قبل البدء بالحديث عن المواضيع المتعلقة بالعمل التبشيري، يتوقف البابا فرنسيس في الفصل الثاني من الإرشاد الرسولي "فرح الإنجيل" لإلقاء نظرة سريعة على الوقع والإطار الذي يجب العيش والعمل فيه. ويشرح البابا في مطلع الفصل أن هدفه ليس تقديم تحليل اجتماعي، ولا أن يقع في الخطأ الشائع المعروف حاليًا باسم "الافراط في التشخيص"، بل يود بالحري أن يقدم "تمييزًا إنجيليًا" (discernimento evangelico). الهدف من تحليل البابا هو تشخصي العوامل التي تعيق وتلك التي تساعد العمل التبشيري. ودعا في هذا الإطار الجماعات لكي تكون نبيهة وتميّز علامات الأزمنة.
بالرغم من التقدم الكبير الذي عاشته البشرية على أصعدة مختلفة، لا يمكننا ألا نلاحظ أن الكثير من معاصرينا يعيشون في أوضاع غير ثابتة. ولا يمكننا ألا نلاحظ تزايد الأمراض، انطفاء فرح العيش لدى الكثيرين.
في هذا الإطار يدعو البابا إلى رفض ما أسماه "اقتصاد الاستثناء والجور" لأنه "اقتصاد يقتل". وتأسف أن موت عجوز فقير على جانب الطريق لا يولد خبرًا إعلاميًا، أما نزول أسعار البورصة بنقطتين فيضحي خبرًا عالميًا. وتأسف الأب الاقدس لتحول الإنسان إلى "سلعة استهلاكية" ولأكل القوي للضعيف.
ويتحدث البابا فرنسيس عن نظرية "الوقع الإيجابي" الاقتصادية والقائلة بأن كل نمو في السوق الاقتصادي يحمل معه مساواة أكبر ويعلق على هذه النظرية قائلاً: "هذا الرأي لم يتم أبدًا التحقق منه من خلال الوقائع، وهو يعبّر عن ثقة ساذجة ورخيصة في صلاح من يسيطر على السلطان الاقتصادي". بالواقع ما يجري الآن هو "عولمة اللامبالاة". وقد أضحينا ضحايا السوق وهذه اللامبالاة، لأننا "نخسر هدوءنا إذا قدم السوق شيئًا لم نشتره بعد، بينما كل الحيوات التي تتحطم بسبب نقص الإمكانيات تبدو لنا وكأنها مشهد مجرد لا يؤثر فينا بأي شكل".
ولذا يدعو الأب الأقدس إلى عدم الوقوع في أشراك عبودية وتأليه المال. فـ "الأزمة الاقتصادية التي نمر بها تجعلنا ننسى أن في أصلها أزمةٌ أنتروبولوجية عميقة: وهي إنكار أولية الكائن البشري! لقد خلقنا أوثانًا جديدة". هذا التعبد للمال هو وجه جديد ومعاصر للسجود للعجل الذهبي (راجع خر 32، 1 – 35).
مالٌ يحكم أم مال يخدم؟
ولذا يعبّر البابا عن رفضه لـ "مال يحكم بدل أن يخدم". فوراء موقف التعبد للمال هناك رفض للأخلاق ولله. من يعيش بهذا الشكل ينظر إلى الأخلاق بسخرية وحذر معتبرًا أنها خطر وتهديد. العالم بحاجة لإصلاح اقتصادي ينبع من تغيير مواقف المسؤولين السياسيين. ويذكر في هذا الإطار أن "البابا يحب الجميع، أغنياء وفقراء، ولكن على عاتقه، باسم المسيح، مسؤولية أن يذكّر الأغنياء بأن يساعدوا الفقراء، أن يحترموهم وأن يشجعوهم".
هذا ويدعو الأب الأقدس إلى رفض عدم الإنصاف الذي يولد العنف. فالخبرة تعلمنا أن الاستهلاك المتطرف إلى جانب عدم الإنصاف يولدان العنف في المجتمع. وهذا العنف لا يحله التسارع إلى التسلح، بل على العكس، يساهم في تعقيده أكثر.
درويش يرعى “مقهى الحوار الفلسفي” لطالبات ثانوية زحلة الرسمية للبنات
وزير الصحة دشن الطابق الثاني في مستشفى تلشيحا
مواقف كثيرة ترافق الخطوات والمسير، هي دروب تسلك فيها وصولاً إلى ما يريد كل واحدًا بلوغهِ، هي رغبات وربما أمنيات يُريد لها أن تكون على أرض الواقع ماثلة وثابتة وراسخة وتُعاش. لكن الكثير والكثير منها مما يأتي بعد حين وبعد طول انتظار يتعارض مع ما يكون ساعتها ومع الحاضر في زمان قد اكتملت دورتهِ عند باب تلك الحياة ليكون ويصبح ما سيكون عليه مُستقبلاً. وهنا تبدأ العيون بالإبصار على ما آلت عليه الأمور وحينها كذلك يبدأ المعني بها تقبلهِ لها بنسبةٍ أو التصادم معها. ما نعلمهُ جميعًا هو أن أي شيءٍ في الحياة يكون بحاجة إلى تفكير وأرضية صلبة يُقام عليها، أرضية بحيث عندما تكون قد تعبت فيها وبذلت جهد وتابعت يكون لك فيها خيرًا حتى وإن كان قليلا، المهم أن تكون قد عرفت، أين ومتى وكيف كان كل هذا؟! أليس كذلك؟ سنعطي فكرة مُبسطة عن فكرة موضوعنا والذي واقعنا يحمل ثمارهُ، مثلهُ مثل الكثير من الأشجار التي شمخت في سماء الحياة وكانت ثمارها لا تنفع أو ربما لم تحمل أغصانها الثمار. تصادم الأفكار: كثيرة هي مناهج الحياة والأكثر هي طرق التعامل معها، لكن المهم فيها هو كيفية تقابل الأفكار فيها وعدم تعارضها بهدف الوصول إلى نتائج أو أعادة ترميم ما يستحق البناء، بالتأكيد مع سلوك مسالك مُنتظمة ومضبوطة تحمل كل الموضوعية في أغناء سيرورة الحياة والتقدم بعيدًا عن التقسيمات والشروخات التي تقطع أوصال الكثير من العلاقات والكلام الواجب أن يكون ماثل في واقعهِ. جدالات كثيرة تحدث في مُجتمعنا تخلق نوع من التباعد والتصادم وجدار عالي يصعب عبوره أو لمح حتى ثقب صغير فيهِ لمرور النور خلالهِ، بسبب الانفرادية وتحيز طرف لآخر وتضارب الآراء والأفكار وعدم تقابلها، هي تكون مُتنافرة ومُتباعدة أكثر من أن تتقارب ولو لوهلةٍ صغيرة! بسبب أن كل صاحب فكرة أو فكر أو رأي في أية قضية كانت أما تخصهُ أو تخص مُجتمع أو بلد، يحاول فيها جاهدًا أن يبين أنهُ على صواب حتى مع علمهِ ويقينهِ برأي الآخر وتطلعاتهِ ومدى مصداقيتها وفعاليتها! وهذا شيءٍ جيد أن تكون واثق الخطوة ومُتطلع ولديك تصميم وثبات ولكن لا ضيرّ من انفتاح الفكر وتقبل الأفكار واختلاطها وامتزاجها بحيث يُعطيك الفرصة في تولد أفكار أخرى تكون مرجع للأولى ويُستند عليها. هي وسيلة لتطوير الأفكار نحو الأفضل ونحو فرص أوسع، أعمّ وأشملّ، كونك تطلق العنان لآرائك وأفكارك في أن تكتمل وتصبح أكثر شمولية واحتواء، حتى حينما تتقابل مع فكر الآخرين تلمّ شتات ما هو مُتفرق ومُتشابك ومُتبعثر ومُتبدد في قوالب مُتماثلة تساعد بعد حين في إيجاد وسائل وسبل تحقيق نقلات حضارية في الواقع الإنساني. كل إنسان وجد نفسهُ ضمن إطار مُختلف عن الآخر ولكن مُشابه في التركيبة، والاختلاف لا يفسد للودّ قضية، فإن اختلف اثنان في رؤى أو حقيقة ما فيجدر بكل واحدٍ أن يتقبل وجهة النظر والإطار الفكري ضمن زاوية تختلف عن زاوية الآخر، لكي تحضى بالقبول وبتوسع أكبر من أجل غدٍ مُشرق يشرق على العقول وينير الأفكار.فالحياة مهما عشتها فأنها تبقى لم ولن تكتمل ما لم تتقبل الآخر ووجهة نظره، بعيدًا عن حدود تحاول أنتَ أن ترسمها عندما تكون مُتزمتًا ومُصرًا على فكرة بناء على اقتناع شخصي مُنفرد من قبلك. دعّ الطريق مفتوح للأفكار من المرور وللكلمات من أن تتحدّ وتمارس دورها وفعاليتها في ترميم العقول وثم الحياة، لتخلق فيما بعد لغة جميلة، مُتناسقة، مُتناغمة، مُنسجمة في أفواه الأجيال المستقبلية وفي كينونة الموجودات وأرضها، بمعنى الخروج عن الدائرة المألوفة إلى أفق أبعد وأوسع وأشمل، وغير ذلك فإنك ستفاجأ بتصادم لاحق يجعل ما تحت قدميك يهتزّ لينقلك إلى أرضية أخرى أنتَ لم تتأقلم عليها ولم تأتي منها.