الإلحاد حبًا بالإنسان

أسطورة التقدم الأفقي (2)

Share this Entry

بقلم روبير شعيب

الفاتيكان، الاثنين 17 أغسطس 2009 (Zenit.org). – إن مفهوم الله الذي كان قد توصل إليه اللاهوت العقلي وريث المذهب العقلي الحديث كان ضيقًا جدًا ولا يستطيع أن يستوعب الإله المالئ الكل، وباردًا جدًا لا يستطيع أن يحمل حرارة الروح القدس، ومستفيضًا في التجريد فلا يستطيع أن يلائم الإله الحي.

لا يصعب علينا أن نلاحظ بسهولة أن الكثير من لاهوت الدفاع (apologetica) بين القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر قد دافع عن الإله الغلط – إله الربوبية (deismo)، إلهًا متحجرًا، لا يهتم بالعالم وبالخليقة، إلها “مملاً”. وبدفاعها، دون إرادتها، عن هذا الإله، خلّت بعض تيارات اللاهوت الدفاعي المعالمَ الشخصانية  للإيمانَ المسيحي والتي تقوم على ترابط غير منفصم في مثلث محكم هو: العقل-الحرية-النعمة، مثلثٌ يتجلى في إله الوحي المسيحي، إله تاريخ الخلاص لا العقل المنفصل والهيولي اللاشخصاني، إله الخبرة المتكاملة.

لقد قامت بعض تيارات اللاهوت الدفاعي باستبدال إله الوحي الكتابي بالإله الربوبي وأخلت الأول من تشابك وتعقيد كيانه بالنسبة لعقلنا، وخلقت الله على صورة الإنسان الحديث فمثاله؛ إلهًا يُختزل بالعقل الذي هو بدوره صورة العقل المحدود في حججه المنطقية.

إن رفض الحداثة للمسيحية ينبع بالتحديد من هذا الإطار اللاهوتي الذي بات يميز بشكل واسع ويفصل بشكل حازم بين المعطيات الاختباربية والصوفية والتفكير النظري.

كان بونافنتورا وتوما الأكويني في القرن الثالث عشر يستطيعان التحاور مع المعطيات الفلسفية المعاصرة لهم، وأن يستخدموا ما تقدمه لهم الفلسفة والثقافات الأخرى لتبيان الحقيقة الموحاة بفضل خبرة روحية عميقة تغذي تفكيرهما النظري.

يقول القديس بونافنتورا في مؤلفه القصير “ De reductione artium ad theologiam” الذي كتبه في عام 1255 أن الفنون الميكانيكية، التي تنيرنا حول الأشكال الخارجية (lumen exterius)؛ والمعرفة الحسية، التي تتعلق بالوقائع الجسدية، التي هي أدنى من الوقائع الروحية (lumen inferius)؛ والمعرفة الفلسفية، التي تبحث عن الأسباب الحميمية والخفية في كل الوقائع (lumen interius): هذه الفنون جميعها تمهد “علمًا أسمى” (lumen superius)، وهو العلم الموجود في الأسفار المقدسة، والذي من خلال معاني الكتاب المقدس الأربعة – المعنى الحرفي، والمعاني الروحية الثلاث (المجازي، الخلقي، والأخيري) – ينيرنا بشأن الحقائق المتعلقة بالخلاص: ولادة الابن في الأزل وتجسده وتجسده في الزمن؛ التصرف الذي يجب اتباعه للوصول إلى الحياة الأبدية؛ ضرورة اتحاد النفس بالله من خلال التطلع. وعليه يبين القديس، من خلال الأسلوب الذي يميز ذلك الزمان، أن ما من فصل بين الخبرة الدنيوية والخبرة الروحية، فكل الخبرات الدنيوية والفكرية والفلسفية والجمالية ، إذا ما تبعنا خطها بأمانة تقودنا إلى الخبرة الروحية، ومن هنا معنى عنوان هذا الكتيب: “اختزال الفنون في اللاهوت” أو “تحول الفنون إلى اللاهوت”.

ولكن، في العصر الحديث، مع الفصل والطلاق الذي تم بين التفكير النظري والخبرة المسيحية، أضحى تفكير الإيمان تنظيرًا مجردًا، وضعفت خبرة الروحانية المسيحية، وبات كلاهما فريسة سهلة للروح النقدي الحديث. إن أزمة الإيمان الكبرى التي نجدها في القرون الأخيرة تتلخص في ما يلي: إن الشخص الذي يقوم بفعل الإيمان بات  مختزلاً الآن بعقله فقط، والفلسفة التي كانت خادمة اللاهوت (ancilla theologiae) بات سيدته التي تحكم عليه. والعلوم التي كانت ثانوية وخاضعة للتعليم المقدس في مفهوم جامعة الدروس (universitas studiorum) في العصر الوسيط، اجتاحت حقل اللاهوت وجعلت فعل الإيمان وعيش الإيمان واقعًا ثانويًا.

يقول اللاهوتي دوبوي بشأن العلوم الثانوية: “إن هذه العلوم باتت تحتل في حقل البحث والتعليم الحيز الأكبر، لا بل أخذت كل الاهتمام. وفي هذه الحالة تعرض اللاهوت إلى ما يشبه الانفجار. إذا ما أردنا ان نكون عادلين يجب أن نصرح بأن اللاهوت يحتاج للإيمان، بين هذه العلوم لا تتطلبه بالضرورة… فمن دون إيمان لا يمكن أن يوجد لاهوت” (M. Dupuy, “La notion de spiritualité”, in Dictionnaire de spiritualité, ascétique et mystique, doctrine et histoire, XIV, Paris 1990, 1166-7).

إن هذا المفهوم بالذات أضحى بحسب اللاهوتي اليسوعي مايكل باكلي أرضية خصبة لنشأة الإلحاد الحديث. إن تعبير الإلحاد [أتيمولوجيًا: اللا ألوهة] (ateismo) يظهر في الوجدان بمعنى أتيمولوجي ورمزي جدلي، ففهمه يرتكز لا محاله على تعبير [ألوهة] (teismo)، بحيث أنه نفي له. بكلمات أخرى، إن الإلحاد لا يمكن أن يقوم إلا على أساس ما ينفيه أي على أساس مفهوم وفكرة حول الله.

 

الإلحاد المحب للبشر (filantropico)!

الإلحاد الحديث الذي هو خاصية أوروبية بالإجمال والذي ولد في حضن المسيحية، لم يتولد ببساطة من عوامل اجتماعية-اقتصادية أو منطقية نتيجة للتحرر السياسي وللاستقلالية الحديثة، كما ولم يولد فقط نتيجة للتقدم البشري والصناعي والتكنولوجي. بالطبع هذه العوامل ساهمت في نشأة هذه الظاهرة التي لا سابق لها، ظاهرة الإلحاد المجتمعي. ولكن المفارقة الكبيرة والملاحظة التاريخية المؤسفة هي أن المحرك المصيري والكامن للإلحاد الحديث كان تقديم فكرة عن الله غير لائقة به تعالى. يكتب اللاهوتي اليسوعي باكلي (M. J. Buckley) الذي كرس ردحًا طويلاً من حياته ومن أبحاثه للتعمق في ظاهرة الإلحاد: “إن الإلحاد قد نشأ انطلاقًا من الجهود عينها التي كا
نت تريد محاربته، وذلك إذا ما اعتبرنا جدليًا، ليس فقط معناه الأتيمولوجي، بل أيضًا بنيته ووجوده” (M. J. Buckley, “Ateismo” in Dizionario di Teologia Fondamentale = DTF, Assisi 1990,84).

وما يؤثر فينا بشكل خاص في هذا الإلحاد هو طابعه الدراماتيكي، وصدقه الأخلاقي، وأنه إلحاد ينشأ في حضن الدين، في حضن ما كان يهدف إلى الدفاع عن وجود الله. فالإله الذي كانت بعض تيارات اللاهوت الدفاعي تسعى إلى الدفاع عنه وعن وجوده لم يكن يستحق اسم الله، لأنه كان زوسًا مستوحشًا” بحسب تعبير س. موور، لا يهمه إلا الجدل والنقاش.

بحسب تحليل هنري دو لوباك، الإلحاد الحديث ليس إلحادًا “شعبيًا”، و “لا مجرد إلحاد نقدي” يهدف إلى التدمير دون أن يستطيع أن يقدم عوضًا عما هدمه؛ بل هو إلحاد يقدم نفسه كـ “إيجابي، مركب، وبنّاء. يجمع بين حلولية ذي طبيعة صوفية ووعي صافٍ لمستقبل البشرية” (H. De Lubac, Le drame de l’humanisme athée, op.cit., 7). ويعتبر اليسوعي الفرنسي الراحل أن الوجوه النموذجية لهذا الإلحاد هي: أوغوست كومت، لودفيخ فويرباخ (وابنه ‘الروحي‘ كارل ماركس)، وفريدريخ نيتشه.

ولا يخالف تحليل المرتد الروسي نيكولاي بردياييف عن تحليل دو لوباك، إذ يقول فيلسوف المنفى الروسي في تحليله النفسي للإلحاد في روسيا أن الفكر الروسي يرفض المراوغة والمقاييس المنقوصة في حل مشاكل الحياة ويتميز بميل محب للبشر (filantropico) يرفض ألم الأبرياء، ويعتبر أن هذا هو أساس الإلحاد الروسي. فهذا الإلحاد بحسب بردياييف ليس إلحادًا مشككًا أو لا أدريًا، بل هو إلحاد ينبع عن مشكلة أخلاقية: فقبول الله يعني قبول جميع أنواع الألم في الخليقة التي خلقها هذا الإله، ولذا، يُعرض الروسي عن الوصايا الإلهية محبةُ بالخليقة (راجع   N. Berdjaev,  Psicologia del nichilismo e dell’ateismo russi in Id. Il problema del comunismo, Brescia 1945, 79).

في الأقسام اللاحقة من هذه المقالة سنستعرض نظرة فويرباخ، ماركس ونيتشه، محاولين أن نرى كيف يقدم هؤلاء الفلاسفة معاييرهم الرامية لتطور البشرية، وكيف يقدمون نفي الله كشرط ضروري لهذا التطور. سيساعدنا الاستعراض الموضوعي لنظرتهم الأنثروبولوجية والفلسفية إلى اكتشاف “المصورة الإلهية” المشوهة التي هي في أساس نظرتهم واقتراحهم الفكري والاجتماعي.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير