روما، الخميس 7 يونيو 2012 (ZENIT.org) – ننشر في ما يلي المقابلة العامة لقداسة البابا بندكتس السادس عشر مع المؤمنين في ساحة القديس بطرس نهار الأربعاء 6 يونيو 2012، والتي تكلم خلالها عن مشاركته في اللقاء العالمي السابع للعائلات في ميلانو الأسبوع الماضي.
***
إخوتي وأخواتي الأعزاء،
إن شعار اللقاء العالمي السابع للعائلات الذي عقد في الأيام الأخيرة في ميلانو كان “العائلة: العمل والعيد”. لا أزال أحمل في قلبي وعقلي الصور والمشاعر لهذا الحدث الرائع الذي لا يُنسى، وقد حول ميلانو الى مدينة عائلات: عائلات قدمت من حول العالم، متحدة بفرح الإيمان بالمسيح. أعرب عن امتناني الكبير للرب لأنه منحني تجربة هذا اللقاء “مع” العائلات، و”من أجلها”. وجدت بين كل أولئك الذين أصغوا إلي خلال تلك الأيام استعدادا صادقًا لتلقي “إنجيل العائلة” والشهادة له. نعم، لا مستقبل للإنسانية من دون العائلة، فبهدف تعلم القيم التي تعطي معنى للحياة، يجب على الشباب بشكل خاص أن يولدوا، وينموا في جماعة الحياة والحب التي شاءها الله بنفسه للرجل والمرأة.
منحني هذا اللقاء مع العائلات العديدة من مختلف القارات فرصة سعيدة لأزور أبرشية ميلانو للمرة الأولى كخليفة بطرس. أنا ممتن بشكل كبير للترحيب الحار الذي استقبلني به الكاردينال أنجيلو سكولا، والكهنة والمؤمنون على حد سواء، فضلًا عن رئيس البلدية والسلطات المدنية الأخرى. تمكنت هكذا من اختبار إيمان الشعب الأمبروزي عن قرب، مع ثروة تاريخه، وثقافته، وأعماله الخيرية الناشطة. تم اللقاء الأول لهذه الزيارة الرعوية التي امتدت طوال ثلاثة أيام، في بيازا ديل دومو، رمز المدينة وقلبها. لا استطيع أن أنسى الترحيب الحار الذي رافقني خلال زيارتي بأكملها، من قبل سكان ميلانو والمشاركين في هذا اللقاء العالمي السابع للعائلات، الذين اكتظت بهم الشوارع.
حشود من العائلات التي تقضي العطلة، والتي بمشاعر المشاركة العميقة التي تحملها، تتحد بشكل خاص بتحياتي الحارة والداعمة التي أردت توجيهها الى كل الذين هم بحاجة للمساعدة والتعزية، والذين تهيمن عليهم مخاوف مختلفة، بخاصة العائلات التي تضررت إثر الأزمة الإقتصادية، والسكان المنكوبين بسبب الهزات الأرضية الأخيرة. أردت في هذا اللقاء الأول مع المدينة أن أتحدث الى قلوب المؤمنين الأمبروزيين، لأحثهم على عيش الإيمان في حياتهم الشخصية والجماعية، في حياتهم الخاصة والعامة لتوفير “رفاهية حقة” تبدأ بالعائلة التي لا بد من إعادة اكتشافها كتراث أساسي للبشرية. إن التمثال الذي يرتفع فوق الكاتدرائية يجسد العذراء وهي باسطة يديها وكأنها تستقبل بحنان الأم جميع عائلات ميلانو والعالم.
خصتني مدينة ميلانو بتحية فريدة من نوعها ونبيلة في آن معًا، في واحد من أكثر المواقع أهمية في المدينة، وهو مسرح لاسكالا، حيث كُتبت صفحات مهمة من تاريخ البلاد في ظل إندفاع كبير من القيم الروحية والمثل العليا. في معبد الموسيقى هذا، أعطت نغمات السمفونية التاسعة للودفيغ فان بيتهوفين صوتًا للحظة العالمية والأخوة هذه، التي تدعو اليها الكنيسة بلا كلل في إعلانها للإنجيل. في ختام الحفلة الموسيقية، التي أهديتها الى الكثير من الإخوة والأخوات الذين أنكبتهم الهزات الأرضية، أشرت الى هذا التناقض بين مثل التاريخ العليا ودراميته، والى وجود إله قريب يشاركنا في معاناتنا. شددت على أنه – من خلال يسوع الناصري- يقترب الله منا ويحمل معاناتنا معنا. في ختام هذه اللحظة الغنية روحيًّا وفنيًّا، وددت أن أشير الى عائلة الألفية الثالثة، من خلال التذكير بأنه في كنف العائلة يختبر الإنسان للمرة الأولى بأن الكائن البشري لم يخلق ليعيش منغلقًا على نفسه، بل ليبني علاقات مع الآخرين، وفي كنف العائلة أيضًا، تضاء شعلة السلام في قلوبنا لكيما تستطيع أن تنير عالمنا بأكمله.
احتفلت في اليوم التالي بصلاة الساعة التاسعة صباحًا بحسب الطقس الليتورجي الأمبروزي، في الكاتدرائية التي غصت بالكهنة، والرهبان، والإكليريكيين، وبحضور لفيف من الكرادلة والمطارنة الذين أتوا الى ميلانو من مختلف دول العالم. في هذا الإطار أردت أن أشدد على أهمية البتولية والعفة اللتين كانتا عزيزتين على قلب القديس أمبروسيوز الكبير. فالبتولية والعفة في قلب الكنيسة هما علامتان مضيئتان لحب الله وحب الأخوة والأخوات، وهما تنبثقان من علاقة حميمة مع المسيح في الصلاة ويتم التعبير عنهما في وهب الذات بالكامل.
كان اللقاء في إستاد مياتسا مليئًا بالحماس، حيث اختبرت ترحيب عدد وافر من الشباب الفرحين الذين نالوا سر التثبيت هذا العام. إن ما أضفى على هذا اللقاء إثارة كبيرة كان التحضير المتأني له، مع نصوص تحمل معنى كبيرًا، بالإضافة الى صلوات وكوريغرافيا. وجهت نداء الى الشباب الأمبروزيين لقول “نعم” حرة وواعية لإنجيل يسوع، متلقين مواهب الروح القدس التي تساهم بأن ينشأوا كمسيحيين، ويعيشوا الإنجيل ويكونوا أعضاء ناشطين في الجماعة. لقد شجعتهم على أن يلتزموا بخاصة بدراستهم و بالخدمة السخية تجاه من حولهم.
سمح لي اللقاء مع ممثلي السلطات المدنية، وأرباب العمل، والعمال، ومع عالم التعليم والثقافة في ميلانو، والمجتمع اللومباردي بأن أسلط الضوء على أهمية أن تكون التشريعات وأعمال السلطة المدنية بأنواعها كافة، في خدمة الشخص ولحمايته، بدءًا من الحق بالحياة الذي لا يمكن قمعه، والإقرار بالهوية الخاصة للعائلة القائمة على الزواج
بين رجل وامرأة.
