الفاتيكان، الجمعة 24 أبريل 2009 (zenit.org). – ننشر في ما يلي التعليم الذي ألقاه البابا بندكتس السادس عشر يوم الأربعاء، خلال المقابلة العامة.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
الكنيسة تحيا في الأشخاص، وعلى من يريد التعرف الى الكنيسة وأن يفهم سرها، أن يأخذ بعين الاعتبار الأشخاص الذين عاشوا ويعيشون رسالتها، وسرها. ولذلك فإنني أتكلم منذ وقت طويل – خلال المقابلة العامة – عن أشخاص، يمكننا من خلالهم أن نتعلم ما هي الكنيسة. بدأنا بالتعرف الى الرسل وآباء الكنيسة، وقد وصلنا الى القرن الثامن، الى فترة شرلمان. اليوم أود أن أتحدث عن امبروسيوس اوتبير، وهو كاتب مجهول: في الواقع لقد نسبت أعماله الى شخصيات أكثر شهرة كالقديس امبروسيوس من ميلانو، والقديس ايدلفونسو، فضلاً عن الكتابات التي قال رهبان مونتيكاسينو بأنها لرئيس ديرهم الذي عاش حوال قرن بعد اوتبير. لا نعرف الكثير عن حياته سوى ما تركه هو نفسه لنا في تعليقه على “سفر الرؤيا”. غير أن كتاباته ساعدت على اكتشاف كنز لاهوتي وروحي ثمين، حتى في أيامنا.
ولد امبروسيوس اوتبير في بروفينسا، وحسب المؤرخ جوفاني، كان اوتبير في مملكة الملك بيبينو في بريفي، ولعب دوراً في تنشئة امبراطور المستقبل، شرلمان. يقدر بأن امبروسيوس – وعقب زيارة البابا اسطفانوس الثاني الى المملكة عام 753-754، قام اوتبير بزيارة ايطاليا، وزار دير القديس فينتشينسو البندكتي، في فولتورنو، في دوقية بينيفينتو. كان هذا الدير الذي أسسه ثلاثة اخوة بيبيفيتيون – بالدوني، تاتوني وتايونس – معروف بأنه واحة ثقافة مسيحية. بعد زيارته الى الدير قرر امبروسيوس اعتناق الحياة الدينية، ودخل ذلك الدير، حيث تنشأ لاهوتياً وروحياً، بحسب التقليد الآبائي. عام 761، سيم كاهناً، وفي الرابع من أكتوبر 777، تم انتخابة أباتي على الدير. على اثر انتخابه، وبسبب رفض بعض الرهبان الايطاليين، تنحى امبروسيوس عن منصبه وانتقل الى سبوليتو، حيث كانت تحت حماية شرلمان. غير أن النزاع الداخلي في دير القديس فينتشينسو لم يتوقف، وبعد أن توفي الأباتي الذي خلف امبروسيوس، تم انتخاب بوتوني، منافس امبروسيوس، وعاد التوتر الى الدير. وصلت الشكوى ضد الأباتي الجديد لدى شارلمان، الذي حول القضية الى روما. قام البابا باستدعاء امبروسيوس كشاهد، ولكنه قُتل خلال رحلته الى روما، عام 784. كان امبروسيوس اوتبير راهباً وأباتي خلال حقبة وسمها التوترات السياسية الشديدة، والتي كان لها صداها أيضاً في الأديار. فقد تكلم هو نفسه عن ذلك في كتاباته. فقد أدان التناقض بين جمال الدير الخارجي، وكسل الرهبان: وهنا بالطبع كان يتحدث عن ديره. من هذا المنطلق كتب حياة المؤسسين الثلاثة بهدف تقديم مرجعية حقيقية للرهبان الجدد. كما وكتب أيضاً، وللغاية نفسها – “الصراع بين الرذيلة والفضيلة”، الذي لاقى أهمية كبيرة في القرون الوسطى، وتم نشره عام 1473 في اوتريخت باسم شارلمان وبعد عام في سترازبورغ باسم القديس اغسطينوس. في هذا العمل، أراد امبروسيوس أن يعلم الرهبان بطريقة حسية كيفية مواجهة الصراع الروحي يوماً بعد يوم. وهو يطبق ما قاله بولس لتيموتاوس 2تي 3: 12 : “من يرديون العيش في المسيح يسوع سيضطهدون”، وهنا لا يتحدث عن الاضطهاد الخارجي بل عن الصراع الذي على المسيحي أن يواجهه في داخله مع الشر. وتحدث امبروسيوس عن 24 زوجاً من المتصارعين: كل رذيلة تحاول أن توقع بالنفس، بينما تحاول الفضيلة المضادة لها مواجهتها من خلال الكتاب المقدس. في هذا العمل عن الصراع بين الرذيلة والفضيلة، يضع اوتبير نبذ العالم ضد الجشع. نبذ العالم لا يعني نبذ الخليقة وجمال وصلاح الخليقة والخالق، بل إنه نبذ النظرة الخاطئة للعالم، التي تتجسد في الجشع. الجشع يشجع الانسان على التفكير بأن التملك هو القيمة الأسمى في الوجود. وهكذا فإن الجشع يزيف خليقة العالم ويدمر العالم. ويشير اوتبير في كتاباته الى أن الجشع والطمع الموجود في المجتمع، موجود أيضاً في نفوس الرهبان، وبالتالي فقد كتب عن الجشع “ De cupiditate“، مشيراً – على غرار القديس بولس – الى أن هذا الأخير هو مصدر كل الشرور. يقول: “من تراب الأرض ينبت الشوك من مختلف الجذور؛ أما في قلب الانسان، فكل الرذائل تأتي من مصدر واحد، الجشع”. عبارة آنية، في ظل الازمة الاقتصادية الحالية. ويتصور أمبروسيوس ردة فعل الأغنياء وأصحاب السلطة اذ يقولون: ولكننا لسنا رهباناً، وبالتالي فإن بعض الخيارات الزهدية لا تصلح بالنسبة لنا. ويجاوب امبروسيوس: “صحيح ما تقولونه، ولكن بالنسبة لكم ايضاً، وبحسب قواكم، هناك الطريق الضيق والطريق الواسع. الرب تحدث عن هذين الطريقين وليس هناك من طريق ثالث،” لإنه يرى بوضوح أن أنماط العيش مختلفة. ولكن على الغني أيضاً أن يصارع الجشع، والرغبة في التملك، وحب الظهور، والحرية المزيفة. على الغني أيضاً ان يجد طريق الحق الصحيحة، وطريق المحبة والطريق المستقيم. وفي ختام كلمته، قال اوتبير: “لقد تكلمت ليس ضد الجشعين بل ضد الجشع، ليس ضد الطبيعة، بل ضد الرذيلة.” أهم عمل لامبروسيوس هو بكل تأكيد تعليقه على سفر الرؤيا: فهو أول تعليق في العالم اللاتيني عن آخر سفر في الكتاب المقدس. لقد كان هذا العمل ثمرة عمل سنوات عديدة، تم على مرحلتين بين 758 و767، وبالتالي قبل انتخابه اباتي. في المقدمة، يشير اوتبير الى مصادره بدقة، الأمر الذي لم يكن عادياً في القرون الوسطى. من خلال مصدره الأساسي، تعليق الأسقف بريماسيو أردوميتانو، من منتصف القرن السادس، تعرف
أوتبير على تفسير سفر الرؤيا الذي تركه الافريقي تيكونيو، الذي سبق القديس اغسطينوس بجيل.
لم يكن كاثوليكياً، غير أنه كان لاهوتياً كبيراً. في هذا التعليق يرى سر الكنيسة يتجلى في الرؤيا. كان تيكونيو مقتنعاً بأن الكنيسة كانت جسداً ذات قسمين. القسم الاول – يقول – ينتمي للمسيح، وأما القسم الآخر فينتمي للشيطان. استفاد أغسطينوس من قراءته لهذا التعليق، ولكنه أكد في الوقت عينه بأن الكنيسة هي بين يدي المسيح، وهي تبقى جسده، ومعه تكون جسماً واحداً، وهي شريكة في النعمة. يشدد أغسطينوس على أنه لا يمكن للكنيسة أبداً أن تكون منفصلة عن المسيح. في قراءته للرؤيا، لم يركز اوتبير على مجيء المسيح الثاني في نهاية الأزمنة، بل على نتائج مجيئه الأول في الكنيسة، التجسد من العذراء مريم. وهو يقول لنا كلمة بالغة الأهمية: في الواقع، على المسيح أن يولد ويموت ويقوم كل يوم فينا – نحن جسده. في نطاق البعد الزهدي الذي يحيط بكل مسيحي، ينظر اوتبير الى مريم كمثال الكنيسة، مثال للجميع، لأن المسيح يولد فينا وبيننا. على خطى الآباء الذي رأوا في “المرأة الملتحفة بالشمس” (رؤ 12: 1،) صورة الكنيسة، يقول اوتبير: “العذراء الطوباوية… تلد كل يوم شعوباً جديدة، منها يتكون جسم الوسيط. ليس من العجب إذن أن تكون التي استأهلت أن تحمل الكنيسة وأن تكون متحدة برأسها، مثالاً للكنيسة”. وبهذا المعنى يرى اوتبير أن مريم تلعب دوراً حاسماً في عمل الخلاص. تكريمه الكبير لمريم ومحبته العميقة لها استقبقا التصوف الفرنسيسكاني والقديس برناردوس، وهو لا يفصل بين مريم وسر الكنيسة. ومن هذا المنطلق، وبحق، لقب بالخبير في اللاهوت المريمي في الغرب. في الصلاة الجميلة التي ينهي فيها تعليقه على الرؤيا مشدداً على اولوية المحبة في كل بحث لاهوتي، يتوجه الى الله بهذه الكلمات: “عندما نبحث عنك في الفكر، لا يمكننا اكتشافك، وعندما نحبك، نصل إليك”.
يمكننا اليوم أن نرى في امبروسيوس اوتبير شخصية عاشت في زمن وسمه الاستغلال السياسي للكنيسة، حيث شوهت القبلية والعنصرية وجه الكنيسة. ولكنه وسط المصاعب التي نعرفها نحن اليوم أيضاً، عرف أن يكتشف وجه الكنيسة الحقيقي في مريم، وفي القديسين. وفهم ما معنى أن يكون كاثوليكياً، أن يكون مسيحياً، أن يعيش كلمة الله، وأن يدخل في سر والدة الله: احياء كلمة الله، وتقديم الذات في سبيلها. وبكل معرفته اللاهوتية وعمقه العلمي، عرف اوتبير أن يفهم أنه لا يمكن التعرف على الله فقط من خلال البحث اللاهوتي البسيط، وحدها المحبة توصلنا إليه. فلنصغ الى هذه الرسالة، ولنصل للرب ليساعدنا على عيش سر الكنيسة اليوم، في زمننا الحاضر.