- راعويّة الواقع
” أنا هو الراعيّ الصّالح” (يو 1: 1). بهذا العنوان خاطب السيّد المسيح الرسل والجموع، والذي عبّر من جديد وبطريقة مختلفة، عن اهتمامه وحضوره وعنايته ورعايته لأبناء الأرض، لا سيّما الذين يحاولون السير في طريق الخلاص. هذا التأكيد “أنا هو الراعيّ”، ما هو إلاّ تثبيت لقدرة ابن الله المخلّص، الذي بذل ذاته من أجل أحبّائه. وهذا الشعار تحقّق وما زال في تجدّد دائم من خلال حضور المسيح المستمر وروحه القدّوس. هذا العنوان، هو ركيزة ومحور العمل الراعويّ للكنيسة؛ ومن خلاله، تستمدّ الكنيسة، مبادئ ومفهوم وروحانيّة العمل الراعويّ.
العمل الراعويّ هو الأعمال التي تقوم بها الكنيسة، وتعمل عليها كمؤسسة، من أجل إعلان الإيمان وعيشه، وذلك من خلال أفعال الإيمان وأعماله. كما التنشيط والمساهمة في تسهيل وتعميق، اللقاء بين الله وأبنائه، ضمن إطار إيمانيّ، روحيّ، ليتورجيّ، إنسانيّ، أخلاقيّ واجتماعيّ. تستند المؤسسة الكنسيّة بعملها الراعويّ، من خلال الممارسات والأعمال المنوطة بها، على الأسس والقواعد اللاّهوتيّة.
جهدت الكنيسة وما زالت تعمل عبر الأجيال، من أجل المساهمة في خلاص البشر، لا سيّما المؤمنين بقدره الله وعظمته، كما بيسوع المسيح إله ومخلّص. “إنّ الكنيسة التي أرسلها الله إلى الأمم لكي تكون السرّ الجامع للخلاص، هي مشدودة إلى تبشير البشر بالإنجيل”.[1] إنّ تدبير الله هو خلاص الإنسان، لذا عمل الله طوال تاريخ البشريّة على إنجاح مشروعه. من هنا، تعمل الكنيسة بكدّ في خدمة المسيح، على مرّ العصور والأزمنة لتحقيق وإتمام قصد الله وتدبيره الإلهيّ. نعم، إنّ تلك الأعمال والأفعال، من خلال الأنشطة والممارسات لها أهدافها. فهي تعمل على تحقيقها آخذة بعين الاعتبار، الأزمنة والأمكنة التي تعيش فيها، كما التغييرات والتطوّرات، التي تطرأ في كلّ عصر. “الكنيسة في طبيعتها المتجوّلة رسوليّة، لأنّها تصدر عن رسالة الابن، وعن رسالة الروح القدس، وفاقًا لقصد الله الآب”.[2]
إنّ اللاّهوت الراعويّ أو ما يسمّى أيضًا باللاّهوت العمليّ، هو علم يستقرئ حياة الكنيسة، وعيشها للإيمان، في الزمان والمكان، بغية إدراكه علميًّا، أي أكاديميًّا، على ضوء كلّ العلوم اللاّهوتيّة والبيبليّة والكتابيّة (الكتاب المقدّس)، مستعينًا بسائر العلوم. وهذا العلم يتضمّن منهجيات علميّة ونظريّة وتطبيقيّة. إنّه يعرض ويوصّف ويقرأ، اختبار وممارسة وعيش حياة الكنيسة وأحداثها (الأبرشيّة، الرعيّة، الإكليروس، والعلمانيين…). كما يحلّل بطريقة نقديّة للإحاطة بكلّ الأسباب والدوافع والمعاني والمعطيات والخلفيات، التي أخرجها التوصيف أو القراءة العلميّة. وبهذا كلّه تطرح الإشكاليّة وتضعها على طاولة البحث، من أجل تقويم (ومواجهة) الأمور ومعالجتها من خلال التطوير، باستعمال طرائق حديثة وأساليب متطوّرة تحاكي أبناء كلّ عصر ومجتمع في بيئته. هذه “العمليّة” العلميّة و”العمليّة”، تساهم في تطوير وتحديث إعلان البشارة، وتفعيل الأنجلة الجديدة (التبشير الجديد بالإنجيل) لبلوغ الأهداف الرئيسيّة التي تتناغم مع البيئة والعصر التي تتواجد فيها.
نستنتج بأنّ التفكير اللاّهوتيّ الراعويّ، يتطلّب تفكيرًا نقديًّا وأساسيًّا، يساعد على فهم الممارسات المسيحيّة، وتفسيرها والتعمّق بها، وارتباطها بالذاكرة والهويّة المسيحيّة. كلّ هذا، يُعطي القدرة على فهم كيفية ممارسة هذه الأعمال، بتشجيعها للغوص في عالم التفكير، من أجل فهمٍ أفضل، لبنيان وحاضر الكنيسة، وعملها الرسوليّ. ذلك يتمّ من خلال عرضٍ، لأنظمة وقواعد عمليّة وتقنيّة، في سبيل إعلان الإيمان والمحافظة على جماعة المؤمنين وتقديسهم. فالممارسات البشريّة تعبّر عن إيمان المؤمنين بقدرة المسيح وعمله الخلاصيّ.
نعم، يتناول اللاّهوت العمليّ أو الراعويّ بالعمق، شؤون وممارسة وعيش الإيمان المسيحيّ لأبناء الكنيسة، مع تحقيق الرسالة المسيحيّة، من خلال إعلان الإنجيل وعيشه في عالم اليوم. نعم، هذا اللاّهوت الراعويّ يبحث بالعمق العمل الراعويّ، الذي يطبّق اللاّهوت ويختبر الإيمان (“أرى، أحكم، أعمل” = منهجيّة العمل الكاثوليكيّ في فرنسا).
- راعويّة الإنجيل
صدر عن البابا فرنسيس الإرشاد الرسوليّ بعنوان “فرح الإنجيل” (2013)، الذي يتمحور حول إعلان الإنجيل، من حيث العقيدة والمضمون والشكل والتوجهات الراعويّة، التي تصبّ في خانة الإيمان المسيحيّ، وعيشه بطريقة صادقة ومعبّرة، عن تعاليم السيّد المسيح، ومتطلبات الخلاص.
إنّ إعلان بشرى الإنجيل هي من رسالة المسيحيّ التي تقوده نحو الكمال؛ وذلك من خلال الكنيسة “فاذهبوا وتلمذوا كلّ الأمم… وعلّموهم” (متى 28: 19-20). إنّها حافظة الوديعة، وديعة الإيمان الذي تعلنه وتنقله إلى الآخرين. فالإيمان المسيحيّ (يعرّف) يوضّح ويؤكّد بأنّ الله محبّة، الذي يدعو الإنسان إلى عيش الحبّ. هذا الحبّ يدعو الإنسان إلى حياة وسيرة إيمانيّة وروحيّة يعبّر عنها بالالتزام والحسّ الاجتماعيّ. أي ممارسة أعمال الإيمان وأفعاله: الخدمة والرّحمة والمسامحة وإلى آخره.
يتحدّث البابا فرنسيس في الفصل الرابع من الإرشاد الرسوليّ عن “إعلان البشرى بالإنجيل هو جعل ملكوت الله حاضرًا في العالم”. إنّ مضمون الإنجيل، يحتّم على الكنيسة والمؤمنين، بأن يتفاعلوا مع تعاليم يسوع وتوجيهاته، من أجل الإنسان، كلّ إنسان لا سيّما الفقير والمريض والسجين والمعذّب. هذه الوصيّة الإلهيّة تتلقفها الكنيسة من خلال اللاّهوت الراعويّ المتجسّد بالعمل الراعويّ. “وبالتالي فكلّ مسيحيّ وكلّ جماعة مدعوّان إلى أن يكونا أداة بين يدي الله لتحرير الفقراء ونموّهم”.[3]
إنّ الملكوت السماويّ الذي حققّه السيّد المسيح من أجل الإنسان، يتجسّد بالمحبّة والمصالحة والتوبة، لا سيّما بالتعاون والتضامن الإنسانيّ، الذي يُسهم في مسيرة ملكوت الله ” لا تخف أيّها القطيع الصغير، فقد حسُن لدى أبيكم أن يُنعم عليكم بالملكوت” (لو 12: 32)، “فهو الذي نجّانا من سلطان الظلمات ونقلنا إلى ملكوت ابن محبتّه، فكان لنا فيه الفداء وغفران الخطايا” ( كو 1: 13-14). وتحدث السيّد المسيح مطوّلاً عن ملكوت الله فقال:” مَثَلُ ملكوت السموات كمَثَلِ رجلٍ زرع زرعًا، أو كمَثَلِ حبّة خردل، أو كمَثَلِ خميرة، أو كمَثَلِ كنزٍ دفين أو كمَثَلِ تاجر أو كمَثَلِ شبكةٍ، أو كمَثَلِ رجل يُلقي البذر أو كمَثَلِ ربّ بيت دعا عبيده أو كمَثَلِ ملكٍ أقام وليمة.
يطلب الإنجيل من الإنسان ومن خلال راعويّة الكنيسة، أن يحقّق بطريقة فاعلة وجديّة، القيم الإنسانيّة لا سيّما مبادئ الأخوّة والعدالة والسلام. “طالما لم يتمّ إلغاء الإقصاء الاجتماعيّ وعدم المساواة الاجتماعيّة في المجتمع وبين مختلف الشعوب فسيكون من المستحيل استئصال العنف”.[4] نعم، يحثّ المسيح والإنجيل المؤمنين في هذا الزمن، إلى تجسيد أعمال وأفعال المحبّة من خلال هؤلاء إخوته الصغار “وكلّ ما تفعلونه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار فلي قد فعلتموه” (متى 25: 40).
إنّ العمل الراعويّ، يطال أيضًا تلك “الحالات”، التي عمل المسيح من أجلها وذلك من خلال الأعاجيب (إطعام الجياع، وشفاء المرضى، وقيامة الأموات وإلى آخره). بالتأكيد، إنّ راعويّة الإنجيل، تهتم بكلّ شرائح وفئات الناس، و”حالاتهم” المتعدّدة، وبالأخصّ نقل الإيمان وإعلانه، لكي يحصل الناس بمعرفتهم بالسيّد المسيح، على الخلاص:”إذهبوا وتلمذوا كلّ الأمم وعلّموهم أن يحفظوا كلّ ما أوصيتكم به” (متى 28: 19-20).
إنّ العمل الإجتماعيّ هو أيضًا من صلب الراعويّة، ولا سيّما تلك الراعويّة المتجدّدة، التي تحمل مضمون الإنجيل، ولكن بطرق متجدّدة، تحاكي أوّلاً وأخيرًا قلب الإنسان وفكره وإيمانه. ينطلق العمل الاجتماعيّ، أي العمل الإنسانيّ، المرتكز على المحبّة، والرحمة والعطف والحنان، من الإنجيل وباسم الإنجيل لتحقّق الكنيسة أعمال السيّد المسيح. فالكنيسة، في هذا الزمن، الذي يختبره الإنسان المؤمن، بشتّى تشعّباته السلبيّة وبعض الإيجابيّة، لا بدّ لها من أن تواجه التحدّيات، بتقديم روحانيّة متجدّدة، قولاً وفعلاّ، ضمن عمل “تمييزيّ إنجيليّ”، لعلامات الأزمنة، بمعنى استكشاف لأوضاع المؤمنين، من خلال التحليل والتشخيص العلميّ والروحيّ. وهذا يعطي رؤية واضحة عن مسيرة ومعوقات العمل الراعويّ والتبشيريّ. فالتحدّيات كبيرة، ولكن الأمل أكبر بكثير، لأنّ هؤلاء المؤمنين، هم أبناء الله، وأعضاء كنيسة السيّد المسيح. إنّ الرؤية المتجدّدة لعمل راعويّة الإنجيل، تطرح وتعرض مقترحات متقدمة من حيث المضمون والشكل والتعبير والأداء بوضع خارطة متجدّدة وآليات بسيطة لإعلان الإنجيل والتبشير به، الحامل الفرح والرجاء.
تحاول راعويّة الإنجيل أن تحدّ من “عولمة اللامبالاة”، من خلال حثّ المؤمنين على التعاضد والتعاون وحمل قضايا الآخرين، من أجل التماسك الإنسانيّ، بخلق مجتمع سليم مبنيّ على التوازن والمساواة والعدالة وتحقيق السلام، ورفض العنف والانعزال والتقاتل والحرمان وإلى آخره. يُطلب من راعويّة الإنجيل المتجدّدة، أن تعمل على أكثر من صعيد وعلى جميع المستويات، لإبراز كلمة الله وقوّتها وفاعليتها، كما معرفة إعلانها وتجسيدها من خلال أشخاص يتكلّمون مع الله وبالتالي يستطيعون أن يتكلّموا عن الله، وذلك من خلال رسل مشبّعين من كلمة الله ومتحلّين بالفضائل الإلهيّة والإنسانيّة، وبعمق روحيّ وتجرّد إنسانيّ، باستعمالهم طرق ووسائل يقدّمون الإنجيل كعلامة رجاء وخلاص. عليهم العمل على خلق روح جماعيّة لا روح فرديّة وتفرّد، وهذا يعزّز روح الترابط والتكافل الاجتماعيّ والإنسانيّ وحتّى الروحيّ. فالحياة الروحيّة والإيمانيّة من خلال ممارسة الأسرار، تُعطي دفعًا وقوّتًا للعمل الراعويّ. فالإيمان المسيحيّ هو هبة وعطيّة من الله، من خلال الروح القدس، المجانية لكلّ إنسان يقبل حدث المسيح الخلاصيّ.
تؤكّد راعويّة الإنجيل المتجدّدة، هذا الحدث الخلاصيّ وتجسّده من خلال العمل الراعويّ، المبنيّ على مسارات جديدة لتبشير الإنسان بانتمائه الوطنيّ والسياسيّ والثقافيّ بالإنجيل، الحامل البشرى السارّة والحياة والخلاص للمؤمنين، بكلام الربّ يسوع. يحتاج التبشير اليوم إلى طرق تبشير غير تقليديّة، لا سيّما بخلق مساحات وساحات في المدن والقرى عبر التواصل المباشر والاتصال المستمر، من خلال الوسائل المتاحة والمتعدّدة والمتطوّرة، التي تجذب وتؤثّر بالناس. هذا كلّه يهدف إلى خلق مناخ مؤاتٍ لزرع الرجاء من جديد وإعطاء فرصة للعودة إلى الينبوع ألا وهو المخلّص والفادي السيّد المسيح. من هنا تثابر وتتابع راعويّة الإنجيل المتجدّدة، على عملها الدؤوب في إعلان الحقيقة ونشرها وإعطاء القوّة الضروريّة والفاعلة في مواجهة التحديات وتخفيف الألم والحرمان والجرومات من خلال لقاء الآخرين ومن خلال لقاء الآخر مع أخيه الإنسان، من أجل خلق حياة روحيّة وشركة كاملة مع الله والكنيسة. وهذا يعزّز رفض خطر تغلغل روح العالم، الذي يحجب الحياة الروحيّة، ممّا يُبعد الإنسان عن الله والسيّد المسيح والكنيسة. كما يشكّل روح العالم، الخطر على وحدة المؤمنين وتماسكهم وتعلّقهم بإيمانهم ليشهدوا لكلمة الحقّ والحياة والحقيقة النابعة من تعاليم المسيح وحياته المتجسّدة على الأرض؛ ممّا يُسهم في نقل الإيمان ونشره وتحقيقه، بالرغم من كلّ الأشياء التي تُبعد الإنسان عن حقيقته. فالمؤمن المسيحيّ بطبيعته هو إرساليّ، كما الكنيسة (إكليروس وعلمانيين) عليها أخذ المبادرات من خلال الراعويّة المتجدّدة، التي تتطلّب الالتزام والمرافقة وحمل بعض الحلول الممكنة “لقضايا” شتّى. فالمؤمن بالمسيح وبالكنيسة عليه أن يلتزم بقضايا المجتمع وأن يعيش المحبّة للقريب والعمل على رفض اليأس والتقوقع والخوف والهروب إلى الأمام.
- أنجلة الأنسنة
تتطلّب راعويّة الإنجيل كما رأينا آنفًا، الغوص من جديد في الإنجيل، المشعّ نورًا والحامل رجاءً والمجسّد محبّةً؛ وأن تجد، في زمن التحوّلات، “طرق متجدّدة” و”أساليب جذّابة”، والابتعاد عن “الأنماط المملّة”، والعودة إلى الينابيع، أي الإيمان العميق، وسيرة القدّيسين وممارسة الأسرار، لا سيّما سِرَّي المصالحة والافخارستيّا. زِد على ذلك، التجديد في الهيكليّة للكنيسة المؤسسة، وأداء المبشرين وتصرفاتهم وشهاداتهم. كلّ هذا، تحت غطاء توبة وارتداد رسوليّ، يُسهم في راعويّة متجدّدة ومستمرّة.
تتمحور راعويّة الإنجيل حول الإنسان وتنطلق من السيّد المسيح، لتعود نحو الإنسان، ولا سيّما المؤمن بالمخلّص. تدعو راعويّة الإنجيل، إلى فتح الأبواب على مصراعيها، لتستقبل إنسانيّة الإنسان، بكلّ تركيبتها وتفاعلاتها. فهي تتوق إلى أنجلة الأنسنة، أي جعل الإنسانيّة مُبشَّرَة بالإنجيل وتقديسها، التي خلقها الله على صورته ومثاله. فالإنسانيّة التي تشوّهت وانحرفت وتوسّخت وهمّشت، بسبب فقد الإنسان لإنسانيته، من خلال الشرّ وما ينتج عنه: العنف، والصراعات، والخوف وعدم المساواة وعدم تحقيق العدالة وإلى آخره.
يحيا الإنسان، كجسدٍ بيولوجيّ وعلائقيّ، وهذه ميزة يتحلّى بها الإنسان، عن سائر مخلوقات الله. فهو يحقّق معنى وجوده على الأرض، من خلال الآخر ومعه؛ وذلك عبر الفكر والعمل. يدلّنا هذا، على أنّ الإنسان يحمل إنسانيّة، عليها أن تتجدّد وتولد باستمرار من خلال كلمة الله والآخر المختلف والمكمّل بذات الوقت. ونتحدّث مليًّا عن حرّية الإنسان وكرامته. أُعيد للكرامة الإنسانيّة الاعتبار، عندما أخذ السيّد المسيح، طبيعة الإنسان. فالكرامة الإنسانيّة، ترتكز على كون الإنسان، خلق على صورة الله كمثاله. يشترك الإنسان في تحقيق إنسانيّته، ويدرك معناها ومعنى حياته، من خلال أقواله ومواقفه وأفعاله؛ لا سيّما علاقته مع الآخر التي تجسّد وتؤكّد كرامته (وهذا متبادل بين الأشخاص). “إنّه ما من شريعة إنسانيّة تستطيع أن تحافظ على كرامة شخصيّة الإنسان وحريّته، مثلما يحافظ عليها إنجيل المسيح ]…[ فهذا الإنجيل يبشّر بحرّية أبناء الله ويعلنها ويرفض كلّ استعباد، ]…[ ويحترم هذا الإنجيل، كرامة الضمير والاختيار الحرّ، ويعلّم باستمرار استثمار كلّ المؤهلات البشريّة، لخدمة الله ولخير الناس، مستودعًا كلّ فرد محبّة الآخرين”.[5] إنّ أنجلة الأنسنة لهو مشروع مستمرّ، وينبع من الكتاب المقدّس، أي من تعاليم يسوع المسيح، وشخصه. فالأنجلة تبثّ الحضور الإلهيّ، في حياة الإنسان. من هنا، يدرك الإنسان، بأنّ الحرّية والمحبّة والحياة، تنبع من الله، الذي بذل ذاته من أجل الإنسان. لذا، يدعوه الله إلى الحرّية والمحبّة والحياة؛ ممّا يؤكّد، بأنّ حياة الإنسان، تتحوّل على صورة الله كمثاله. كما إلى بذل الذات من أجل الآخرين.
يكتشف الإنسان، أنّ الله حاضر في وجوده وكيانه الإنسانيّ، وهو يرافقه في مسيرته الإيمانيّة والشخصيّة؛ ليقدّم له كلّ الإمكانات والوسائل من أجل بناء كينونة الإنسان فيه ولا سيّما مع الآخر. وهذا، يضمن له إنسانيّته ويُظهر له، أهميّة تلك الإنسانيّة وضرورتها في تاريخ الخلاص. من هنا، على الإنسان أن يُسهم مع الله، في تكملة تشييد الإنسانيّة أو أنسنة الإنسان، كما فعل السيّد المسيح، والمحافظة على جوهر الأنسنة وقيمتها، بمسؤوليّة وبطريقة عمليّة من خلال التصرّف.
يحتاج الإنسان اليوم، إلى أنسنة إنسانيّته، أي إلى أنجلة إنسانيّته. يُعيد التبشير الجديد بالإنجيل (الأنجلة الجديدة) إلى إنسانيّة الإنسان، صورة الله، التي زرعها في الإنسان، كما يذكّر بأنّ القيم الإنسانيّة التي تخلق مع الإنسان (بالفطرة) أو التي يكتسبها، عليه المحافظة عليها، بالرغم من كلّ العراقيل، والصعوبات، والاغراءات، والتفلّت والصراعات، وحبّ السيطرة والهيمنة، والتعدّي على حقوق الإنسان وكرامته، واستعمال وسائل الغشّ، وإلى آخره.
تدعو أنجلة الأنسنة، إلى سماع صوت المسيح في الإنجيل، وذلك بتحقيق مشروع الله وإرادته، بخلاص البشريّة. تُعزّز العلاقات الإنسانيّة ضمن الحياة المسيحيّة، الإيمان بالمسيح النعمة الأكيدة، للدخول في عمق إيمانه ومعتقده الراسخ، بأنّ عيش إنسانيّته بالملء هي وسيلة وخشبة خلاص. وهذا، عندما يتجاوب مع كلمة الله خالقه ومخلّصه. فموت المسيح وقيامته، أعاد إلى الإنسان بهاء الخلق والإبداع، محرّرًا إيّاه من قوى الشرّ، والأنانيّة والخطيئة، جاعلاً منه، واحة سلام وخلاص، بتحقيق وتقديس، قيمه الإنسانيّة وأنسنته من جديد.
ينتظر السيّد المسيح من رعيته، أن تعي أهميّة الإنسان وقيمته، الذي لبس جسد إنسانٍ وعاش في عائلة. من هنا، تطلق الكنيسة الصرخة تلو الأخرى، من أجل أن لا يفقد الإنسان هذا الكنز، وتلك النعمة، بابتعاده عن الإيمان القويم، أو بتفريطه بتركيبته الإنسانيّة، التي تعطيه القدرة، على العيش بسلام مع الله، والآخر والبيئة. يذكّر المسيح، الإنسان المؤمن، بعيش المحبّة والسلام والرحمة مع الآخر “فما دامت لنا الفرصة إذًا، فلنصنع الخير إلى جميع الناس ولا سيّما إلى إخوتنا في الإيمان” (غلا 6: 10). ويشدّد الربّ يسوع، على عمل الروح القدس في حياة الإنسان المؤمن والمُصغي إلى إلهامات الروح، التي تقود إلى المحافظة على القيم الإنسانيّة، لأنّ الروح وحده قادر أن يحقّق للإنسان دعوته الحقيقيّة “… ولكن إذا كان الروح يقودكم، فلستم في حكم الشريعة ]…[ أمّا ثمر الروح فهو المحبّة والفرح والسلام والصبر واللطف وكرم الأخلاق والإيمان والوداعة والعفاف. وهذه الأشياء ما من شريعة تتعرّض لها ]…[ فإذا كنّا نحيا حياة الروح، ونسير أيضًا سيرة الروح: لا نُعجب بأنفسنا ولا يتحدَّ ولا يحسُد بعضنا بعضًا” (غلا 5:22-25).
فليتذكّر الإنسان عظمة كيانه، ووجوده على هذه الأرض، من أجل الولوج إلى الفردوس، المعدّ له من قِبَل الله. وليتذكّر أيضًا، حقيقة الربّ يسوع، ومشروعه للإنسان. ويتذكّر أيضًا وأيضًا، بأنّ عليه التجدّد والتطوّر، لكي يكون إتّحاده بالله واشتراكه في الحياة الإلهيّة تكمن حقًّا في تحقيق مهمته ورسالته كإنسان، لأنّه بإمكانه أن يكتشف في المسيح حقيقته الكاملة كإنسان، ويمكنه أن يحقّقها بوضوح وبقوّة.
- الأنجلة الجديدة ووقعها
يبقى الإنجيل مصدر حياة المسيحيّ وخلاصه، بالرغم مَن ابتعد “بعض الشيء”، عن عقيدته وإيمانه وحياته الروحيّة. ترى الكنيسة المؤسسة (السلطة)، بأنّ أزمة إيمان تغزو المعمّدين، بسبب الأزمات الروحيّة (التي تطاول قسم من الإكليروس) والأخلاقيّة والإجتماعيّة والتحدّيات التي تضغط على حياة العائلة والشباب، وعدم ممارسة الأسرار، ورفض التقيّد بالقيم المسيحيّة، والإنسانيّة والأخلاقيّة. إنّ تلك المعطيات وأجواء ممارسة الحياة المسيحيّة، جعلت من أساقفة الكاثوليك في العالم، يجتمعون حول سينودوس بعنوان “البشارة الجديدة لنقل الإيمان المسيحيّ” (الأنجلة الجديدة) العام 2013 برئاسة البابا بنديكتوس السادس عشر.
تتطلّب الأنجلة الجديدة راعويّة متجدّدة لتتكامل وتحقّق نجاحًا في نقل الإيمان وتثبيته. يقول البابا بولس السادس عن التبشير بالإنجيل “الكنيسة موجودة بهدف التبشير، أي لتعظ وتعلّم، وتكون لهبة النعمة ولمصالحة الخطأة مع الله، وإدامة تضحية المسيح في الإفخارستيّا، وهو تذكار لموته وقيامته الإلهيّة”.[6] يكتشف المؤمن المسيحيّ دينامكيّة الإنجيل في حياته، عندما يتواصل مع الكنيسة وراعويّتها ومن خلال الآخر المؤمن. “وتشكّل الأنجلة الآن مهمّة الكنيسة الأكثر إلحاحًا، وعليها أن تبحث في لغة جديدة لتلبّي حاجات المؤمنين ]…[ الأنجلة تبشير “جديد” بل متجدّد، هدفه الحقيقيّ هو تعليم المعنى الحقيقيّ للإيمان الذي يغيّر مجرى الحياة ويجذب قلوب المؤمنين وغير المؤمنين”.[7]
تعمل الكنيسة جاهدة اليوم، من خلال الراعويّة، على إعلان الإيمان والتبشير به ونقله للآخرين، وذلك من خلال التعليم والشهادة الحيّة. فالراعويّة المتجدّدة تدعم توجّهات الكنيسة وتُسهم في تحقيق أهداف الكنيسة، ألا وهي التربية على الإيمان وعيشه وممارسته، من خلال ممارسة الأسرار والصلاة وتطبيق وصايا الله والكنيسة، وتطبيق أعمال الإيمان وأفعاله، ممارسةً الرحمة والمحبّة مع الآخرين؛ وذلك بروح الإنجيل الذي يقدّم القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة.
الراعويّة المتجدّدة للبشارة الجديدة بالإنجيل، تسعى دومًا إلى تحقيق خلق جماعة مسيحيّة، أي جماعة صلاة تؤمن وتشهد وتخدم بالمحبّة. “… وممّا لا شكّ فيه أنّ الأنجلة الجديدة تتطلّب إعادة تنشئة أو تعليمًا مسيحيًّا يستلزم قراءة الإنجيل ثانيةً والمشاركة في حياة الكنيسة من خلال الليتورجيّا والصلاة والأسرار”[8]. نعم الراعويّة أي العمل الراعويّ يتطلّب الإصغاء إلى كلمة الله.
تحاول الراعويّة المتجدّدة، أن تربّي على الإيمان، مع الأهل والجماعات والحركات الرسوليّة، وذلك في هدف تعزيز الإيمان ونضجه وترسيخه. فالتربية على الإيمان هي عمليّة تثقيفيّة وتوعية أيضًا. من هنا، الأنجلة الجديدة، تأخذ منحى، أكثر انفتاحًا وإدراكًا للحياة الإنسانيّة وتشعّباتها. فالمسيح هو المُنقذ الوحيد للإنسان، وهو يجهد أن يلتقي جميع الناس الآب، الصورة الإلهيّة لسعادة الإنسان المطلقة. ويقدّم الله للإنسان الخلاص، أمّا السيّد المسيح فيطلب من كلّ مسيحيّ مؤمن وممارس لإيمانه أن يعلن البشارة “اذهبوا وأعلنوا البشرى للأمم وتلمذوهم”. نعم، الكنيسة، من خلال التبشير الجديد بالإنجيل تعلن وتعرض الإنجيل وتبشّر به، ولكن من دون أن تفرضه.
إنّ وقع التبشير الجديد بالإنجيل في عصر التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعيّ، لهو مصدر فرح وطمأنينة وواحة رجاء وسلام. يعطي التبشير الجديد بالإنجيل دفعًا نحو الحريّة المسؤولة والإرادة القويّة، من أجل اختيار النصيب الأفضل ألا وهو طريق القداسة الذي يقود نحو الخلاص. “الأنجلة هي نقل الإيمان والحياة المسيحيّة من خلال نقل الكتب المقدّسة وعيشها وتطبيقها وخصوصًا الكتاب المقدّس ]…[ في معرفة يسوع المسيح واللقاء به ]…[ الهدف منها التربية على الإيمان ]…[ من خلال الالتزام بكلام السيّد المسيح والانتماء إلى جسده السريّ. الأنجلة الجديدة (التبشير الجديد بالإنجيل) هي التذكير بإعادة قراءة الإنجيل بالعمق وذلك بنهج جديد وأساليب متطوّرة، تعبّر عن حماس رسوليّ، والطرائق الجديدة التي يجب أن تستعملها الكنيسة في فهم وعيش الإنجيل ونشره، ممّا يُسهم في تدعيم مواجهة التغييرات الجذريّة في العالم والتحدّيات العديدة والكبيرة”.[9]
تدعو الأنجلة الجديدة إلى اكتشاف فرح الإيمان المسيحيّ، والتعمّق بالحقيقة واستعادة المحبّة واستعمال جميع الوسائل الصحيحة، من أجل حياة كريمة “تقوم الأنجلة الجديدة على العمل الروحيّ العميق والمستمرّ ببثّ الإيمان والتقوى والمحبّة والغفران ضمن الجماعات المسيحيّة من أجل السير نحو القداسة”.[10] يمكن للتبشير بالإنجيل الجديد أيضًا أن يطال الأمكنة والساحات التي يتواجد فيها الأشخاص، الذين ابتعدوا عن المخلّص وإنجيله.
أخيرًا الأنجلة الجديدة هي عيش الكلمة، قبل التبشير بها. كما العودة إلى الذات والتوبة. ففهم الكلمة وعيشها، يتطلّب التواصل والإصغاء المتواصل المستمرّ، مع كلمة الله. هكذا تنمو المحبّة “بهذا يعرفون أنّكم تلاميذي إذا كنتم تحبّون بعضكم بعضًا” (يو 3: 35). يطلب اليوم أكثر من أي وقت مضى، تكثيف الجهود من قبل الرعاة والعلمانيين، في زرع الرجاء والإيمان والمحبّة، في ضمائر المؤمنين وقلوبهم، وإعطاء المثل الصالح، من خلال التواضع والتجدّد، والحضور الفعّال في شتّى الميادين، كما العمل على تدعيم الروابط الاجتماعية، وحثّهم على عدم التقوقع بل على التكامل والتضامن. فليحافظ الإنسان على المبادئ والقيم وليسهر على تطبيقها، وليكن الجميع مسؤؤل تجاه الجميع.
المراجع
- الكتاب المقدّس
- المجمع الفاتيكانيّ الثاني
- التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، المكتبة البولسيّة، لبنان، 1999
- بولس السادس، الإرشاد الرسوليّ التبشير بالإنجيل
- فرنسيس، الإرشاد الرسوليّ فرح الإنجيل
- نجيب بعقليني، الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة في لبنان، مكتب راعويّة الزواج والعائلة – الدائرة البطريركيّة المارونيّة – بكركي، لبنان.
- MOENS, Paroisses et nouvelle évangélisation, L’Emmanuel, 2009.
- DEFOIS, A. CANIZARES, Evangélisation, catéchèse, catéchistes, Tequis, Paris, 2000.
- LANZA, S. Convertire Giona, Pastorale come progetto, OCD, Roma, 2008.
الأب نجيب بعقليني
- يحمل كفاءة في اللاّهوت العقائديّ، ودكتورا في اللاّهوت الراعويّ.
- أخصائي في راعويّة الزواج والعائلة.
- خدم عدّة رعايا كما عمل في الإدارة التربويّة والتعليم: نائب رئيس الجامعة الأنطونيّة، المدير الماليّ والإداريّ للجامعة الأنطونيّة، مدير الجامعة الأنطونيّة فرع زحلة والبقاع، رئيس مدرسة مار روكز الأنطونيّة رياق، مدير المعهد الأنطونيّ بعبدا (لبنان).
- عمل في الحقل الراعويّ: إصدار كتب ومقالات، مقابلات وبرامج تلفزيونيّة وإذاعيّة، محاضرات وندوات.
- صدر له:
- الطريق إلى الزواج (بالعربيّة والفرنسيّة)
- حبّ واستمرار
- كي نبقى معًا
- لقاء وعهد
- المرأة والتّنمية
- الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة (بالعربيّة والفرنسيّة)
[1] التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، المكتبة البولسيّة، لبنان، 1999، عدد 849
[2] المرجع السابق، عدد 850
[3] فرنسيس، الإرشاد الرسوليّ فرح الإنجيل، عدد 187
[4] المرجع السابق، عدد 59
[5] المجمع الفاتيكانيّ الثانيّ، دستور راعويّ حول الكنيسة في عالم اليوم، فرح ورجاء، عدد 41
[6] بولس السادس، الإرشاد الرسوليّ التبشير بالإنجيل، عدد 1989
[7] نجيب بعقليني، الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة في لبنان، مكتب راعويّة الزواج والعائلة، الدائرة البطريركيّة المارونيّة، بكركي- لبنان، 2014، ص 222
[8] المرجع السابق، ص 226
[9] المرجع السابق، ص 366
[10] المرجع السابق، ص 366