في هذا اليوم المقدّس ، أحد الشعانين وأحد الالام ، نحن مدعوّون الى أن نهتف للرب كما فعلت الجموع على طول الطريق من بيت فاجي الى هذا المكان. وقبل أن يعاني يسوع مرّ الالام أراد أن يحيا لحظة من المجد!
دخل يسوع المدينة المقدسة من غير سلاح ولا جنود ، من غير جدران فاصلة ولا حواجز تفتيش. دخل بكل بساطة ، وهو يمتطي حمارا ، وتمم نبوّة زكريا :”قولوا لبنت صهيون (أي للمدينة المقدسة نفسها) : ها ان ملكك يأتي اليك وديعا ، ممتطيا جحشا ابن اتان” (عن زكريا 9 : 9 ).
مؤثّر صراخ الجماهير الذي ردّدناه طول الطريق والدورة الاحتفاليين : “هوشعنا لابن داود (اي المسيح المنتظر)! مبارك الاتي باسم الرب”، وها قد حضر بيننا الذي انتظرته الانسانية لعدّة قرون من الزمان.
ما راق هذا الصراخ للسلطات المحلية وللفريسيين ، بما أن ذلك الهتاف الجماهيري حرّك الشّعب ، فتوالت الاحداث بسرعة في الايام التالية.
اليوم يبدأ أسبوع عظيم والاقرب الى الصواب انه الاسبوع العظيم ، أسبوع “الجنون الالهي” اذا جاز التعبير ، ويقابله جنون البشر! اليوم تتلخّص أمامنا أحداث الاسبوع المقدّس ، من الدخول المجيد بغار النصر الى المدينة المقدسة حتى موت يسوع ودفنه.
اليوم نستطيع نحن أيضا أن نهتف لمخلّص العالم ونحن نحمل أغصان النخيل والزيتون ، ونقدر أن نرتّل ملء أفواهنا : “هوشعنا لابن الله” أي لكلمة الله المتجسّد. اليوم نقدر أيضا أن نبكي ندما على خطايانا ونحن نذرف الدمع السّخين أمام موت الفادي ونحن نسمعه في انسانيته يتضرع :”يا ابتاه ، اغفر لهم لانهم لا يعلمون ما هم عاملون”.
ان دخول يسوع الاحتفالي الى المدينة المقدسة يندرج في اطار رسالة يسوع وانجازه لها وقدوم الساعة المصيرية التي طالما تحدّث عنها في الانجيل الطاهر. “اورشليم” لفظة تعني مبدئيا “أساس السلام” أو “رؤية السلام” هي اليوم – ومنذ عقود طويلة – مدينة المأساة. اليوم تستقبل هذه المدينة السيد المسيح بهتافات الانتصار. وبعد ايام معدودة ، ستتهكم من ملك السخرية الذي لا يقدر حتى أن يحمل صليبه وتهزأ من هذا المسيح الذي شوّه الالم وجهه.
الاسبوع المقدس الذي يبدأ اليوم دعوة كي نتبع يسوع وكي ندخل مثله ، بكل شجاعة ، الى المدينة والى المجتمع. لنستمعنّ الى أقواله وننظرنّ الى أفعاله. ولنتأملنّ في محبّته العظمى التي ستتفجّر في هذه المدينة المقدّسة الشهيدة كي تنطلق منها أجيال جديدة من النساء والرجال الذين سلّموا الى الله حياتهم. فليرشدنا مثاله الصالح كي نستطيع ، نحن أيضا ، أن نسند الذين سحقهم الظلم وقضى عليهم الرياء وغياب الحرية (عن أشعيا 50 : 4).
آلام المسيح اختبار يتواصل فيه الرب مع آلامنا ويجذبنا من خلالها الى القيامة المجيدة. عانى يسوع من الرفض والخيانة وسُمّر على الصليب ، وفي هذا الموقف أشرف على العالم كي يعيد الى البشر صورة الله الحقيقية فيهم كأبناء لله. الحب الالهي وحده قادر أن يفسّر كل أحداث أحد الشعانين. هذا الحب يعبّر عن نفسه بشتّى الاوجه في أثناء الالام والموت والقيامة السيدية. ولا تفسير آخر.
الحجّ الى المدينة المقدسة واقع دائم ومعاصر حتى ايامنا. فأهلا بكل الحجاج والزوّار وسهلا! وان قداسة الحبر الاعظم سيزورنا أيضا حاجّا وراعيا ، وستحمل زيارته الابوية بركة لنا جميعا.
مثل الرسل ، نجد صعوبة في السير قُدُما حسب متطلبات ايماننا. أحيانا يخيفنا الصليب وتزعجنا التضحية ونخشى الحشود الغاضبة التي تتهدد وتتوعّد. نخاف خيانة التلميذ وخيانة الشعب ونكرانه للجميل وعداوة السلطات وانكار بطرس… لا غريب في كل هذه السلبيات ، مع الاسف . اننا نعلم تقلّب الجماهير وتغيّراتها المفاجئة ، ليس فقط على المستوى السياسي بل في كل ميادين الحياة حتى الدينية والعائلية. وعليه ، ليس أصدقاء الامس من اصدقاء اليوم ولا الغد! في هذه الحياة ، كل شيء ممكن أن يحصل ، فيصدمنا حتى الذين أحسنّا اليهم. (وفي تراثنا العربي الاصيل مثَل مأثور : اتّق شرّ من أحسنتَ اليه”).
يدخل يسوع في آلامه بسبب الجماهير ومن أجل الجماهير التي يريد أن يخلّصها. في فترة أولى ، في شوارع القدس الضيّقة ، تعبّر الجماهير المتحمّسة عن اعجابها بالمسيح الملك ابن داود وهي لا تخاف سائر اليهود ولا الرومان. ولكن هذه الجماهير نفسها أثبتت قدرتها على شدّة الكراهية والولع بالتدمير والقتل! وما من أحد ولا شيء يوقف صياحها : اصلبه اصلبه ، ارفعه ارفعه! اقتله! ولسان حالها : ليس هذا الرّجُل منّا! ولن يستطيع أن يخلّص نفسه!
الجماهير هتفت به ، الجماهير تقتله. هذه هي البشرية وأهواؤها. (ويحضرني قول القديس أوغسطينوس : لا يقولنّ الشعب : نحن ما قتلنا المسيح! بلى قتلتموه! وكيف قتلتموه؟ بسيف اللسان – اذ صرختم : اصلبه اصلبه!).
ايها الرب يسوع المسيح ، لتخلّصنا آلامك من أهوائنا!
أيها الاخوة والابناء الاعزّاء ، ارجو لكم في حنان المسيح اسبوعا عظيما مقدّسا تؤهلّنا فيه النعمة الالهية أن “نتبع الحَمَل حيثما يذهب”.
وكلّ عام وأنتم بخير! حفظكم المخلّص في محبّته الالهية كما أوصانا “أثبتوا في محبّتي”. آمين.
+ فؤاد بطرس الطّوال
البطريرك اللاتيني المقدسي
عظة البطريرك طوال بمناسبة احد الشعانين
القدس، الاحد 5 ابريل 2009 (zenit.org). – ننشر في ما يلي عظة البطريرك فؤاد الطوال بمناسبة احد الشعانين
ايها الاخوة والاخوات ،