روما، 3 مايو 2007 (ZENIT.org) – ننشر في ما يلي النص الكامل لمداخلة المونسنيور فرانشيسكو فولو، المراقب الدائم للكرسي الرسولي لدى منظمة اليونسكو، في باريس، في 25 ابريل الماضي، خلال أعمال الدورة السادسة والسبعين بعد المئة للمجلس التنفيذي لليونسكو حول النقطة 19 بموضوع “مكان الواقع الديني ما بين الطوائف والأديان لتعزيز الإحترام والحوار بين الثقافات”.
السيد الرئيس،
في عالم معرّض لصراعات لا تنفك تهدد بتوليد أعمال العنف، إن التبادل الثقافي يقدم اليوم أكثر من أي وقت مضى فرصاً للتلاقي والحوار والسلام. وكما قال قداسة البابا بندكتس السادس عشر في كولونيا فإن “الحوار ما بين الثقافات والأديان هو ضرورة حيوية” (اللقاء مع ممثلين عن الطوائف المسلمة، 20 أغسطس 2005).
طبعاً، إن الثقافات مختلفة كل الإختلاف عن بعضها البعض. ومواطن الإختلاف لا تعزى إلى الإختلاف من حيث اللغات وأنماط الحياة فقط، بل أيضاً إلى كونها لا تنقل بالضرورة الصورة نفسها عن العالم والتاريخ والشخص البشري. غير أن عمليات التبادل بين الثقافات تحفز أقله التعارف والإحترام المتبادل. إلى ذلك، فالثقافات وإن كانت مطبوعة بتفاسير مختلفة للواقع، إلا أنها تتلاقى في العمق في خبرة الواقع الإنساني الأساسية، حيث إن الرجال والنساء من ثقافات مختلفة يواجهون المسائل ذاتها المتعلقة بالولادة والموت والعمل والمرض والظلم الإجتماعي والبيئة والمحافظة على أرضنا.
والتبادل الثقافي يعني أيضاً أخذ الأديان بحدّ ذاتها بالإعتبار. طبعاً، إن مسألة العلاقة بين الثقافات والأديان لاتُطرَح بالطريقة عينها في كل الأحوال: فالهندوسية هي أولاً ديانة الهند، والإسلام مرتبط في المقام الأول بالثقافة العربية (وإن كان منتشراًً على قارات مختلفة)، والبوذية التي تسربت إلى مجموعة واسعة من الثقافات الآسيوية تحاول أيضاً أن تتأقلم تدريجياً مع الدول الغربية؛ والمسيحية، من جهتها، لا تتماثل مع أي ثقافة خاصة (حتى وإن كانت تربطها بالغرب علاقات وثيقة خلال فترة طويلة من تاريخها). بمعنى آخر، إن فرادة المسيحية تأتي من كونها ديانة إله متجسد وأن المسيح الذي جاء إلى عالمنا هو إنسان كامل ونموذج لكل منا وهو مصدر الرجاء الحقيقي في الحاضر والمستقبل وبه يمكن أن يقتدي كل إنسان.
فباسم التنوع الذي ذكرناه سابقاً، لا يمكننا أن نتغاضى عن أخذ الأديان بعين الإعتبار في عمليات التبادل الثقافي، سيما وأن الخبرة الدينية غالباً ما تكون مطبوعة في صلب الثقافة (وهذا ما يلاحظ بشكل خاص في القارة الآسيوية).
علينا أن نعترف كذلك بأن الأديان كانت لسوء الحظ في العديد من الحالات عوامل عنف في تاريخ البشرية وأن هذا الوضع قد يتكرر بأشكال مختلفة. ولكن لا بد أيضاً من أن نشير إلى مدى إسهام الأديان في الماضي وقدرتها على المساهمة في المستقبل في التماسك الإجتماعي والمصالحة والسلام. ففي القرن الثالث قبل الميلاد، ناشد الأمبراطور البوذي “أسوكا” بمثال للتسامح ديني. وفي القرن السادس عشر، بنى الأمير المسلم “أكبر” بيتاً ليلتقي فيه مؤمنون من أديان مختلفة ويطّلعوا على إنجازات أديانهم المختلفة. وكلكم تدركون كم أن المسيحية قد شددت في المجمع الفاتيكاني الثاني وفي العقود التي تلته على ضرورة التحاور مع مختلف الديانات.
وذلك لا يعني أنه يتم الإستهانة بنقاط الإختلاف الأساسية بين الأديان في العالم. ولكن هذه الإختلافات قادرة على أن تأتي بإسهام أكبر من خلال الحض على التبادل الثقافي الذي يخدم العدالة والسلام من دون أن يطمس الإختلاف.
إن إلقاء نظرة على التاريخ يبين، على كل الأحوال، كم أننا مدينون لأشخاص ساهموا، على طريقتهم، في تشجيع التواصل بين عوالم مختلفة تماماً. فقد يجوز اعتبارالقديس أغسطينوس بحق، وبعد مرور خمسة عشر قرناً، “همزة وصل” بين الثقافات، أي بين إفريقيا القديمة وروما، بين الشرق الإغريقي واللاتينية، بين العالم القديم والعصور الوسطى، لا بل أيضاً بين العالم القديم والعالم المعاصر.
وشخصيات كهذه لا بد من أن تحفزنا اليوم على البحث عن سبل التبادل بين الثقافات. فالتمازج السكاني ينمي الثقافات أكثر من أي وقت مضى في زمن العولمة هذا. ومصير الإنسانية هو أكثر ما يتأثر جراء ذلك: فكل البشر يشكلون عائلة واحدة بغض النظر عن اختلافهم، وهذه العائلة مدعوّة إلى العيش في وحدة وسلام. فكما ذكّر قداسة البابا بندكتس السادس عشر: “من الضروري أن يعي عالمنا أكثر فأكثر أن جميع الناس متحدون بعمق وأن يدعوهم إلى اكتشاف اختلافهم التاريخي والثقافي لا للتصادم بل للإحترام المتبادل”(خطاب قداسة البابا لأعضاء السلك الدبلوماسي في السفارة البابوية في أنقرا في 28 نوفمبر 2006).
أشكركم على حسن إصغائكم.