التعليم المسيحي: بين اللاهوت، القداسة، والأبوة الروحية (7)
روما، الخميس 19 فبراير 2009 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي القسم السابع من مقالة روبير شعيب حول موضوع “التعليم المسيحي: بين اللاهوت، القداسة، والأبوة الروحية”.
* * *
د. اللاهوت هو علم الحب (scientia amoris)
بعد أن نظرنا إلى مفاهيم الحقيقة، والسر والقلب في المسيحية، ننظر الآن إلى مفهوم اللاهوت بحد ذاته، وذلك لكي لا نقع في لغط عندما نتحدث عن الدائرة التفسيرية القائمة بين اللاهوت والقداسة. نجد في العصر الوسيط مدرسة لاهوتية كان رائدها الكبير القديس بونافنتورا معاصر وصديق القديس توما الأكويني، الذي جئنا على ذكره آنفًا.
في كتابه الشهير : “Itinerarium mentis in Deum” يتحدث بونافنتورا عن معرفة الله، وعن ارتقاء الفكر إلى معرفة الخالق إنطلاقًا من خبرة القديس فرنسيس الأسيزي، مؤسس رهبنة الإخوة الأصاغر (المعروفين باسم “الفرنسيسكان”) التي كان ينتمي إليها بونافنتورا.
بعد كل العرض الذي سبق وقمنا به، هناك سؤال يطرح نفسه: إذا كنت أحب يسوع، لماذا يجب أن أتعمق في الفكر اللاهوتي والإيماني؟ لماذا يجب على عاطفة إيماني الصافية أن تضحي فكرًا ذكيًا؟
ويأتي بونافنتورا ليقدم لنا جوابًا فيقول: يجب أن نفهم اللاهوت كـ “علم الحب” (scientia amoris). إذا أحببتُ، لأردت أن أعرف الآخر أكثر فأكثر. سأكون كاذبًا إذا أحببت شخصًا ما ولم أشتهي وأتلهف أن أعرفه أكثر فأكثر، أن أعرف فكره، وتاريخه، ورغباته، ومشاريعه، وتطلعاته، وبكلمة شخصه بكليته. وبالشكل عينه، إذا كنت أحب الله، لا بد أن أريد أن أعرفه أكثر لأنه الحب يتعطش إلى المعرفة ويتوق إليها.
وبالتالي إذا ما نظرنا إلى اللاهوت كـ “مسيرة حب” (via amoris)، نغير وجهة نظرنا وندرك أن ما من فصل بين الحب والمعرفة. من أحب يسوع أراد أن يعرفه أكثر إنطلاقًا من الدينامية الباطنية للحب.
بالنسبة لليوناردو دافنشي “المعرفة هي مبدأ الحب”، من يعرف يستطيع أن يحب (ونحن نقول في الشرق، ولو في إطار مختلف: “الإنسان عدو ما يجهل”؛ إلا أن الشرق المسيحي، شرق الآباء اليونان وشرق اللاهوتيين الأرثوذكسيين الذين أغنوا الفكر الغربي في القرن الماضي بكتّاب مثل بافل أفدوكيموف (Pavel Evdokimov)، وسرجي بولكاكوف (Sergej Bulgakov)، وبافل فلورنسكي (Pavel Florenskij)، وأوليفيه كليمان (Olivier Clément)، يقولون أن العكس هو صحيح، بل هو أصحّ: الحب هو مبدأ المعرفة.
ولا يمكننا إلا أن نوافقهم الرأي إذا ما نظرنا مليًا إلى واقع نشأة المعرفة وتعمقها في حياتنا اليومية. فلنأخذ على سبيل المثال الأم وابنها: من يعرف الابن أكثر من أمه؟ ولماذا؟ الجواب يتخطى البعد الغريزي (الذي لا ننكره)، فالأم تعرف ابنها أكثر من أي شخص آخر لأنها تحبه، وتستطيع غالبًا أن تشخص حاجات ابنها وحالاته النفسية والجسدية أكثر من أي طبيب وعالم نفس مختص. لماذا؟ لأنها تحب، والحب يضحي عامل ومبدأ معرفة. المحب يحوز مقدرة تؤهله أن يدرك الآخر في أعماقه، لأن الحب – بحسب اللاهوتي الأرثوذكس بافل فلورنسكي – هو قوة تغير محور الإنسان، هو انتقال من محورية الأنا إلى محورية الآخر، الـ “أنت”. وقد حدس القديس بولس هذا الأمر عندما قال: “لست أنا من أحيا بل المسيح حي فيّ” (راجع غلا 2، 20). مع يعش في واقع الحب، يضحي محوره الآخر. وتضحي معرفة هذا الآخر واقعًا حميمًا وطبيعيًا.
يصف الفيلسوف الظواهري المعاصر، جان-لوك ماريون (Jean-Luc Marion) ظاهرة الحب فيقول: “…في تلك اللحظة أشعر بأني سأضحي شخصًا آخر. سأضحي؟ لا بل سبق وأضحيت متيمًا به. في تلك اللحظة يضحي الآخر بالنسبة لي مسألة شخصية، مختلفًا عن كل الآخرين، هو لي وأنا له، يوجهني إليه وأضحي شخصًا من خلاله، يهبني لذاتي من خلال توجيهي إلى ذاته”.
نجد هذا التبادل أيضًا في واقع التجسد، وقد عبر القديس أثناسيوس الإسكندري، “لاهوتي التجسد” بشكل باهر: صار الله إنسانًا ليصير الإنسان إلهًا. وتعبر الليتورجية المارونية عن هذا الواقع في الصلاة الافخارستية: “وحدت يا رب لاهوتك بناسوتنا، وناسوتنا بلاهوتك؛ حياتك بموتنا، وموتنا بحياتك. أخذت ما لنا ووهبتنا ما لك…”.
* * *
– روبير شعيب يعلم “الكريستولوجيا” و “مدخل إلى الفكر اللاهوتي الآبائي” في مدرسة الرسالة في فلورنسا إيطاليا، ويقوم حاليًا بكتابة أطروحة دكتورا في اللاهوت الأساسي في جامعة الغريغوريانا الحبرية في روما حول موضوع “معاني وحواس الإيمان. نظرة إلى الأبعاد ما قبل وما بعد العقلية في فعل الإيمان”، كما ويعمل كصحفي لوكالة زينيت العالمية.