* * *
“إن كنت ابن الله, قل لهذه الحجارة لتصبح خبزا”
نعود الى هذه النقطة عندما نصل الى التجربة الثانية التي تشكل منها وسطها الحقيقي. ان البرهان عن وجود الله الذي عرضه الشيطان المجرب في اول تجربة, يقوم على تحويل حجارة الصحراء خبزا. في البدء كان الامر يتعلق بجوع يسوع عينه, على ما رأى ذلك القديس لوقا: “قل لهذا الحجر ان يصير خبزا”. لكن متى فسر التجربة بطريقة اوسع, على ما عرضت ليسوع في حياته على الارض, وبعدئذ تجددت عبر التاريخ.
هل هناك ما هو اكثر مأساوية, وما هو عكس الايمان بالله الجواد, والايمان بفادي الناس. من جوع البشرية؟ ان اول مقياس لتحديد هوية الفادي امام العالم وللعالم, أفليس منحه الخبز والقيام بما يمنع الجوع عن الناس؟ عندما كان شعب اسرائيل يتيه في الصحراء, اطعمه الله بارساله اليه خبز السماء, وهو المن. ذاك انه كان هناك من ظن انه اكتشف في هذه الحادثة صورة الزمن المسيحاني: أفما كان يجب على مخلص العالم, أفلا يجب عليه ان يظهر هويته باعطائه كل الناس ما يأكلونه؟ ان مشكلة الجوع في العالم, وفي وجه اعم, المشاكل الاجتماعية, أفليست اول مقياس واصدقه لقياس الفداء؟ وان من لا يحقق هذا المقياس, هل يمكنه عن حق وحقيق ان يدعى فاديا؟ ويمكننا ان نفهم ان تكون الماركسية قد جعلت من هذا المثال جوهر وعدها بالخلاص: كان عليه ان يعمل بحيث يسد كل جوع, “لتصبح الصحراء خبزا”.
“اذا كنت ابن الله…” انه تحد كبير! أفليس من الواجب التوجه الى الكنيسة ايضا بهذا التحدي؟ اذا كنت تريدين ان تكوني كنيسة الله, عليك اذن ان تهتمي اولا بالخبز للعالم, والباقي سيأتي بعدئذ. انه من الصعب الرد على هذا التحدي, ذلك ان صراخ الجائعين يدخل الينا, ويجب ان يدخل عميقا في اذننا ونفسنا. ولا يمكننا ان نفهم جواب يسوع على ضوء رواية التجارب فقط. ان قضية الخبز تجتاز كل الاناجيل, ويجب ان تقابل بكل ما لها من ابعاد.
هناك في حياة يسوع روايتان كبيرتان عن الخبز. احداهما تكسير الخبز لالأف الناس الذين تبعوا يسوع الى مكان قفر. لماذا القيام الآن بعمل رفض قبلا على انه تجربة؟ لقد اتى الناس لسماع كلمة الله, ولهذا, قد تركوا كل الباقي. وهكذا بوصفهم اناسا فتحوا قلوبهم لله ولبعضهم البعض, وفي امكانهم ان يقبلوا الخبز كما يجب. وهذه الاعجوبة تفترض ثلاثة عناصر: اولا التماس وجه الله وكلمته, وتوجيه الحياة بكاملها التوجيه الصحيح. وفضلا عن ذلك, ان الخبز مطلوب من الله. واخيرا، ان الاستعداد المتبادل للتقاسم يشكل عنصرا جوهريا للاعجوبة. ان السماع لله يصبح حياة مع الله، ويقود من الايمان الى المحبة، واكتشاف الغير. ان يسوع ليس غير مبال بجوع الناس، وبحاجاتهم المادية، لكنه يضع هذه الامور في اطارها الصحيح، ويعطيها المكان اللائق بها.
ان هذه الرواية الثانية عن الخبز تدفع الى الرواية الثالثة، وتعد لها: ان العشاء السري الاخير الذي اصبح افخارستيا الكنيسة، واعجوبة يسوع الدائمة عن الخبز. ويسوع عينه اصبح حبة القمح التي، اذا ماتت، اتت بثمار كثيرة. فهو عينه الخبز بالنسبة الينا، وتكثير الخبز هذا سيبقى بطريقة لا تنتهي، الى منتهى الزمن. وهكذا نفهم الان كلمات يسوع التي استعارها من العهد القديم لزجر المجرب: “ليس بالخبز وحده يحيا الانسان، بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الانسان”.
وبهذا الصدد، هناك عبارة للاب اليسوعي الالماني الفرد دلب، الذي ارداه النازيون: “الخبز مهم، والحرية اهم، ولكن الاهم من ذلك كله، الامانة المستمرة، والعبادة التي لا تعرف الخيانة ابدا”.
وحيثما لا يحترم هذا الترتيب المتعلق بخيور الارض، ولكنه ينقلب، تنتفي العدالة، ويهمل الرجل المتألم، وتنشأ ايضا انقلابات وتدميرات في مجال الخيور المادية. وحيثما يعتبر الله اهمية ثانوية، يمكن تحييده وقتيا او كليا، باسم امور اكثر اهمية، اذ ذاك تسقط ايضا هذه الامور المفترض انها اكثر اهمية. وما كانت نتيجة الاختبار الماركسي السلبية وحدها لتثبت ذلك.
ان مساعدات البلدان الغربية للبلدان التي هي في طريق النمو، القائمة على مبادىء تقنية ومادية، التي لم تضع الله جانبا وحسب، لكنها ابعدت الناس عن الله اعتدادا بعلمها المزعوم، قد جعلت من العالم الثالث، العالم الثالث بالمعنى الحديث. ومثل هذه المساعدات وضعت جانبا البنى الدينية، الادبية والاجتماعية القائمة، وادخلت ذهنياتها التقنية في الفراغ الذي اوجدته بهذه الطريقة. لقد ظنت انه في استطاعتها ان تحول الحجارة خبزا، لكنها اعطت بدل الخبز حجارة. والمسألة مسألة الاولوية لله. ويجب معرفته كواقف، وواقع لا شيء من دونه يمكن ان يكون جيدا. لا يمكن تسيير التاريخ ببنى بسيطة مادية، تقاوم الله. اذا كان قلب الانسان ليس بصالح، فما من شيء آخر يمكن ان يصبح صالحا. وجودة القلب لا يمكن ان تأتي الا ممن هو في ذاته الجودة والصلاح.
يمكن طبعا طرح هذا السؤال، وهو لماذا لم يخلق الله عالما يكون فيه حضوره اكثر وضوحا؟ لماذا لم يترك المسيح وراءه لحضوره غير هذه الابهة التي كان في استطاعتها ان تؤثر في كل من الناس تأثيرا لا يقاوم. هذا هو سر الله والانسان الذي لا يمكننا ان نلجه. انا نعيش في هذا العالم الذي ليس فيه لله وضوح ملموس، غير انه في الامكان البحث عنه، والعثور عليه فقط بوثبة القلب، و”الخروج” “من مصر”. في هذا العالم، يجب ان نقاوم اوهام الفلسفات المزيفة، والاعتراف بأننا لا نعيش فقط من الخبز، بل قبل كل، من الطاعة لكلام الله. وهناك فقط حيث تعيش هذه الطاعة، تولد وتكبر المشاعر التي في اس
تطاعتها ان توفر الخبز للجميع.
ولنأت الآن الى تجربة يسوع الثانية، التي يصعب فهم معناها المثالي لأسباب كثيرة. التجربة يجب ان تفهم كنوع من الرؤيا التي يوجز فيها واقع، وتهديد خاص بالانسان وبرسالة يسوع. وهناك اولا نقطة تثير فضولنا. ان الشيطان، ليوقع يسوع في شركه، استشهد بالكتاب المقدس: المزمور 91 (90) الذي يذكر بحماية الله للانسان المؤمن: “لأنه يوصي ملائكته بك ليحفظوك في جميع طرقك. على ايديهم يحملونك، لئلا تصدم بحجر رجلك”. هذه الكلمات تأخذ اهمية كبرى من كونها قيلت في المدينة المقدسة، في المكان المقدس. وفي الواقع، ان المزمور المشار اليه مرتبط بالهيكل. وان من يتلوه، ينتظر ان ينال حماية في الهيكل، لأن بيت الله يجب ان يكون مكانا خاصا يحميه الله. وفي أي مكان آخر يجب ان يشعر الانسان المؤمن بالله بأنه في مأمن اكثر من الحرم المقدس؟ ان الشيطان يبدو انه متضلع من الكتاب المقدس، وفي امكانه ان يورد المزمور بدقة. ان الحوار الذي دار في التجربة الثانية بدا كأنه نقاش بين أخصائيين في الكتاب المقدس: الشيطان ظهر كأنه لاهوتي، على ما لاحظ احد كبار المؤلفين يواكيم غنيلكا.
