الرابع والعشرون من مارس
سلطان يسوع كطاعةٍ
إن الكلمة التي يستعملها الإنجيل للدلالة على سلطان يسوع تعطي من تلقاء ذاتها تفسيراً عميقاً حول جوهر هذا السلطان: فهو ليس مجرّد سلطان نابع من قوة جسدية أو تقنية ما. ولا هي قوة جُليات قديم أو معاصر، بل قوة تنبع من الطاعة، قُل من علاقة تشكل مسؤولية الكينونة، مسؤولية تجاه الحق والخير. وهي كما يصفها نشيد المسيح في فيليبّي (2: 5-11) سلطان وَضَع نفسه. فالمسيح لم يعدّ مساواته بالله غنيمةً كما يتشبّث السارق بغنيمته أو كَمَن استولى على السلطة فيجدّ في التنعّم بها والغلوّ في استغلالها... لقد أعطى رومانو غورديني وصفاً ولا أروع عن المعنى البنّاء لفعل يسوع الأساسي، أي الصليب والإبتهال الملازم له، كما يرد في النشيد إلى أهل فيليبّي، قال: "إن حياة يسوع برمّتها ترجمة للسلطان تواضعاً... وطاعةً لمشيئة الآب. فالطاعة ليست ثانويةً عند يسوع، بل هي تشكل نواة وجوده...". وعليه، فلا "حدود لسلطانه مصدرها الخارج، بل ثمة حدّ واحد من الداخل... إنها مشيئة الآب التي قبلها بحرية". هو سلطان له قدرة على السيطرة الكاملة على ذاته و"قدرة التخلي عن ذاته"... وعليه، فسلطان يسوع هو قوة قوامها المحبة، المحبة التي تصبح قوة. إنها قوة تحيد بنا عن كل ما هو ملموس ومرئي، إلى غير المنظور وحقيقة محبة الله الجبّارة. إنها قوة بمعنى المنهج الذي يهدف إلى إعادة الناس إلى طريقهم القويم، إلى سموّ المحبة.
الخامس والعشرون من مارس
بشارة عذراء
إن الأمور العظيمة حقاً تنمو بصمتٍ من دون أن تثير جلبةً، والصمت في الوقت المناسب أجدى من النشاط الحثيث الذي يتحوّل بسهولة كبيرة كسلاً روحياً. في زمننا اليوم، يسكننا جميعاً شعور غريب بعدم الراحة والإضطراب يعتبر أي شكل من أشكال الصمت مضيعةً للوقت وأي نوع من الراحة ضرباً من ضروب الإهمال. فما حالنا ننسى سرّ الوقت الحقيقي، السرّ الحقيقي القائم في النموّ والنشاط؟ وهذا السرّ يفترض الصمت والسكون. وحتى في عقر عالمنا الديني صرنا اليوم ننزع إلى تأمل وتوقع الكثير من نشاطنا الخاص. وبتنا نسخّر التمارين والأنشطة على أنواعها هرباً من السرّ الحقيقي لنموّنا الداخلي في حضور الله. بيد أن قابلية التلقي في العالم الديني هي بأهمية النشاط إن لم تكن أكثر. وسرّ بشارة مريم ليس مجرّد سرّ صمت؛ إنه أيضاً لا بل على نحو أهمّ وأكبر سرّ نعمة. وهنا علينا أن نسأل أنفسنا: ما هو الداعي الحقيقي الذي جعل يسوع يختار أن يولَد من عذراء؟... إن الخلاص لا يأتي من البشر وقدراتهم الخاصة بل فقط من عند الله وعمله الرحوم. والله يتدخل حيث يكون فراغ إنساني؛ وينطلق من المرحلة حيث لا يتبقى ما يمكن فعله من وجهة نظر البشر. هو يعطي الحياة لحامل الوعد في أحشاء سارة العقيمة ويتّبع النمط ذاته عبر التاريخ، وصولاً إلى ولادة الربّ من العذراء... إن خلاص العالم هو من صنيع الله وحده وهو لذلك السبب يحصل وسط الضعف والعجز البشريين. من وجهة نظر الإنجيل، إن ولادة العذراء هو في نهاية الأمر علامة على أن ما يحدث هو فعل نعمة صرف من لدُن الله.
السادس والعشرون من مارس
قرب الله فينا
أننا نحيا ونتحرك في فلك الله الخالق أمرٌ واضح وبديهي، أقلّه أولاً في ما خصّ وجودنا البيولوجي. وتتحقق هذه النظرية أكثر وأكثر كلّما غصنا في جوهر الله الخاص. فنقول ما يلي: حيثما يقوم أحد بأمر حسن لأخيه، هناك يكون وجود الله قريباً بشكل ملحوظ. وحينما ينفتح أحد على الله في الصلاة، حينذاك يدخل في حميمية خاصة مع الله... وحيثما يكون ما يعكس على أفضل وجه صورته ويجعله حاضراً، حيث يكون الحق والصلاح، هناك نكون في تواصل معه، مع الإله الكليّ الوجود، في علاقة مميزة... فحضور الله يتجلى بطبيعة الحال بطريقة أقوى في الشخص الذي يكون الله حاضراً فيه بكل ما للكلمة من معنى منه في الإنسان الذي ابتعد كلياً عن الله. فلنتأمل في بشارة العذراء مريم على سبيل المثال: أراد الله أن تكون مريم هيكلاً له، هيكلاً حيّاً، وليس فقط أن يشغل أحشاءها بشكل ماديّ. ولكن في الواقع لا يصبح من الممكن لله أن يسكن فيها حقيقةً إلا لأنها تقبل أن تنفتح عليه من الداخل؛ لأنها تطوّر كيانها الداخلي إلى أن تصير في انسجام وتناغم مع الله.
السابع والعشرون من مارس
المحبة والتأديب
إن الغضب ليس دائماً نقيض الحبّ. فقد يضطرّ الأب، على سبيل المثال، في بعض الأحيان أن يتكلم بحدّة مع ابنه ليوخز ضميره، فقط لأنه يحبّه. وهو يكون مقصّراً في واجباته الوالدية تجاهه وفي رغبته في الحبّ إن لم يعمد إلى تقويم تصرّف ابنه أحياناً من خلال التدخل الحاسم في حياته، لكي يسهّل الأمور على الطرف الآخر. ومن المعروف أن الأطفال المدلّلين الذين تمّ التساهل معهم في كل الأمور غالباً ما يعجزون في نهاية المطاف عن التعاطي مع الحياة، لأن الحياة تعاملهم فيما بعد معاملة مختلفة، ولأنهم لم يتعلموا يوماً أن يهذّبوا أنفسهم ويعيدوا أنفسهم إلى الطريق القويم. فإذا قررتُ على سبيل المثال أن أتعامل بلطف مع مدمن مخدّرات فأعطيته المواد السامة التي يطلب بدل أن أقصيه عنها (وهذه المعاملة قد تبدو له قاسية جداً)، فلا يمكن هنا الحديث عن حبّ حقيقي. بعبارات أخرى، إن الحبّ بالمعنى الصحيح للكلمة لا يكون دائماً بالتساهل واللين والمعاملة اللطيفة. وعليه، فإن يسوع "يقطر لطافة" أو إلهاً يقبل بكل الأمور ولا يكون إلا لطيفاً وودياً ليس سوى صورة محرّفة عن الحبّ الحقيقي. فل
أن الله يحبّنا، ولأنه يريدنا أن ننمو في الحق، عليه لا محالة أن يطالبنا ويسائلنا ويؤدّبنا. على الله أن يفعل ما نشير إليه من خلال صورة "غضب الله"، أي إنه عليه أن يقف في وجه محاولاتنا للسقوط من أفضل ما في ذواتنا ومتى كنّا نشكل خطراً على أنفسنا.
الثامن والعشرون من مارس
غنى العطاء
لا تأخذ نزوات الأشخاص المقتدرين بعين الإعتبار أن الحياة بالنسبة للغالبية الساحقة من الناس كفاح ونضال مستمران للبقاء. ومن هذا المنطلق، تراني أعتبر أن فكرة قيام الإنسان باختيار طريقه في الحياة موقف أنانيّ وتضييع لدعوته. فمن يظنّ أنه يملك في الحياة كل شيء بحيث أصبح بإمكانه أن يختار ما يشاء ويكون مركز كل الأمور إنما هو يحرم نفسه من إعطاء ما كان استطاع إعطاءه لولا ذلك. فالإنسان لم يوجَد ليصنع نفسه بل ليستجيب لما يُطلب إليه. إنّا جميعاً في حيّز التاريخ الهائل وكلنا يعتمد على كلّنا. لذا، لا يجوز للإنسان أن ينكبّ على استكشاف ما يريد أو يرغب، بل عليه أن يتساءل عمّا بإمكانه القيام به وكيف له أن يقدّم المساعدة. عندئذٍ، يدرك أن تحقيق الذات لا يكمن في الراحة والرخاء واتّباع أهوائه وميوله، وإنما يكون تحديداً في السماح بأن يُطلَب منّا وفي اتّباع الطريق الأصعب. فكل ما عدا ذلك مصدر سأم في كل الأحوال. وحده الإنسان الذي "يرمي بنفسه في النار" ويلفي نداء الدعوة في داخله والرسالة ومثالاً أعلى ينجزه ويتحمل المسؤولية الحقة، وحده ذاك الإنسان يحقق ذاته. فليس باتباع الطريق المخملي المريح يصير الإنسان غنياً بل بالعطاء.
