براد، سوريا، الأربعاء 10 فبراير 2010 (zenit.org). – ننشر في ما يلي كلمة المطران يوسف أنيس أبي عاد، رئيس أساقفة حلب وتوابعها على الموارنة
في القدّاس الاحتفالي لمناسبة عيد مار مارون، وبدء السنة التذكاريّة في المئويّة السادسة عشرة لرقاده (410-2010).
“ليس لأجلي كان هذا الصوت، بل لأجلكم” (يوحنّا 12/30).
لقد تعوّد الأقدمون، كما تخبرنا الكتب المقدَّسة، أن يسمعوا صوت الله بالرعود، أو أن يروا ملاكاً من عنده.. فلمّا سمع الجمعُ الحاضرُ الصوتَ المدوّي، في هذا النصّ الإنجيلي، عرفوا أنّه آتٍ من عند الله.
سمعوا الصوت، ولم يفهموا الكلام.. ولم يعتبروا (أنفسهم) أنّهم معنيّون به. ففاجأهم السيّد المسيح بقوله: “ليس لأجلي كان هذا الصوت، بل لأجلكم…“.
والصوت الذي سُمع كان جواباً على صلاة يسوع… هذه الصلاة التي كان لها وجهان: وجه التضرّع، ووجه التمجيد. فإذا بجواب الآب: “قد مَجَّدتُ وأُمجِّد..” (12/28)، يعني أنّه يُمجَّد بالابن ويمجِّده، في حال الآلام، كما في حال الموت، وفي القيامة أيضاً.
ولقد فهمت الكنيسة هذه المعاني بعد أن قام يسوع من بين الأموات. وصارت تتأمّل فيها وتفسّرها لأبنائها، وللناس أجمعين.
والسؤال الذي يُطرح:
– لماذا اختار بعضهم طوعاً، في مسيرة التضرّع والتمجيد، على دروب المعلّم الإلهي، هذه الطرائق من العيش؟
لماذا هذه المغاور والأكواخ، ومن ثَمَّ الأديار؟.. ولماذا الانعزال والعزلة؟
– فلنصغِ مجدّداً إلى كلام الإنجيل:
قال يسوع: “مَن أحبّ حياته فقدها، ومَن رغب عنها في هذا العالَم، حفظها للحياة الأبديّة“(12/25).
سمع أبطال الإيمان نداء الكلمة الحقّ. فقرّروا أن يحيوا هذه الكلمات بجدّيّتها، أن يحيوها باسمهم الشخصي، وباسم الكنيسة وباسم البشريّة جمعاء، كي يدخلوا في سرّ الله العجيب وفي تدبيره الخلاصي.. وصولاً إلى حياة أبديّة، أوّلُها ابتدأ منذ الآن.
تألّموا حياتهم كلّها. تقشّفوا إلى أقصى حدّ. قدّموا ذواتهم ورغبوا عنها فاعتُبروا شهداء أحياء.
عاشوا، قبل مماتهم، وفيه، وبعده، قيامة المسيح المحيية.
تقوّوا، بقوّة هذه القيامة، فكانوا في آلامهم شاكرين فرحين.
صلَّوا فازدادوا نقاء، حتّى إنّهم توصّلوا أن يَرَوا في الناس، من وراء ما يسمعونه من آهاتٍ وعلل، نقاءً ذاتيّاً، لأنّ الله يحفظ له، في كِيان كلّ واحد منّا زاويةً خاصّة، لا يدخل إليها، ولا يطالها، إلاّ روحه القدُّوس. فصاروا مرجعاً، وصاروا قدوةً وموضع تقدير وإعجاب.
من هؤلاء كان قدِّيسنا مارون. “هو الذي زرع لله بستاناً مزهراً”، كما تقول سيرة حياته.. وصار له تلاميذ كثيرون يحيون، بدَورهم، العبادة والمشاركة.
وقد انطلقوا من هذه الديار متشبّعين بروحانيّة شفيعهم، فوصلوا إلى لبنان وانتشروا في أصقاع المسكونة كلّها.
أيّها الإخوة الأحبّاء
يطلّ علينا عيد مار مارون، للمرّة الثانية، ونحن نقف بوفاء إلى جوار ضريحه الذي تعبق فيه رائحة القداسة، مسرورين بتذكّر معلّمنا في الحياة الروحيّة، متأمّلين في دعوته ودعوتنا في العالَم الحاضر.
وإذ نلج السنة التذكاريّة في مئويّة مار مارون السادسة عشرة بالاتّحاد مع الشعب الماروني برمّته، في سورية ولبنان والعالَم، نفهم هذه المعاني التي تحملها إلينا مناسبة هذه السنة المقدَّسة. هي معانٍ من شأنها أن ترجعنا إلى دعوتنا المسيحيّة الأُولى، في عشق الله، ومحبّة الكنيسة، والتوق إلى الأخوّة. ولعلّها لا تحتاج إلى شرح أوفى! فآياتُ النسك الفريد، والتقرّب إلى الله، والصلاة المستمرّة، وبَساطة العيش السابح بين الأرض والسماء، والعمل بصفته مصدراً للخير وتقديساً للذات والعالَم، والتعاضد الأخوي في المحبّة، وفي الرجاء الذي لا يخيّب صاحبه… محطّاتٌ تستعيد لنا تاريخَ شعب كامل، وإيماناً عميقاً تحلّى به.