وعاد الى الموضوع عينه فلاديمير سولوفياف في كتابه “حكاية قصيرة عن المسيح الدجال: المسيح الدجال جعل ملفانا شرفيا في اللاهوت، وهو أخصائي كبير في التوراة. وهكذا أراد سولوفياف ان يعرب، بطريقة جازمة، عن شكه تجاه نوع من الخبرة العلمية في زمنه. وليست المسألة رفض تفسير الكتاب المقدس تفسيرا علميا في حد ذاته، بل تنبيه لا بد منه، وهو خلاصي، ازاء ضلالات ممكنة. ان تفسير الكتاب المقدس في امكانه ان يصبح واقعيا اداة للمسيح الدجال. وليس سولوفياف من يقول هذا القول، بل هذا ما تؤكده ضمنا رواية التجارب عينها. ان اقبح الكتب التي تحطم صورة يسوع، وتهدم الايمان، كتبت نتيجة شروح لا تخلو من ادعاء.
في ايامنا، ان الكتاب المقدس يخضع لدى كثير من الناس، لمعيار رؤية جديدة للعالم، وعقيدتها الاساسية هي انه لا يمكنه ان يفعل في التاريخ، وان كل ما يتعلق به، بالتالي، يجب نبذه الى دائرة ما هو ذاتي. واذ ذاك، ان التوراة لا تتحدث عن الله، الله الحي، بل نحن من نتكلم، ما في استطاعة الله أن يفعل، وما نريد أن نفعل، وما يجب أن نفعل. والمسيح الدجال يقول لنا إذذاك بعد أن يقدم ذاته كعالم كبير، أن التفسير الذي يقرأ التوراة في دائرة الإيمان بالله الحي، مع الإصغاء إليه إنما يمت بصلة إلى الأصولية. وتفسيره هذا وحده، التفسير المعتبر في كل عصر علميا صحيحا، الذي لا يقول الله عينه فيه شيئا وليس له ما يقوله، هو يكون في مقدمة التقدم.
إن الجدل اللاهوتي بين المسيح والشيطان إنما هو جدل يتعلق بكل عصر وموضوعه تفسير التوراة الصحيح ومسألته الأساسية هي مسألة صورة الله، والجدل القائم على التفسير هو في النهاية نقاش موضوعه صورة الله، والجدل حول التفسير هو في النهاية موضوعه من هو الله، وهذا الجدل القائم حول صورة الله التي يدور حولها نقاش التوراة الصحيح تجد التعبير عنها في صورة المسيح، ومن ظل دون سلطة أرضية، هل هو حقا ابن الله الحي؟
تجارب المسيح لا تزال تساورنا، تجربة الجوع إلى الخبز، وبيننا من هم جياع إليه بعد أن أصاب الركود الكثير من المرافق الحيوية في البلد.
وتجربة الإستيلاء على السلطة، وهذه التجربة تعرض المسيح لها عندما أصعده الشيطان إلى جبل عال وأراه جميع ممالك الأرض في لحظة من الزمن، وقال له أعطيك هذا السلطان كله ومجد هذه الممالك لأنه سلم إلي وأنا أعطيه من أشاء، فإن سجدت أمامي يكن لك كله. جواب يسوع كان: مكتوب: للرب وحده تسجد وإياه وحده تعبد”. هل بيننا كثيرون من يعبدون غير الله؟
وأما التجربة الثالثة، فكانت أن إبليس قاد يسوع إلى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل وقال له: “إن كنت حقا ابن الله فألق بنفسك من هنا إلى الأسفل لأنه مكتوب: يوصي ملائكته بك ليحفظوك، ومكتوب أيضا: على أيديهم يحملونك لئلا تصطدم بحجر رجلك”. جواب يسوع كان: “أنه قيل: لا تجرب الرب إلهك”. وكم من تجارب يتعرض لها أناس اليوم وبخاصة في لبنان.
لنصل قائلين: لا تدخلنا في تجربة.