بعد هذا اللقاء الأخير الذي كان مخصصًا للأبرشية والمدينة، توجهت الى الحديقة الشمالية الكبيرة في مدينة بريسو، حيث شاركت في “احتفال الشهادات” بعنوان “عالم واحد، عائلة، حب”. شعرت هناك بالفرح في لقاء الآلاف من الناس، وعدة عائلات من إيطاليا والعالم أجمع التي كانت قد اجتمعت في فترة ما بعد الظهر في جو من الإحتفالات والدفء العائلي الحقيقي. في خضم الإجابة عن أسئلة ناشئة من حياة وتجربة عدة عائلات، وددت أن أعطي علامة للحوار المفتوح الذي يكمن بين العائلات والكنيسة، وبين العالم والكنيسة. تأثرت بشهادات الأزواج والأولاد من مختلف القارات، حول قضايا مهمة في عصرنا هذا: كالأزمة الإقتصادية، والتحدي المتمثل في التوفيق بين وقت العمل ووقت العائلة، وانتشار الإنفصال والطلاق، وكذلك الأسئلة التي تؤئر على البالغين، والشباب، والأطفال. هنا أود أن أستعرض مرة أخرى ما ذكرته في دفاعي عن وقت العائلة المهدد بنوع من “كثرة” التزامات العمل: يوم الأحد هو يوم الرب ويوم الإنسان، هو اليوم الذي فيه يتوجب على كل شخص أن يكون متفرّغًا، متفرّغًا للعائلة ولله. فبدفاعنا عن يوم الأحد، ندافع عن حرية الإنسان!
شهد القداس الختامي للّقاء العالمي السابع للعائلات، يوم الأحد 3 يونيو، مشاركة عدد كبير من المصلين الذين احتشدوا في مطار بريسو، الذي تحول الى كاتدرائية في الهواء الطلق بفضل الزجاج الملون الكبير لكاتدرائية ميلانو. أمام عدد لا يحصى من المؤمنين من مختلف الدول الذين شاركوا بعمق في القداس الذي تم التنسيق له بشكل جيد، وجهت نداء لبناء جماعات كنسية على مثال العائلة قادرة على أن تعكس جمال الثالوث الأقدس وتبشّر ليس بالكلمات فحسب بل بإشعاع قوة المحبة، لأن المحبة هي القوة الوحيدة التي بإمكانها تغيير العالم. كما شددت على أهمية “ثلاثية” العائلة، العمل والعيد. ثلاث عطايا من الله، وثلاثة أبعاد لحياتنا عليها أن تجد توازنًا متناغمًا بهدف بناء مجتمع ذي وجه إنساني.
أنا ممتن حقًّا لهذه الأيام الرائعة في ميلانو. أتوجه بالشكر للكاردينال إنيو أنتونيلي والمجلس الحبري للعائلات، وكل السلطات المدنية لحضورها ومشاركتها في اللقاء. كما أشكر أيضًا رئيس مجلس الوزراء جمهورية إيطاليا لمشاركته في الذبيحة الإلهية يوم الأحد. أجدد أيضًا أخلص الشكر لمختلف المؤسسات التي تعاونت بسخاء مع الكرسي الرسولي، ومع أبرشية ميلانو لتنظيم اللقاء الذي لقي نجاحًا كبيرًا على الصعيدين الرعوي والكنسي وتردد صداه في أنحاء العالم كله. في الواقع، لقد استقطب هذا الحدث أكثر من مليون شخص الى ميلانو، احتلوا الشوارع سلميًّا لعدة أيام وشهدوا لجمال العائلة، أمل الإنسانية.
إن اللقاء العالمي السابع للعائلات في ميلانو، كان بمثابة “دنح” للعائلة، تجلى في تنوع التعابير ولكن أيضًا في تفرده بهويته الأساسية: شركة حب قائمة على الزواج ومدعوة لتكون معبدًا للحياة، كنيسة صغيرة، خلية للمجتمع. من ميلانو، أُرسلت الى العالم أجمع رسالة رجاء تغذيها تجارب معاشة: من الممكن والمفرح عيش الحب المنفتح على الحياة، “للأبد”. من الممكن المشاركة كعائلة في رسالة الكنيسة وبناء المجتمع. فبمعونة الله، والحماية الخاصة من العذراء مريم الكلية القداسة، ملكة العائلات، تعود تجربة ميلانو على رحلة الكنيسة بثمار وفيرة وتكون علامة على الإهتمام المتزايد لقضية العائلة، التي هي قضية كل رجل وحضارة. شكرًا.
***
نقلته من الإنجليزية الى العربية نانسي لحود – وكالة زينيت العالمية
جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية