سوء فهم مأساوي

أسطورة التقدم الأفقي (1)

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

بقلم روبير شعيب

الفاتيكان، الأربعاء 19 أغسطس 2009 (Zenit.org). – إذا ما نظرنا إلى رسم “خلق آدم” للفنان الشهير ميكال أنجلو في الكابيل “سيستينا”، لا يمكننا إلا أن نتذكر كلمات سفر التكوين البسيطة والغامضة في آن: “خلق الله الإنسان على صورته فمثاله” (تك 1، 26 – 27). إن التقليد المسيحي – بحسب ما يشهد الخبير الكبير الكاردينال هنري دو لوباك – لم يتوقف يومًا عن استباط غنى عميق من هذه الآية، واجدًا فيها راية فخر ونبالة للبشرية، وركيزة لعظمة الإنسان.

اختلف تفسير الآباء لهذه “الصورة والمثال” فأراد بها البعض العقل (الوغوس)، الحرية، خلود النفس، السيطرة على الطبيعة، إلخ… وكان آباء الكنيسة يدعون المسيحيين إلى عيش شعار معبد دلف: “اعرف نفسك” (gnôthi seauton) من خلال معرفة الذات لا ككون مصغّر (microcosmo)، ولا كخليقة مائتة حقيرة (كما فهمها على سبيل المثال سقراط أفلاطون)، بل كصورة الصورة، كابن في الابن.

في تجسده وحد الابن الكلمة في أقنومه الطبيعتين، الإلهية والبشرية، وسنح بهذا للعهد الجديد أن يتحدث عن “الله القريب”، العمانوئيل – الله معنا” – وسمح لنا أن نلقي نظرة إلى العظمة التي رفع إليها الله الإنسان.

إن هذه العظمة بالذات، التي ميزت المسيحية عن التيارات النيوأفلاطونية التي كانت تحتقر المادة والخليقة عادة، كانت مصدر عرفان في وجدان الكنيسة والمسيحيين، وحافزًا إلى نشيد تعظيم كنسي لعظائم الرب في خليقته ونحوها.

انطلاقًا من هذه العظمة التي يسبغها الوحي البيبلي على الإنسان، وخصوصًا وحي العهد الجديد في يسوع المسيح، بات ممكنًا الكلام عن “الأنسية” أي “المذهب الأنسي” أو النهضة الأنسية (umanesimo). اكتشاف عظمة الإنسان فتح المجال واسعًا للنقلة النوعية في الفكر البشري نحو الأنثروبولوجيا، والتي ولدت بدورها حضارة العصر الحديث (modernità) (Cf. A. Manaranche, Déclin ou sursaut de la foi, Paris 2002). يشرح المؤلف اليسوعي أندريه مانارانش، على خطى كبار المفكرين مثل فون بالتازار، أن هذه النهضة باتت ممكنة لأن الله أخلى ذاته (kenosi) حبًا وفتح المجال أمام ظهور عظمة الإنسان. ولكن، كما في كل فعل محبة – والمحبة تحترم الحرية ولا تغتصبها – في انفتاحه على الخليقة عرض الله ذاته بشكل إرادي – إذا جاز التعبير – لمجازفة محبته التي يمكن قبولها كما يمكن رفضها.

بعض أن استعرضنا في مقالة سابقة بعنوان (الأسطورة المنطقية) نتائج ما نود اعتباره “الحداثة الأولى”، سنتوقف في هذه المقالة على اعتبار “الحداثة الثانية”، والتي يشكل محورها لا الثنائي “الإيمان-العقل” بل الثنائي “الإيمان-التقدم” عانين بالتقدم التقدم الأفقي، التقدم في البعد التاريخي-الزمني-الخلائقي.

سنلاحظ في هذه المقالة حركة الإنسان الحديث في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والتي نجد فيها ملامح “مثل الابن الضال”؛ ابن تمسك بقوة بمواهب الأب ليبني بعزلة وانفراد طوباوية (utopia) التقدم المستقل عن الله.

إن هذه الظاهرة موجودة بشكل خاص في الدين المسيحي، لأن المسيحية، من بين الأديان السماوية هي الوحيدة التي ليست متمحورة حول الله (teocentrica) بشكل حصري، بل هي بحسب تعبير فلاديمير سولوفيوف ديانة الألوهية-المؤنسنة (divinumanità) (Cf.  V. Soloviëv, Lezioni sulla divinumanità, Milano 1990)، وبالتالي هي الديانة حيث الله بحرية وبمجانية ومدفوعًا من محبته نحو خليقته، يخلي ذاته ويفسح للإنسان كامل المجال لكي يختار معالم وجوده ويكون بطل سيناريو خياراته.

بالعودة إلى آية سفر التكوين (1، 26 – 27) التي بدأنا فيها المقالة، نلاحظ في القرن الثامن عشر وعلى مشارف القرن التاسع عشر، تحولاً في إدراك هذه الهوية المسيحية المبنية على مفهوم الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله. يقول الكاردينال دو لوباك: “إن المفهوم المسيحي للإنسان، الذي تم قبوله قبلاً كتحرير، بدأ يبدو كنِير ثقيل. وفكرة الله التي رأى فيها الإنسان عربون عظمته، بدأت تبدو له كفكرة معادية، مناهضة لكرامته” (H. De Lubac, Le drame de l’humanisme athée, Paris 2000, 20).

هذا التحول في حدس إيجابية الإيمان المسيحي، وفساد مصوِّرة العلاقة بين الله والإنسان ولد في حضن طوباوية التقدم. ولكن ما الذي أدى إلى استثناء الإيمان المسيحي من بحث الإنسان عن التقدم؟ ولماذا قام الإنسان الحديث بفصل حتمي بين الله والتقدم؟ بكلمات أخرى، لماذا ربط التقدم بالتحرر والاستقلالية المطلقة عن الله، علمًا بأن ما من ديانة مثل المسيحية دعت الإنسان، وما زالت تدعوه، إلى عيش كامل لدعوته كخالق مع الله (co-creatore)؟

للجواب على هذه الأسئلة بشكل موضوعي وعلمي، يتوجب علينا أن نتبحر قدر الإمكان بالنقاط الأساسية التي ساهمت في تشويش وتشويه صورة الله في الوجدان الأوروبي بشكل خاص، وإلى ولادة الإلحاد الأنسي، أو بحسب تسمية الكاردينال دو لوباك “الأنسية الملحدة”.

(يتبع)

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير