“الإنسان ليس بحاجة فقط إلى الغذاء المادي”
حاضرة الفاتيكان، الأربعاء 17 فبراير 2010 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي الكلمة التي ألقاها بندكتس السادس عشر خلال زيارة مأوى دون لويجي دي لييغرو الذي تديره كاريتاس في روما.
***
أيها الأحباء،
لقد رحبت بفرح بالدعوة إلى زيارة هذا المأوى الذي يحمل اسم “دون لويجي دي لييغرو”، أول مدير لكاريتاس روما الأبرشية التي نشأت قبل أكثر من 30 سنة. أوجه الشكر من كل قلبي إلى النائب الرسولي الكاردينال أغوستينو فاليني والمدير المسؤول عن شركة السكك الحديدية الإيطالية، المهندس ماورو موريتي، على الكلمات الطيبة التي وجهاها لي. بمحبة خاصة، أعبر عن امتناني لكم جميعاً أنتم الذين تترددون إلى هذا المأوى والذين أردتم إهدائي من خلال السيدة جيوفانا كاتالدو أحر التحيات المصحوبة بهدية ثمينة هي صليب أونا، رمز الرجاء المنير. أحيي المونسنيور جيوسيبي ميريسي، رئيس كاريتاس الإيطالية، والأسقف المساعد المونسنيور غيرينو دي تورا، ومدير كاريتاس روما المونسنيور إنريكو فيروتشي. كما يسعدني أن أحيي المسؤولين الحكوميين الحاضرين هنا منهم بخاصة معالي وزير البنى التحتية والنقل، ألتيرو ماتيولي الذي أشكره على كلماته، وجياني أليمانو عمدة روما المحترم الذي أشكره على المساعدة الفعالة والدائمة التي تقدمها بلدية روما لمشاريع المأوى. تحياتي إلى المتطوعين وجميع الحاضرين. شكراً على ترحيبكم!
ثلاث وعشرون سنة مرت على نشأة هذا المبنى – التي أصبحت ممكنة بتعاون شركة السكك الحديدية الإيطالية التي أمنت المكان بسخاء، وبالدعم المادي من بلدية روما – وبداية استقباله لأول ضيوفه. على مر السنوات، وإلى جانب تأمين منامة للمشردين، جرى تقديم خدمات إضافية منها عيادات الرعاية الصحية ووجبات الطعام، وانضم متبرعون آخرون إلى سابقيهم وهم شركة الكهرباء إينيل، مؤسسة روما، المهندس أغوستينو ماغيني، مؤسسة الاتصالات ووزارة الثروات الثقافية، الذين شهدوا لقوة المحبة الجامعة. هكذا أصبح المأوى مكاناً تجسدت فيه كلمات يسوع بفضل خدمة العديد من العاملين والمتطوعين: “لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريباً فآويتموني، عرياناً فكسوتموني، مريضاً فزرتموني” (مت 25: 35، 36).
أيها الإخوة والأحباء الذين لقيتم الترحيب هنا، اعلموا أن الكنيسة تحبكم كثيراً ولن تتخلى عنكم لأنها ترى في وجه كل واحد منكم وجه المسيح الذي أراد أن يشبه بخاصة الفقراء والمعوزين. إن الشهادة للمحبة التي تتحقق بشكل استثنائي في هذا المكان تنتمي إلى رسالة الكنيسة وإعلان الإنجيل. فالإنسان ليس بحاجة فقط إلى الغذاء المادي أو المساعدة على تخطي الصعاب، وإنما أيضاً إلى معرفة حقيقة ذاته وكرامته. وكما ذكرت في رسالتي العامة “المحبة في الحقيقة”، “من دون الحقيقة، يصبح الإحسان نزعة عاطفية. وتتحول المحبة إلى صدَفة فارغة يعاد ملؤها عشوائياً” (رقم 3).
لذلك تدعى الكنيسة بخدمتها للفقراء إلى إعلان حقيقة الإنسان الذي أحبه الله وخلقه على صورته، الإنسان الذي افتداه المسيح ودعاه إلى الشركة الأبدية معه. لقد أراد كثيرون أن يعيدوا اكتشاف كرامتهم التي فقدوها أحياناً في أحداث مأساوية، وأن يستعيدوا الثقة بأنفسهم والرجاء بالمستقبل. من خلال أعمال ومثل وكلمات الأشخاص الذين يقدمون المساعدة هنا، يتمكن العديد من الرجال والنساء من الشعور بأن المحبة أي الله يحمي حياتهم، مما يضفي عليها معنى وأهمية (بالرجاء مخلصون، رقم 35). هذه الثقة العميقة تولّد في قلب الإنسان رجاءً قوياً ومنيراً، رجاءً يمنح الشجاعة على مواصلة رحلة الحياة على الرغم من نقاط الفشل والصعاب والمحن المرافقة لها. أيها الإخوة والأخوات الأعزاء العاملون في هذا المكان، ضعوا مثال يسوع نصب أعينكم وفي قلوبكم، يسوع الذي صار خادماً لنا وأحبنا “أقصى المحبة” (يو 13، 1)، وحتى الصلب. اشهدوا بفرح لمحبة الله اللامتناهية، وعلى مثال الشماس القديس لورانس، اعتبروا أحباءكم هؤلاء كنزاً أثمن من حياتكم.
تجري زيارتي خلال “السنة الأوروبية لمكافحة الفقر والتهميش الاجتماعي” التي أعلنها البرلمان الأوروبي واللجنة الأوروبية. بقدومي إلى هنا كأسقف روما، الكنيسة المتصدرة في المحبة منذ بدايات المسيحية (القديس إغناطيوس الأنطاكي، الرسالة إلى أهل روما، 1، 1)، أشجع الكاثوليك، لا بل أيضاً كل أصحاب النوايا الحسنة منهم بخاصة المسؤولين في الإدارات العامة ومختلف المؤسسات، على الالتزام ببناء مستقبل يليق بالإنسان، وإعادة اكتشاف القوة الدافعة في المحبة لتنمية حقيقية وبناء مجتمع أكثر عدلاً وأخوة (المحبة في الحقيقة، رقم 1). ففي الواقع أن المحبة “ليست فقط مبدأ العلاقات الصغيرة: علاقات الصداقة والعائلة والجماعات الصغيرة، وإنما أيضاً مبدأ العلاقات الكبيرة: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية” (المصدر عينه، رقم 2). في سبيل تعزيز تعايش سلمي يساعد البشر على إدراك حقيقة أنهم أفراد عائلة بشرية واحدة، من المهم أن تتم إعادة اكتشاف أبعاد الوهب والمجانية كعنصرين أساسيين في الحياة اليومية وفي العلاقات بين الأفراد. كل ذلك يضحي أكثر إلحاحية يوماً بعد يوم في عالم يسود فيه منطق الكسب والمصلحة الفردية.
تعتبر كنيسة روما أن مأوى كاريتاس يشكل فرصة ثمينة للتربية على القيم الإنجيلية. فإن تجربة التطوع التي يعيشها كثيرون هنا، تعتبر مدرسة حقيقية يتعلم فيه الجميع – والشباب بخاصة – أن يكونوا بناة حضارة المحبة القادرين
على قبول الآخر بتميزه واختلافه. هكذا يظهر المأوى أن الجماعة المسيحية تعمل من خلال منظماتها الخاصة ومن دون الانتقاص من الحقيقة التي تعلنها، على التعاون مع مؤسسات مدنية لتعزيز المصلحة العامة. أرجو أن يمتد التآزر المثمر المحقق هنا إلى أماكن أخرى في مدينتنا، وبخاصة إلى المناطق الأكثر تأثراً بتداعيات الأزمة الاقتصادية والأكثر تعرضاً لمخاطر التهميش الاجتماعي. وفي خدمتها للمتألمين، تندفع الكنيسة بفعل الرغبة في التعبير عن إيمانها بالله المدافع عن الفقراء، والمحب لكل إنسان على حقيقته بغض النظر عن ممتلكاته أو أعماله. وتعيش الكنيسة في التاريخ مدركة أن مخاوف البشر – بخاصة الفقراء والمتألمين – واحتياجاتهم تشمل أيضاً تلاميذ المسيح (المجمع الفاتيكاني الثاني، فرح ورجاء، رقم 1). لذا، تهتم بضمان حصول كل إنسان على حقوقه.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، يعتبر مأوى كاريتاس الأبرشية مكاناً لا تمثل فيه المحبة مجرد كلمة أو شعور، لا بل واقعاً ملموساً يسمح لنور الله أن يدخل إلى حياة البشر والأسرة المدنية جمعاء. هذا النور يساعدنا على التطلع إلى المستقبل برجاء، واثقين بأن مدينتنا ستبقى في المستقبل أمينة لقيمة الترحيب المتجذرة في التاريخ وفي قلوب سكانها. فلترافقكم دوماً مريم العذراء “خلاص الشعب الروماني” بشفاعتها الوالدية وتعينكم في جعل هذا المكان بيتاً تنمو فيه الفضائل التي نمت في بيت الناصرة المقدس. بهذه المشاعر، أمنحكم من كل قلبي البركة الرسولية التي أشمل بها أحباءكم وجميع المقيمين هنا الذين يبذلون التضحيات بسخاء.
نقلته إلى العربية غرة معيط (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2010