* * *
أيها الإخوة الأجلاء والأعزاء،
لقد دخلنا في أسبوع الآلام المقدس حاملين في قلوبنا ألمًا كبيرًا لأجل الموت المأساوي الذي لاقاه الأخ العزيز بولس فرج راحو ، رئيس أساقفة الموصل للكلدان. وشئت أن أقدم هذا القداس الإلهي لراحة نفسه، وأشكركم لأنكم قبلتم دعوتي للصلاة سوية لأجله.
أشعر في هذه اللحظة بقرب بطريرك بابل للكلدان، الكاردينال عمانوئيل الثالث دلي، وأساقفة تلك الكنيسة الحبيبة التي تتألم وتؤمن وتصلي.
أوجه كلمة تحية وتشجيع خاصة لأولئك الإخوة الأجلاء في الأسقفية، لكهنتهم، للرهبان، ولكل المؤمنين، واثقًا أنهم بالإيمان يعرفون أن يلاقوا القوة لكي لا يفقدوا رباطة جأشهم في هذه الحالة التي يعيشونها.
إن الإطار الليتورجي الذي نعيش فيه الآن هو الأكثر بلاغة: فهي الأيام التي نعيش فيها من جديد آخر آونة من حياة يسوع الأرضية: ساعات مأساوية، مليئة بالحب والخوف، وخصوصًا في نفوس التلاميذ. ساعة صار فيها التناقض بين الحقيقة والرياء، بين وداعة واستقامة المسيح وعنف وخداع أعدائه. لقد اختبر يسوع اقتراب موته العنيف، شعر بأن مكيدة المضطهدين بدأت تلتف وتضيق حوله. اختبر الجزع والخوف، وصولاً إلى لحظة الجتسماني المصيرية. ولكنه عاش كل ذلك في شركة مع الآب تعزيه “مسحة” الروح القدس.
إنجيل اليوم يذكر عشاء بيت عنيا، الذي يكشف لنظرة التلميذ يوحنا المليئة بالإيمان معانٍ عميقة. بادرة مريم التي تدهن أقدام يسوع بالطيب الثمين، تصبح علامة حب بلغ أقاسي العرفان، وذلك استباقًا لدفن المعلم؛ والعطر، الذي يتضوع في كل البيت، هو رمز لمحبته العميقة، لجماله ولصلاح تضحيته التي تملأ الكنيسة.
أفكر بمسحة الزيت المقدس الذي مسح جبهة المونسينيور راحو في ساعة معموديته وتثبيته؛ والذي نضح يديه في يوم سيامته الكهنوتية ومن ثم رأسه ويديه عندما تكرس أسقفًا. وأفكر بمختلف “مسحات” العطف البنوي، والصداقة الروحية، والإخلاص التي كان يكنها لشخصه المؤمنون، والتي رافقته في ساعات الخطف الرهيبة وفي أسره المؤلم – حيث وصل جريحًا على الأرجح -، مرورًا بالنزاع والموت. وصولاً إلى ذلك الدفن غير اللائق، حيث وجد جثمانه. وقد كانت تلك المسحات، الأسرارية والروحية، كانت عربونًا للقيامة، وعربونًا للحياة الحقة والكاملة التي جاء الرب يسوع ليمنحنا إياها!
وضعتنا قراءة النبي أشعيا أمام شخصية عبد الرب، في أول الأناشيد الأربعة التي تظهر فيها وداعة وقوة هذه الشخصية الغامضة التي أرسلها الله، والتي تتحقق بالكلية في يسوع المسيح. يتم تقديم العبد كشخص “يحمل العدل”، و “يعلن العدل”، و “يُحِقّ العدل”، بتشديد على هذه العبارات لا يمكن عدم الانتباه له. لقد دعاه الرب “من أجل العدل”، وهو سيحقق هذه الرسالة الكونية بقوة الحقيقة غير العنيفة.
نرى في آلام المسيح اكتمال هذه الرسالة، عندما شهد للحق في وجه حكم ظالم، وبقي أمينًا لشريعة الحب.
في هذا الدرب عينه، حمل رئيس الأساقفة راحو صليبه وتبع المسيح الرب، وساهم هكذا في حمل العدل إلى وطنه الجريح وإلى العالم بأسره، وشهد للحق. لقد كان رجل سلام وحوار. أعرف أنه كان يحب بشكل خاص الفقراء والمعاقين، وكان قد أنشأ لأجل العناية بهم مؤسسة خاصة، اسمها “فرح ومحبة”، أوكل إليها مهمة تقييم هؤلاء الأشخاص ومساندة عائلاتهم، وقد تعلمت هذه الأخيرة منه ألا يخبئوا أقاربهم هؤلاء وأن يروا فيهم المسيح. فليساند مثاله كل العراقيين ذوي الإرادة الصالحة، مسيحيين ومسلمين، في بناء تعايش سلمي، مبني على الأخوة الإنسانية والاحترام المتبادل.
في هذه الأيام، وفي اتحاد عميق مع الجماعة الكلدانية في العراق وفي الخارج، بكينا موته، والطريقة اللّا إنسانية التي انتهت فيها حياته الأرضية. ولكن اليوم، في هذه الافخارستيا، التي نقدمها لأجل نفسه المكرسة، نريد أن نشكر الله لأجل كل الخير الذي أكمله فيه وبواسطته. ونريد في الوقت عينه أن نرجو أن يتضرع أمام الرب من السماء لكي ينال للمؤمنين في تلك الأرض الجريحة الشجاعة للمضي قدمًا في العمل من أجل مستقبل أفضل.
وكما عرف بولس رئيس الأساقفة الحبيب أن يبذل نفسه دون تردد في خدمة شعبه، فليعرف مسيحيوه أن يثبتوا في الالتزام من أجل بناء مجتمع سلميًا ومتضامنًا في دروب التطور والسلام.
نوكل هذه التمنيات إلى شفاعة العذراء الكلية القداسة، أم الكلمة المتجسد، أم الرجاء، من أجل خلاص البشر، ولذا من أجل الجميع.
* * *
نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2008.