التاسع والعشرون من مارس
العذاب والحب
الألم جزء من الإنسان. ومن أراد حقاً التخلص من العذاب عليه أولاً أن يتخلص من الحب قبل أي أمرٍ آخر، لأنه ما من مكان للحب من دون عذاب، لأن الحبّ يفترض باستمرار عنصر تضحية بالذات، سيّما وأن الإختلافات في الطبع وتطوّر الحالات المعقدة دائماً ما تحمل معها التخلّي والألم. وعندما ندرك أن درب الحبّ –هذا الإرتحال والعبور، هذا الخروج من الذات- هو الطريق الحق الذي من خلاله يصبح الإنسان إنساناً، عندذاك ندرك أيضاً أن العذاب هو الدرب إلى نضوجنا. ومن قَبِل في داخله العذاب أصبح أكثر نضجاً وأكثر تفهماً للآخرين، قُل أكثر إنسانيةً. أما ذاك الذي أكبّ طوال حياته على الهروب من العذاب فهو عاجز عن فهم الآخرين، فقد بات قاسياً وأنانياً... فإن قلنا إن العذاب هو البعد الداخلي للحبّ، نفهم إذذاك أيضاً لما علينا أن نتعلّم كيف نتعذّب- ولما، في المقابل، من شأن تلافي العذاب أن يجعل المرء غير جاهز للتكيف مع الحياة. فحسبُه أن يبقى في فراغ وجودي، له أن يمتزج فيما بعد بالمرارة والرفض، وليس بأي قبول داخلي أو تقدم باتجاه النضوج.
الثلاثون من مارس
المسيح، العلّيقة المشتعلة
عندما يتحدث يسوع عن النار، إنما يقصده في المقام الأول هي آلامه التي سيتحمّلها والتي كانت آلاماً من أجل الحبّ وبالتالي ناراً، العليقة المشتعلة الجديدة التي تشتعل بالنار ولا تحترق، ناراً يجب أن تسلَّم أمانةً تُنقَل من جيل إلى جيل. فيسوع لم يأتِ ليمنحنا حسّ الراحة والرفاه، بل هو يضرم النار في الأرض ويحمل إلينا نار الحب الإلهي الحيّ والمضطرم الذي يتمثل في الروح القدس، النارالمشتعلة. إن إحدى المقولات المنحولة التي نقلها أوريجنس تنقل عن يسوع قوله: "من اقترب منّي اقترب من النار". من اقترب منه بالتالي يجب أن يكون مستعداً لأن تلهبه النار... إنها نار تُلهِب ولكنها لا تدمّر بل تجعل الأشياء وضّاءةً ونقية وحرة وكبيرة. إذاً أن أكون مسيحياً يعني أن أتجرّأ على أن أعهد بنفسي إلى هذه النار المشتعلة... والمسيح هو مصدر السلام. وأذهب إلى القول إن هذا التصريح هو الأهمّ والأكثر حسماً. ولكننا ندرك هذا السلام الذي يحمله المسيح إلينا خير إدراك فقط متى نأنينا عن فهمه بطريقة مبتذلة كطريقة لنحوّر دربنا عن الألم وعن سبل الحق والصراعات التي تحملها الحقيقة معها... فإن حصرت الكنيسة جهودها ببساطة في تلافي الصراع كيما تضمن عدم نشوب الإضطرابات في أي مكان، فمصير رسالتها الحقيقية حينذاك الفشل. فهذه الرسالة موجودة في الواقع لتتعارض مع سلوكنا تحديداً، وتنتشل الإنسان من حياة الكذب التي يحيا وتحمل إليه الضياء والحقيقة. والحقيقة مكلفة. إنها متطلّبة وهي... تحرق.