إلى أخوتنا المطارنة والأساقفة ، وإلى ألأبناء الأعزاء القمامصة والقسوس ، الرهبان والراهبات والشمامسة،

وإلى جميع أبناء الكنيسة القبطية الكاثوليكية في بلاد المهجر ..

البركة الرسولية والسلام بالمسيح المولود في بيت لحم

ميلاد المسيح ميلاد العائلة المقدسة

         مقدمة

​            تحتفل شعوب عديدة هذا المساء بليلة عيد ميلاد السيد المسيح ، لقد مضى عشرون قرناً من الزمن على هذا الحدث الإلهي العجيب الذي غير حياة الملايين من البشر ولازال طفل بيت لحم ، كلمة الله الذاتية الناطقة التي اتخذت الطبيعة البشرية يجذب ملايين النفوس إليه. آتي المسيح ليقيم جسراً بين السماء والأرض ، جمع في ذاته الأبدي والزمني، المطلق والمحدود ، "أخلى ذاته آخذاً صورة إنسان ، أشبهنا في كل شيء ما خلا الخطيئة" (عبرانيين 4 : 15) إنه إنسان سوي كامل الإنسانية ، ونور إلهي منبثق من الذات الإلهي ويقول لنا "أنا والآب واحد" (يوحنا 17 : 11 ) وأكد أن تجسده لا يجرح وحدانية الله، فلا تعدد في الذات الإلهي ، فنحن نؤمن بإله واحد ولا شرك بالقدوس الأبدي، هذا السر الإلهي العظيم أكد لنا محبة الله للإنسان خليقته، ليعيده إلى حال النعمة والبرارة ليتحد معه في ملكوته وهذه رسالة الحياة التي يحملها كل إنسان أن يحيا في الإيمان والرجاء والمحبة لتكون الحياة أفضل .

        دعت الكنيسة الكاثوليكية الى سينودس العائلة أو إلى مجمع خاص لدراسة كل ما يمس شؤونها آمالها وآلامها ، ذلك خلال شهر أكتوبر 2014 وقد اشتركت ممثلاً للكنيسة الكاثوليكية المصرية مع سائر الآباء بطاركة الشرق الكاثوليك ونوقش خلال المؤتمر أهمية إعداد وتربية الأجيال لإقامة زواج راسخ الأركان ، قائم على الحب والاستقرار وعلى الإيمان والرجاء والمحبة ، وما يقدمه الزواج من نتائج بناءة للمجتمع وأن المستقبل الباهر يرتكز على الأسرة الآمنة المستقرة،  كما أشار المجمع الى الأخطار التي تحيط بالعائلة مثل الهجرة الإجبارية فيتفرق شملها والفقر والبطالة ، الإجهاض ، الطلاق ، وانتشار الزواج المثلي ، والعقبات التي تعطل الارتباط بالزواج سواء اقتصادية أو اجتماعية ، وأعلن المجمع أن المسيح قدم للبشرية في الإنجيل تعاليمه السامية التي تقدم الرجاء الحقيقي لقيام أسرة مؤمنة ، وأوصى المجمع بان تتصل وتتوسع مراكز إعداد الشباب للزواج وبناء أسرة وكشف عن روعة الزواج المسيحي في ثباته وديمومته لصالح البشرية وذلك بنعمة وتحت أنوار الروح القدس .

أتأمل معكم في نقاط ثلاث :

        اولا : عائلة بيت لحم التي يوحِّدها الطفل الإلهي

        استطاع الكاتب الملهم في سفر التكوين أن يقدّم لنا- بإلهام من الروح القدس- نموذج العائلة التي تعيش في حضرة الله الخالق. فنموذج عائلة آدم وحواء- كرمز لكل عائلات البشر- يبرز لنا بوضوح خطة الله وهدفه وقت الخلق. فالله كان يريد أن يظل حاضرًا وسط العائلة البشرية، لكنها رفضت بخطيئتها هذا الحضور، ولم تعد تسمع "صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة عند نسيم النهار"، وتفكّكت العائلة، وقتل الأخ أخاه، وتسلّط الموت على كل شيء. لكن الله بتدبيره الخلاصي ومحبته لخليقته، يلهم بروحه القدوس- مرة أخرى- كُتّاب الأناجيل حتى يبرزوا لنا، من جديد، نموذج عائلة بيت لحم المجتمعة حول الله المتجسّد، حول الطفل الإلهي الذي أخلى ذاته آخذًا طبيعتنا ليعيد وحدة العائلة من جديد، حتى تسمع مرة أخرى صوت الرب الإله ماشيًا وحاضرًا في بيتها وعالمها. فحضور الله في عائلات البشر هو الضامن الوحيد لوحدة واستقرار كل عائلة. فكاتب الإنجيل يدعو كل عائلة أن يكون لها وقت يومي تجتمع فيه حول الطفل الإلهي، فيه تصغي بهدوء إلى "صوت الرب الإله الماشي في الجنة" والذي يجعل من بيوتنا الفردوس الحقيقي الذي يملأه سلام الله الخالق. لا بل يخلق من جديد الحياة من وسط الموت الذي تسلّط على كل العالم ويقوده للتفكّك والتحلّل والانقسام والخراب. إن صوت الكُتّاب الملهمين لا ينفك صارخًا يدعو الكنيسة بكل مؤمنيها أن تصغي من جديد لصوت الله وحضوره فيها حتى تستطيع أن تبرز أيضًا نموذج عائلة بيت لحم الذي يوحّدها الطفل الإلهي.

        ثانيا: عائلة بيت لحم التي هي في العالم وليست من العالم

        تبدو عائلة بيت لحم أنها منبوذة وعلى أطراف العالم أو على هامش العالم، فكما يقول الكتاب "لم يكن لهما موضع في المنزل" (لو 2 : 7). هي في العالم لكنها ليست من العالم. فلها رسالة مختلفة عمّا يطلبه العالم ورئيس هذا العالم. فهي عائلة يحكمها روح التخلّي الكامل، روح التضحية من أجل ما يملأ قلبها من حب. فيوسف النجار تخلّى عن حقه في شريعة موسى بتطليق امرأته التي وجدت حُبلى قبل أن يجتمعا معًا. والعذراء مريم قبلت رسالة لا تطيق حملها صبية مثلها. والطفل الإلهي ذاته لم يُعد مساواته لله غنيمة بل أخلى ذاته وأطاع حتى الموت. إنها عائلة قانونها الحب، وليس الكرامة فقط، قانونها التضحية وليس المطالبة بالحقوق دائمًا. كم من عائلات، وحتى جماعات كنسية انقسمت على ذاتها حين أصبحت لغتها هي لغة المطالبة بالحقوق فقط، وكأن روح التضحية والتخلّي من أجل ما في قلوبنا من حب لم يعد له مكان في حياتنا. فقيم العالم اليوم تعلّي فقط نبرة الحقوق والكرامة الشخصية على الحب والتضحية، لذا أصبحت عائلة بيت لحم ليست من العالم مع أنها تعيش فيه.

        إن قيم العائلة المسيحية تواجه في عصرنا تحديات خطيرة تحاول أن تخترق السر الأعظم في المجتمع ، سر الزواج المقدس ، والارتباط بين الرجل والمرأة لصالح الأبناء والأجيال وخير الأمم والشعوب ، تشعر الكنيسة بخطر تيارات لا تقيم وزناً للشريعة العظمى ، شريعة الزواج وأنتشر في مناطق عديدة ما يسمى بالزواج الحر دون التزام ديني، ونسينا أن مؤسس الأسرة البشرية هو الخالق القدوس.  نشأ عبث الفوضى الأخلاقية وأضحى الانفصال والطلاق تياراً يتسع يوماً فيوماً وكانت وستظل دوما الضحية هم الأطفال والأجيال التي تنشأ بعيداً عن حضن الأسرة ودفء حب الأب والأم وحدث ما نراه ونلمسه من انهيار كثير من القيم السامية التي قامت عليها أسس الحضارات والتقدم وأهمها قيمة "العائلة" .

