حاضرة الفاتيكان - الخميس 7 ديسمبر 2006 (zenit.org) ننشر في ما يلي التعليم الذي تلاه الباب بندكتس السادس عشر في مقابلة الأربعاء العامة بتاريخ 6 ديسمبر 2006.

 

التحية إلى الحجاج المجتمعين في بازيليك القديس بطرس في الفاتيكان

 

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء!

يسعدني أن أستقبلكم في هذه البازيليك وأن أتوجه إلى كل منكم بترحيب قلبي. أحيي بوجه خاص حجاج أبرشية "لاتسيو" الذين احتشدوا هنا ليرافقوا أساقفتهم في الزيارة إلى الأعتاب الرسولية (Visita ad Limina Apostolorum). أصدقائي الأعزاء، أشجعكم أن تعمقوا دومًا حياتكم الإيمانية، آخذين بعين الاعتبار التوجيهات التي صدرت عن لقاء الكنيسة الإيطالية الذي تم منذ عهد قريب في "فيرونا". فنحن على ثقة بأن النشاط التبشيري الشجاع سيؤدي إلى التجدد المرجو في التزام الكاثوليك في المجتمع، حتى هنا في "لاتسيو". إن واجب التبشير الأول هو الإعلان بأن يسوع المسيح هو مخلص كل إنسان. لا ترتخينّ عزائمكم في الثقة به والإعلان عنه بحياتكم العائلية وفي مختلف المجالات. فهذا ما ينتظره الناس، حتى اليوم، من الكنيسة ومن المسيحيين.

أحيي أيضًا المؤمنين الآتين من عِمادة بوستو أرسيتسيو، وبشكري لكم على هذه الزيارة، أتمنى أن يعيش كل منكم زمن المجيء هذا كفرصة سانحة لتقوية إيمانه والتزامه بالإنجيل. كما وأتوجه إلى ممثلي رعية الحبل بلا دنس في ترزينيو، وأدعوكم إلى محبة الله فوق كل شيء، وإلى الاستعداد الدائم لتطبيق إرادة الله، على مثال العذراء القديسة، شفيعتكم السماوية. كما وأحيي تلاميذ المدارس الآتين من فرسكاتي، وأؤكد لكم بأني أذكركم في صلواتي لكيما يملأ الفادي قلوبكم بالفرح الحقيقي ويفيض عطاياه عليكم. أبارككم جميعًا بعطف.

 

الزيارة الرسولية إلى تركيا

 

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء!

كما جرت العادة، عقب كل زيارة رسولية، أود أن أراجع معكم مراحل الحج الذي قمت به إلى تركيا الأسبوع المنصرم من الثلاثاء إلى الجمعة. كما تعلمون، لم تبدو الرحلة سهلة على عدة أصعدة، لكن الرب رافقها منذ البداية ولذا جرت الزيارة بشكل مفرح. وكما سبق وسألتكم أن ترافقوا تحضيرها ومجرياتها بالصلاة، أدعوكم الآن لتنضموا إلي لشكر الله على الطريقة التي جرت وانتهت فيها. أوكل إلى الرب الثمار التي أتمنى أن تأتي بها، إن على صعيد العلاقات مع إخوتنا الأرثوذكس، أو على صعيد الحوار مع المسلمين. أشعر، بالدرجة الأولى، بواجب تجديد الشكر القلبي لرئيس الجمهورية، لرئيس الوزراء وللسلطات الأخرى لاستقبالهم ولطفهم ولتأمينهم الشروط اللازمة لاتمام الزيارة على أحسن ما يرام. كما وأعبر عن شكر أخوي لأساقفة الكنيسة الكاثوليكية في تركيا ولمساعديهم على كل ما قاموا به. شكر خاص يعود إلى البطريرك المسكوني برثلماوس الأول، الذي استقبلني في داره، وإلى البطريرك الأرمني مسروب الثاني، ولميتروبوليت السريان الأرثوذكس مار فيلوكسينس ولباقي السلطات الدينية. طوال الزيارة شعرت بسند أسلافي، خادمي الله بولس السادس ويوحنا بولس الثاني الذين قاما بزيارة لا تنسى إلى تركيا، وبالأخص الطوباوي يوحنا الثالث والعشرين، الذي شغل منصب نائب رسولي في هذه الدولة النبيلة من سنة 1935 إلى سنة 1944 تاركًا وراءه ذكرًا طيبًا من العاطفة والتقوى.

بالعودة إلى النظرة التي من خلالها يقدم المجمع الفاتيكاني الثاني الكنيسة (أنظر الدستور العقائدي نور الأمم، 14- 16)، يمكنني القول أن زيارات البابا الرسولية إنما تساهم في تحقيق رسالة الكنيسة التي تتألف من "دوائر متراكزة". في الدائرة الداخلية القصوى يوطد خليفة بطرس المؤمنين الكاثوليك في الإيمان، في الدائرة الوسيطة يلتقي بباقي المسيحيين، أما في الدائرة الخارجية القصوى فيتوجه إلى غير المسيحيين والإنسانية بأسرها. وقد قضيت اليوم الأول من زيارتي على غرار هذه الدائرة "الثالثة"، وهي الأوسع: التقيت رئيس الوزراء، رئيس الدولة ورئيس الشؤون الدينية، موجهًا إليه خطابي الأول؛ ثم قمت بتكريم ضريح "أب الأمة" مصطفى كمال أتاتورك؛ وحظيت بفرصة التحدث إلى السلك الدبلوماسي في السفارة الرسولية في أنقرة. لقد شكلت هذه السلسلة المكثفة من اللقاءات جزءًا هامًا من الزيارة، خاصة وأن تركيا دولة ذات أكثرية مسلمة، لكنها تتبع دستورًا يقر بعلمانية الدولة. لذا فهي دولة نموذجية في ما يتعلق بالتحدي الكبير الذي نواجهه اليوم على صعيد عالمي: فمن ناحية ينبغي إعادة اكتشاف حقيقة الله ودلالة الإيمان الديني العامة، ومن ناحية أخرى ينبغي ضمان التعبير الحر عن المعتقد الديني دون الانحطاط إلى الأصولية، بل رفض أي شكل من أشكال العنف. كما وسنحت لي الفرصة للتعبير مجددًا عن عواطف احترامي تجاه المسلمين والحضارة الإسلامية. وتمكنت في الوقت عينه من التشديد على ضرورة تعاون المسيحيين والمسلمين سوية في قضية الإنسان، الحياة، السلام والعدالة مؤكدًا أن التمييز بين الدائرة المدنية والدائرة الدينية هو بحد ذاته قيمة وأن على الدولة أن تضمن عمليًا، للمواطن وللجماعات الدينية، حرية العبادة.

أما في مجال الحوار مع الأديان، فقد الهمتني العناية الإلهية بالقيام ببادرة لم تكن متوقعة في أول الزيارة والتي كانت ذات دلالة كبيرة: الزيارة إلى المسجد الأزرق الشهير في اسطنبول. فبتوقفي في مكان الصلاة ذلك لبضع دقائق، رفعت الصلاة إلى الرب الواحد إله السماء والأرض، الأب الرحيم للبشرية بأسرها. يا ليت البشر أجمعين يعترفون بأ نهم خليقته فيؤدون شهادة أخوة حقة!

أما اليوم الثاني فذهب بي إلى أفسس، ولذا وجدت نفسي انتقل بسرعة في "دائرة" الزيارة الداخلية، مجتمعًا بالجماعة الكاثوليكية. فبقرب أفسس، في منطقة بديعة اسمها "تل العندليب"، تشرف على بحر إيجيه، يوجد مزار "بيت مريم". والمزار عبارة عن كنيسة صغيرة شيدت على بيت متواضع، هو بحسب التقليد البيت الذي شيده يوحنا الرسول للعذراء مريم بعد أن اصطحبها معه إلى أفسس. وكان يسوع نفسه قد أوكل كل من مريم ويوحنا بالآخر، عندما قال لأمه، قبل موته على الصليب: "يا امرأة، هذا ابنك!"، وليوحنا: "هذه أمك!" (يو 19، 26- 27). لقد أظهرت الأبحاث الأثرية أن هذا المكان هو مركز تكريم مريمي منذ وقت طويل، وهو عزيز حتى على المسلمين الذين يؤمونه عادة لتكريم من يسمونها "مريم أنا"، الأم مريم. احتفلت بالقداس في الحديقة المقابلة للمزار مع جماعة من المؤمنين أتوا من مدينة إزمير المحاذية ومن مناطق أخرى من تركيا وحتى من الخارج. وقد شعرنا في "بيت مريم" أننا في حقًا بيتنا، وفي هذا الجو من السلام، صلينا من أجل السلم في الأرض المقدسة وفي العالم أجمع. أردت أن أذكر هناك الأب أندريا سانتورو، الكاهن الروماني، الشاهد بدمه للإنجيل المقدس في الأرض التركية.

أما "الدائرة" الوسيطة، دائرة العلاقات المسكونية فقد احتلت الجزء المركزي من هذه الزيارة، إذ تمت في عيد القديس اندراوس الرسول في 30 نوفمبر. وقد ساعدت هذه المناسبة في توطيد العلاقات الأخوية بين أسقف روما، خليفة بطرس، وبطريرك القسطنطينية المسكوني، الكنيسة التي أسسها، بحسب التقليد، القديس أندراوس، شقيق القديس بطرس. على خطى البابا بولس السادس الذي التقى البطريرك أثناغوراس، ويوحنا بولس الثاني، الذي استقبله خليفة أثناغوراس، ديمتريوس الأول، جددت مع قداسة البطريرك برثلماوس الأول هذه البادرة ذات الرمزية العميقة، من أجل تأكيد الالتزام المتبادل في متابعة المسيرة نحو إعادة بناء الشراكة الكاملة بين الكاثوليك والأرثوذكس. ولإقرار هذا الالتزام الراسخ، وقعت مع البطريرك المسكوني وثيقة مشتركة تشكل خطوة إضافية في هذه المسيرة. وكان أمرًا عالي المدلول أن هذه البادرة أتت في ختام الليتورجيا الاحتفالية في عيد القديس أندراوس التي شاركت فيها والتي ختمناها ببركة ثنائية من قبل أسقف روما وبطريرك القسطنطينية، خليفتي القديس بطرس وأندراوس على التوالي. في هذه الطريقة أظهرنا أن ركيزة كل جهد مسكوني هي الصلاة والاستدعاء المتواصل للروح القدس.

في الإطار عينه، قمت بزيارة غبطة بطريرك الكنيسة الأرمنية الرسولية في اسطنبول، مصروب الثاني، كما والتقيت أسقف السريان الأرثوذكس. يسعدني أن أذكر في هذا المجال الحديث مع ربان تركيا الأعظم.

واختتمت زيارتي، قبل عودتي إلى روما، بالعودة إلى "الدائرة" الداخلية، فالتقيت الجماعة الكاثوليكية بمختلف عناصرها في كاتدرائية الروح القدس للاّتين في اسطنبول. وقد حضر القداس الإلهي البطريرك المسكوني، البطريرك الأرمني، والأسقف السرياني الأرثوذكسي وممثلون عن الكنائس البروتستانتية. باختصار، اجتمع للصلاة كل المسيحيين بمختلف تقاليدهم، طقوسهم ولغاتهم. وقابلتهم كلمة المسيح الذي يعد تلاميذه بـ"أنهار من الماء الحي" (يو 7، 38)، وصورة الأعضاء الكثيرة التي تؤلف جسمًا واحدًا (أنظر 1 قور 12، 12- 13)، وعشنا خبرة عنصرة متجددة.

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، لقد رجعت هنا إلى الفاتيكان والقلب يفيض بالعرفان نحو الله وبأحاسيس العطف الصادق والاحترام تجاه مواطني الدولة التركية العزيزة، الذين غمروني بضيافتهم وفهمهم. سيبقى التعاطف والود اللذان أظهروهما لي خلال الزيارة رغم كل العقبات الحتمية التي جلبتها زيارتي على مجريات نشاطاتهم العادية، ذكرًا حيًا يحثني على الصلاة. فليساعد الرب القدير والرحوم الشعب التركي وحكامه وممثلي أديانه المختلفة سوية على بناء مجتمع سلام، حتى تكون تركيا "جسر" صداقة وتعاون أخوي بين الشرق والغرب. بشفاعة مريم الكلية القداسة، فلنصل إلى الروح القدس لكي يمنح هذه الزيارة الرسولية الخصب، ويحيي في العالم أجمع رسالة الكنيسة التي أسسها يسوع من أجل إعلان إنجيل الحقيقة والسلام والحب للعالم أجمع.

ترجمة وكالة زينيت العالمية (zenit.org)

حقوق الطبع 2006- مكتبة النشر الفاتيكانية