحه القدّوس. هذا العنوان، هو ركيزة ومحور العمل الراعويّ للكنيسة؛ ومن خلاله، تستمدّ الكنيسة، مبادئ ومفهوم وروحانيّة العمل الراعويّ.
العمل الراعويّ هو الأعمال التي تقوم بها الكنيسة، وتعمل عليها كمؤسسة، من أجل إعلان الإيمان وعيشه، وذلك من خلال أفعال الإيمان وأعماله. كما التنشيط والمساهمة في تسهيل وتعميق، اللقاء بين الله وأبنائه، ضمن إطار إيمانيّ، روحيّ، ليتورجيّ، إنسانيّ، أخلاقيّ واجتماعيّ. تستند المؤسسة الكنسيّة بعملها الراعويّ، من خلال الممارسات والأعمال المنوطة بها، على الأسس والقواعد اللاّهوتيّة.
جهدت الكنيسة وما زالت تعمل عبر الأجيال، من أجل المساهمة في خلاص البشر، لا سيّما المؤمنين بقدره الله وعظمته، كما بيسوع المسيح إله ومخلّص. “إنّ الكنيسة التي أرسلها الله إلى الأمم لكي تكون السرّ الجامع للخلاص، هي مشدودة إلى تبشير البشر بالإنجيل”.[1] إنّ تدبير الله هو خلاص الإنسان، لذا عمل الله طوال تاريخ البشريّة على إنجاح مشروعه. من هنا، تعمل الكنيسة بكدّ في خدمة المسيح، على مرّ العصور والأزمنة لتحقيق وإتمام قصد الله وتدبيره الإلهيّ. نعم، إنّ تلك الأعمال والأفعال، من خلال الأنشطة والممارسات لها أهدافها. فهي تعمل على تحقيقها آخذة بعين الاعتبار، الأزمنة والأمكنة التي تعيش فيها، كما التغييرات والتطوّرات، التي تطرأ في كلّ عصر. “الكنيسة في طبيعتها المتجوّلة رسوليّة، لأنّها تصدر عن رسالة الابن، وعن رسالة الروح القدس، وفاقًا لقصد الله الآب”.[2]
إنّ اللاّهوت الراعويّ أو ما يسمّى أيضًا باللاّهوت العمليّ، هو علم يستقرئ حياة الكنيسة، وعيشها للإيمان، في الزمان والمكان، بغية إدراكه علميًّا، أي أكاديميًّا، على ضوء كلّ العلوم اللاّهوتيّة والبيبليّة والكتابيّة (الكتاب المقدّس)، مستعينًا بسائر العلوم. وهذا العلم يتضمّن منهجيات علميّة ونظريّة وتطبيقيّة. إنّه يعرض ويوصّف ويقرأ، اختبار وممارسة وعيش حياة الكنيسة وأحداثها (الأبرشيّة، الرعيّة، الإكليروس، والعلمانيين…). كما يحلّل بطريقة نقديّة للإحاطة بكلّ الأسباب والدوافع والمعاني والمعطيات والخلفيات، التي أخرجها التوصيف أو القراءة العلميّة. وبهذا كلّه تطرح الإشكاليّة وتضعها على طاولة البحث، من أجل تقويم (ومواجهة) الأمور ومعالجتها من خلال التطوير، باستعمال طرائق حديثة وأساليب متطوّرة تحاكي أبناء كلّ عصر ومجتمع في بيئته. هذه “العمليّة” العلميّة و”العمليّة”، تساهم في تطوير وتحديث إعلان البشارة، وتفعيل الأنجلة الجديدة (التبشير الجديد بالإنجيل) لبلوغ الأهداف الرئيسيّة التي تتناغم مع البيئة والعصر التي تتواجد فيها.
نستنتج بأنّ التفكير اللاّهوتيّ الراعويّ، يتطلّب تفكيرًا نقديًّا وأساسيًّا، يساعد على فهم الممارسات المسيحيّة، وتفسيرها والتعمّق بها، وارتباطها بالذاكرة والهويّة المسيحيّة. كلّ هذا، يُعطي القدرة على فهم كيفية ممارسة هذه الأعمال، بتشجيعها للغوص في عالم التفكير، من أجل فهمٍ أفضل، لبنيان وحاضر الكنيسة، وعملها الرسوليّ. ذلك يتمّ من خلال عرضٍ، لأنظمة وقواعد عمليّة وتقنيّة، في سبيل إعلان الإيمان والمحافظة على جماعة المؤمنين وتقديسهم. فالممارسات البشريّة تعبّر عن إيمان المؤمنين بقدرة المسيح وعمله الخلاصيّ.
نعم، يتناول اللاّهوت العمليّ أو الراعويّ بالعمق، شؤون وممارسة وعيش الإيمان المسيحيّ لأبناء الكنيسة، مع تحقيق الرسالة المسيحيّة، من خلال إعلان الإنجيل وعيشه في عالم اليوم. نعم، هذا اللاّهوت الراعويّ يبحث بالعمق العمل الراعويّ، الذي يطبّق اللاّهوت ويختبر الإيمان (“أرى، أحكم، أعمل” = منهجيّة العمل الكاثوليكيّ في فرنسا).
- راعويّة الإنجيل
صدر عن البابا فرنسيس الإرشاد الرسوليّ بعنوان “فرح الإنجيل” (2013)، الذي يتمحور حول إعلان الإنجيل، من حيث العقيدة والمضمون والشكل والتوجهات الراعويّة، التي تصبّ في خانة الإيمان المسيحيّ، وعيشه بطريقة صادقة ومعبّرة، عن تعاليم السيّد المسيح، ومتطلبات الخلاص.
إنّ إعلان بشرى الإنجيل هي من رسالة المسيحيّ التي تقوده نحو الكمال؛ وذلك من خلال الكنيسة “فاذهبوا وتلمذوا كلّ الأمم… وعلّموهم” (متى 28: 19-20). إنّها حافظة الوديعة، وديعة الإيمان الذي تعلنه وتنقله إلى الآخرين. فالإيمان المسيحيّ (يعرّف) يوضّح ويؤكّد بأنّ الله محبّة، الذي يدعو الإنسان إلى عيش الحبّ. هذا الحبّ يدعو الإنسان إلى حياة وسيرة إيمانيّة وروحيّة يعبّر عنها بالالتزام والحسّ الاجتماعيّ. أي ممارسة أعمال الإيمان وأفعاله: الخدمة والرّحمة والمسامحة وإلى آخره.
يتحدّث البابا فرنسيس في الفصل الرابع من الإرشاد الرسوليّ عن “إعلان البشرى بالإنجيل هو جعل ملكوت الله حاضرًا في العالم”. إنّ مضمون الإنجيل، يحتّم على الكنيسة والمؤمنين، بأن يتفاعلوا مع تعاليم يسوع وتوجيهاته، من أجل الإنسان، كلّ إنسان لا سيّما الفقير والمريض والسجين والمعذّب. هذه الوصيّة الإلهيّة تتلقفها الكنيسة من خلال اللاّهوت الراعويّ المتجسّد بالعمل الراعويّ. “وبالتالي فكلّ مسيحيّ وكلّ جماعة مدعوّان إلى أن يكونا أداة بين يدي الله لتحرير الفقراء ونموّهم”.[3]
إنّ الملكوت السماويّ الذي حققّه السيّد المسيح من أجل الإنسان، يتجسّد بالمحبّة والمصالحة والتوبة، لا سيّما بالتعاون والتضامن الإنسانيّ، الذي يُسهم في مسيرة ملكوت الله ” لا تخف أيّها القطيع الصغير، فقد حسُن لدى أبيكم أن يُنعم عليكم بالملكوت” (لو 12: 32)، “فهو الذي نجّانا من سلطان الظلمات ونقلنا إلى ملكوت ابن محبتّه، فكان لنا فيه الفداء وغفران الخطايا” ( كو 1: 13-14). وتحدث السيّد المسيح مطوّلاً عن ملكوت الله فقال:” مَثَلُ ملكوت السموات كمَثَلِ رجلٍ زرع زرعًا، أو كمَثَلِ حبّة خردل، أو كمَثَلِ خميرة، أو كمَثَلِ كنزٍ دفين أو كمَثَلِ تاجر أو كمَثَلِ شبكةٍ، أو كمَثَلِ رجل يُلقي البذر أو كمَثَلِ ربّ بيت دعا عبيده أو كمَثَلِ ملكٍ أقام وليمة.
يطلب الإنجيل من الإنسان ومن خلال راعويّة الكنيسة، أن يحقّق بطريقة فاعلة وجديّة، القيم الإنسانيّة لا سيّما مبادئ الأخوّة والعدالة والسلام. “طالما لم يتمّ إلغاء الإقصاء الاجتماعيّ وعدم المساواة الاجتماعيّة في المجتمع وبين مختلف الشعوب فسيكون من المستحيل استئصال العنف”.[4] نعم، يحثّ المسيح والإنجيل المؤمنين في هذا الزمن، إلى تجسيد أعمال وأفعال المحبّة من خلال هؤلاء إخوته الصغار “وكلّ ما تفعلونه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار فلي قد فعلتموه” (متى 25: 40).
إنّ العمل الراعويّ، يطال أيضًا تلك “الحالات”، التي عمل المسيح من أجلها وذلك من خلال الأعاجيب (إطعام الجياع، وشفاء المرضى، وقيامة الأموات وإلى آخره). بالتأكيد، إنّ راعويّة الإنجيل، تهتم بكلّ شرائح وفئات الناس، و”حالاتهم” المتعدّدة، وبالأخصّ نقل الإيمان وإعلانه، لكي يحصل الناس بمعرفتهم بالسيّد المسيح، على الخلاص:”إذهبوا وتلمذوا كلّ الأمم وعلّموهم أن يحفظوا كلّ ما أوصيتكم به” (متى 28: 19-20).
إنّ العمل الإجتماعيّ هو أيضًا من صلب الراعويّة، ولا سيّما تلك الراعويّة المتجدّدة، التي تحمل مضمون الإنجيل، ولكن بطرق متجدّدة، تحاكي أوّلاً وأخيرًا قلب الإنسان وفكره وإيمانه. ينطلق العمل الاجتماعيّ، أي العمل الإنسانيّ، المرتكز على المحبّة، والرحمة والعطف والحنان، من الإنجيل وباسم الإنجيل لتحقّق الكنيسة أعمال السيّد المسيح. فالكنيسة، في هذا الزمن، الذي يختبره الإنسان المؤمن، بشتّى تشعّباته السلبيّة وبعض الإيجابيّة، لا بدّ لها من أن تواجه التحدّيات، بتقديم روحانيّة متجدّدة، قولاً وفعلاّ، ضمن عمل “تمييزيّ إنجيليّ”، لعلامات الأزمنة، بمعنى استكشاف لأوضاع المؤمنين، من خلال التحليل والتشخيص العلميّ والروحيّ. وهذا يعطي رؤية واضحة عن مسيرة ومعوقات العمل الراعويّ والتبشيريّ. فالتحدّيات كبيرة، ولكن الأمل أكبر بكثير، لأنّ هؤلاء المؤمنين، هم أبناء الله، وأعضاء كنيسة السيّد المسيح. إنّ الرؤية المتجدّدة لعمل راعويّة الإنجيل، تطرح وتعرض مقترحات متقدمة من حيث المضمون والشكل والتعبير والأداء بوضع خارطة متجدّدة وآليات بسيطة لإعلان الإنجيل والتبشير به، الحامل الفرح والرجاء.
تحاول راعويّة الإنجيل أن تحدّ من “عولمة اللامبالاة”، من خلال حثّ المؤمنين على التعاضد والتعاون وحمل قضايا الآخرين، من أجل التماسك الإنسانيّ، بخلق مجتمع سليم مبنيّ على التوازن والمساواة والعدالة وتحقيق السلام، ورفض العنف والانعزال والتقاتل والحرمان وإلى آخره. يُطلب من راعويّة الإنجيل المتجدّدة، أن تعمل على أكثر من صعيد وعلى جميع المستويات، لإبراز كلمة الله وقوّتها وفاعليتها، كما معرفة إعلانها وتجسيدها من خلال أشخاص يتكلّمون مع الله وبالتالي يستطيعون أن يتكلّموا عن الله، وذلك من خلال رسل مشبّعين من كلمة الله ومتحلّين بالفضائل الإلهيّة والإنسانيّة، وبعمق روحيّ وتجرّد إنسانيّ، باستعمالهم طرق ووسائل يقدّمون الإنجيل كعلامة رجاء وخلاص. عليهم العمل على خلق روح جماعيّة لا روح فرديّة وتفرّد، وهذا يعزّز روح الترابط والتكافل الاجتماعيّ والإنسانيّ وحتّى الروحيّ. فالحياة الروحيّة والإيمانيّة من خلال ممارسة الأسرار، تُعطي دفعًا وقوّتًا للعمل الراعويّ. فالإيمان المسيحيّ هو هبة وعطيّة من الله، من خلال الروح القدس، المجانية لكلّ إنسان يقبل حدث المسيح الخلاصيّ.
تؤكّد راعويّة الإنجيل المتجدّدة، هذا الحدث الخلاصيّ وتجسّده من خلال العمل الراعويّ، المبنيّ على مسارات جديدة لتبشير الإنسان بانتمائه الوطنيّ والسياسيّ والثقافيّ بالإنجيل، الحامل البشرى السارّة والحياة والخلاص للمؤمنين، بكلام الربّ يسوع. يحتاج التبشير اليوم إلى طرق تبشير غير تقليديّة، لا سيّما بخلق مساحات وساحات في المدن والقرى عبر التواصل المباشر والاتصال المستمر، من خلال الوسائل المتاحة والمتعدّدة والمتطوّرة، التي تجذب وتؤثّر بالناس. هذا كلّه يهدف إلى خلق مناخ مؤاتٍ لزرع الرجاء من جديد وإعطاء فرصة للعودة إلى الينبوع ألا وهو المخلّص والفادي السيّد المسيح. من هنا تثابر وتتابع راعويّة الإنجيل المتجدّدة، على عملها الدؤوب في إعلان الحقيقة ونشرها وإعطاء القوّة الضروريّة والفاعلة في مواجهة التحديات وتخفيف الألم والحرمان والجرومات من خلال لقاء الآخرين ومن خلال لقاء الآخر مع أخيه الإنسان، من أجل خلق حياة روحيّة وشركة كاملة مع الله والكنيسة. وهذا يعزّز رفض خطر تغلغل روح العالم، الذي يحجب الحياة الروحيّة، ممّا يُبعد الإنسان عن الله والسيّد المسيح والكنيسة. كما يشكّل روح العالم، الخطر على وحدة المؤمنين وتماسكهم وتعلّقهم بإيمانهم ليشهدوا لكلمة الحقّ والحياة والحقيقة النابعة من تعاليم المسيح وحياته المتجسّدة على الأرض؛ ممّا يُسهم في نقل الإيمان ونشره وتحقيقه، بالرغم من كلّ الأشياء التي تُبعد الإنسان عن حقيقته. فالمؤمن المسيحيّ بطبيعته هو إرساليّ، كما الكنيسة (إكليروس وعلمانيين) عليها أخذ المبادرات من خلال الراعويّة المتجدّدة، التي تتطلّب الالتزام والمرافقة وحمل بعض الحلول الممكنة “لقضايا” شتّى. فالمؤمن بالمسيح وبالكنيسة عليه أن يلتزم بقضايا المجتمع وأن يعيش المحبّة للقريب والعمل على رفض اليأس والتقوقع والخوف والهروب إلى الأمام.
[1] التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، المكتبة البولسيّة، لبنان، 1999، عدد 849
[2] المرجع السابق، عدد 850
[3] فرنسيس، الإرشاد الرسوليّ فرح الإنجيل، عدد 187
[4] المرجع السابق، عدد 59