        ثالثا: عائلة بيت لحم التي تحفظ كل الأمور في قلبها وتتأمل بها

        يخبرنا الوحي الإلهي على لسان كاتب الإنجيل أن العذراء كانت تحفظ كل الأمور العجيبة، صعبة الفهم التي مرّت بالعائلة، في قلبها وتتأمل بها. فعائلة بيت لحم استطاعت أن تصغي وتسمع وتحفظ وتتأمّل. فمن ناحية استطاعت أن تحفظ أعمال الله العجيبة وتدخّلاته القوية المخلّصة في حياتها وفي ظروفها وأوقات آلامها. واستطاعت أن تجعل من كل هذا مادة للتأمّل والتفكّر حتى تتحصل على قوة مواصلة الحياة.

        ومن ناحية أخرى استطاعت أن تحفظ وصايا الله وتحفظ أمانة العهد وتؤدي الواجب ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، لم يُضعف إيمانَها فقرٌ ، ولا فرقت بين أعضائها صعاب ولم تكن تسعى إلى ثروة أو منصب أو تنافس على ربح، فسماتها :طاعة لوصايا الله، أمانة للواجب، محبة متبادلة غامرة.

​        ​وما أحوج الأسرة في عالم اليوم إلى التأمل في حياة أسرة بيت لحم ، سعادتها لم تأت لها من مال أو نسب أو سلطة بل من إيمان عميق ، وتواضع صادق ، وتقوى متوهجة . إن العالم اليوم مكدس بالثروات ، مزدحم بألوان الرفاهية والترف فخور بتقدم العلوم واكتشاف أسرارها ، وبرغم ذلك فالعالم أيضاً مزدحم بالبؤس والشقاء ، يئن فيه الجائعون ، ويتشرد فيه الأطفال ، وتداس فيه كرامة المرأة وحقوقها. العالم في حاجة إلى حب حقيقي ، وحنان غامر ، وتضامن إنساني ورحمة بالإنسانية وبالمستقبل .

​        ​إن عيد ميلاد المسيح هو عيد لكل أسرة مؤمنة ، وعيد لكل طفل يعيش في كنف والديه ، وعيد يذكرنا بمن ليس لهم عائلات ولا يشعرون بالحنان ، لذا نصلي أمام مذود بيت لحم ملتمسين من طفل السماء ، أبن البشر ، المخلص الفادي ، أن يسكب على عالمنا محبته وحنانه .

        خاتمة

​        أننا نصلي هذا المساء ، متحدين مع قداسة البابا فرنسيس رئيس كنيستنا الكاثوليكية ومع البطاركة والأساقفة والكهنة والشعوب ، نصلي من أجل عالم آمن يرتكز على عائلة مستقرة مطمئنة ، ومن أجل أسرتنا الكبيرة مصر الغالية ليحفظها الله من كل شر ، ونصلي من أجل رئيس الجمهورية ليُعضده الرب لكي نثبت للعالم كله أن مصر دولة حرة حضارية تبني المستقبل لتظل منارة للشعوب ، ونصلي ان يتقبل الرب شهدائنا في موكب المجد وان ينعم بالحكمة على كل من يحمل المسؤولية .

        يا طفل بيت لحم يا سر الله ، يا حبه للبشر باركنا جميعاً وبارك عائلاتنا

         كوبري القبة – 25 ديسمبر  2014

+ الأنبا إبراهيم اسحق

بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك

عطية السلام

وعد الرب شعبه بوعد الخلاص والسير في طريق السلام، أرسل أنبيائه من أجل قطيعه التائه، ولكن لم يتبّ ولم يعرف طريق الصواب ألا بالحمل المذبوح على الصليب. بالطفل يسوع المولود في مغارة صغيرة في أحد أيام الشتاء القارص. طفلٌ ولدّ ليتعلم ويعلم ويكبر على كيفية مواجه تحديات البشر وكيف يكون النصر على إرادات لم تتعلم كيف تخضع للأمور الروحية.أساس حياة البشر وثباتها وسعادتها واستمرارها هو الإيمان بأن لا حياة صالحة وثابتة بدون الرب الذي هو أساس بناء هيكل الإنسان السليم. لكن غالبًا البشر لا يستوعبوا ويفهموا ذلك، القلة القليلة من تدرك، كيف أن الاعتماد على الرب ووعده والرجوع إليه بقلب مفعم بالإيمان والمحبة، هو من يجعل الحياة مكافأة ثمينة لا تعوض ولا تقدر. بينما من لا يستوعب ذلك يجعل من الحياة ميدان صراع لا ينتهي، يصارع نفسه والآخرين وفي النهاية يذوق الفشل الذي يلهث خلفه! هو لم يكن أعمى البصيرة ولكن داخله ما كان مغلف بالسواد وجعل الحياة بالنسبة له مجرد تطلع عقيم لا يتعدى المسافة المحصورة بين خطوات قدميه! مما جعل نفسه تبقى في قوقعة الضياع بينما الحياة تسافر به وتأخذه معها.يسوع المسيح بولادته، أراد أن يعلم البشر أن مواجهة الحياة وعيشها كما هي بطبيعتها، لا تكون ألا حينما تكون بدرجة نقاء الطفل وصفاء نفسه ونيته وتقبل كل شيء بابتهاج وبساطة قلبًا، والبدء ببدايات جديدة فيها من الشكر الكثير للواهب الذي أراد لنا حياة مزدحمة بالأمل والعطية والعمل الصالح الباقي للنمو الروحي. يسوع المسيح أراد أن نذوق الحياة معه ونجرب الجديد الباقي للحياة الأبدية، وهي دعوة من قبله للظهور في حياته دائما وأبدًا. هي دعوة تجديد لكل ما في الحياة من روحانيات سامية .. يسوع المسيح بولادته لمع نجمه في السماء وأضاء الكون، فكان النور الذي أنعكس على البصر وفتح البصيرة على الخير وأضاق الحدود على الشر. هو حارب من أجلنا وربح لحسابنا، كان ولا يزال من أجلنا ولابد أن نكون له. حبهُ كبيرًا فيه غاية واهتمام وعبور، وعليه يجب الارتكاز.  أننا بحاجة إلى الإتحاد بالربِّ وبه نتحد مع ذواتنا ونعيش كإنسان فعلا خلق من أجل الإنسانية. مثلما الآب والابن واحد، كذلك نحن معه نكون واحدًا. أننا لا نحتاج لأكثر من هذا، وبالإتحاد تأتي باقي الأشياء تباعًا وتصنع أخرى جديدة.  الطفل يتقبل عطايا الوالدين بفرحة غامرة ويتقبل كلامهم بمحبة، هكذا كان يسوع المسيح للآب السماوي، تقبل الكلمة وكملها بمحبة وحقق السلام والخلاص.آمنوا إذن بأن الربّ معكم وسيروا قدما ما زال راعيكم عينه عليكم. أنصتوا لصوته وتشددوا بقوته. تعلموا أن لا تخافوا البتة وأن لا ترتعب أنفسكم، فقط آمنوا وستجدون المُنقذ وقد أحاطكم بمحبته، ومدّ يده أليكم. أنشدوا للربّ دومًا أناشيد المحبة والفرح ورتلوا وسبحوا له دوما على عطاياه التي لا تنتهي. لا تعيشوا التردد ولا تضطرب قلوبكم ما زال هو معينكم ومنقذكم وحاملكم على أذرعه، كما تحمل الأم طفلها على أذرعها وتحيطه بها لكي لا يسقط أو يتألم.يسوع الطفل المولود في مغارة للحيوانات، أصبح الراعي الصالح الذي يقود قطيعه لكي لا يضيع. هو من باركنا بكل البركات ودعانا إلى ملكوته وقربنا من حياة لا تزول ولا تفنى. ربنا وملخصنا إننا نشكرك على عطية السلام التي وهبتنا أياها، عطية الفرح والخير والبناء والاتزان والثقة والمحبة والثبات في عالم متذبذب فيه الكثير من النفوس المخبوطة التي تسير بعكس إرادتك. ربنا أقبل صلاتنا وتضرعاتنا وعطرنا برائحة محبتك الزكية.علمنا دوما أن نعمل الأعمال الصالحة التي تبقينا في إيمان أبدي وتغذي أرواحنا وتنمو وتتجدد بقوتك.