فتباركت هذه الأرض المقدَّسة، التي تشدّنا إليها.. لكي نعيش بدورنا، أيّاً كانت الحياة المعطاة لنا، فصحَ المسيح، بآلامه وموته وقيامته، بعون الروح القدس، الذي يعلّمنا الصلاة “ويشفع لنا بأنّاتٍ لا تُوصَف” (رومة 8/26).
كنوز الإيمان هذا، الدفين فينا، نحياها للوفاق، والسلام، والأخوّة، شهادةً معاصرة لحضورٍ خصبٍ يفتّش عن وجه الله الكريم وعن بركته ورضوانه.
وإنّنا في هذه الربوع، وبمشاعر عميقة صادقة نضع ذواتنا في خدمة مَن يحنّ إلى نوعيّة هذه الحياة، حياة التأمّل والصلاة، لكي يفرح بالله، ويمجّده، ويتمجّد به.
وما سَعْيُنا إلى إحياء هذه الأماكن الطاهرة، إلاّ لإيمان منّا، ملؤه الفرح والحَميّة، بأنّ أماكن مار مارون هذه سوف تعود وتُنمي، بعناية إلهيّة، وبأمانة ينتشر عبيرها إلى أقطار العالَم كلّه، الحوارَ الإنساني الحقيقي، في الحياة والأعمال والاختبار الروحي، المنسجم مع التقاليد المختصّة. وتمتّنُ علاقاتِ المودّة والاحترام، والثقة والتقدير، والتعاون على الحياة بين أبناء البلد الواحد.
وإنّه بعين الالتزام هذا، والإكبار لهذه الأرض، التي أنبتت مارون وغيرَه من أصفياء الله، والتي كانت السبّاقة، كما يشهد التاريخ، إلى الاحتفاء بقدِّيسيها، تلتفت سورية بقيادتها الحكيمة وعلى رأسها سيادة الرئيس الدكتور بشّار الأسد، بكلّ إمكانيّاتها، لشدّ أزرنا في إحياء هذا التراث السوري المسيحي الخالد.
فالشكر لسيادته لهذا الاهتمام والعناية، يلفّنا بهما، كيما تبقى أجواء هذه الأماكن مشعّةً بال
نُور على الوافدين إليها من حُجّاج وسيّاح، حاملةً إلى العالَم، الذي يعيش ظروفاً حالكة، الصورةَ الناصعةَ عن هذا البلد العزيز.
باسمي وباسم أبرشية حلب العزيزة أرحّب بكم جميعاً، يا مَن أتيتم من حلب ولبنان وأنحاء العالَم.. تلبّون نداء الروح، تتأمّلون وتصلّون، وتنهلون من عبق قداسة مارون، فتتقوّى فيكم نفحةُ الإيمان مجدّداً..
أرحّب بفخامة الرئيس إميل لحّود وبدولة الرئيس ميشال عون – الذي سبق وزار هذه الديار، فكانت الفرحة ولا تزال عارمة – وبمعالي الوزير سليمان فرنجيّة وبصحبهم الكرام.
أرحّب بسعادة السفير البابوي بدمشق المطران ماريو زيناري، راجياً أن ينقل باسمي، وباسم إخوتي أصحاب السيادة، وباسم هذا الشعب الحاضر، تحيّاتنا ومحبّتنا إلى قداسة الحَبْر الأعظم البابا بندكتُس السادس عشر.
أرحّب بالسيّدة المستشارة الدكتورة بثينة شعبان وبالسيّد وزير الأوقاف الدكتور محمّد عبد الستّار السيّد، وبمحافظنا الغيور المهندس علي أحمد منصورة.
واسمحوا لي أن أجدّد شكري لكلّ الجهود التي بُذلت مساء البارحة في معرض “في ديار مار مارون” الذي أُقيم في رحاب قلعة حلب الشمّاء.
والشكر لكلّ الفعّاليّات التي سارعت إلى تجهيز هذا المكان، تتضافر معها جهودُ محافظة حلب وأهالي براد.. من أجل هذا الاحتفال الروحي واستقبال الوفود والحجّاج والزوّار والأصدقاء.
أعاد الله عليكم هذا العيد بكلّ خير. ولتكن سنةُ مار مارون التي نرغب في أن تَزخرَ بالاحتفالات والزيارات والرياضات الروحيّة، بالتعاون مع أبناء الأبرشيّة والأهالي في المنطقة، وسائر كنائس حلب، فلتكن هذه السنة سنةً روحيّةً بامتياز في القلوب والنفوس، فتسمع صوت الله، ويُفرحها أنّها معنيّة به.
وإنّنا نسأل الله عزّ وجلّ، أن يبارك، بشفاعة صفيّه مار مارون، أرضنا وشعبَنا، ويحفظهما في سلام وهناءة ومحبّة، تمجيداً لاسمه القدُّوس، له المجد والإكرام إلى الأبد. آمين.
المطران يوسف أنيس أبي عاد
رئيس أساقفة حلب وتوابعها على الموارنة