الديمان، الأحد 23 أغسطس 2009 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي العظة التي تلاها البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير أثناء القداس الاحتفالي الذي ترأسه في كنيسة الصرح البطريركي في الديمان.
* * *
“ان ابن الانسان هو رب السبت”
ان هذا التقاطع في ظروف عبارة “ابن الانسان” يصدر عن منطق يوزع بدقة متناهية مختلف معاني الصفة، وهذا المنطق يقابل صيغة ضيقة لفكر استاذ ليس له اية رابطة مع اختلاف الواقع الحي الذي تسمع مجموعة معقدة صوتها فيه. والحال ان المقياس الاساسي لهذا النوع من الشرح الكتابي هو ان نعرف ما يستطيعه يسوع في زعمنا، مع الاخذ بعين الاعتبار ظروف حياته وجوه الثقافي. ظاهرا مصداقيته ضعيفة. وهناك اعتبارات صادقة عن المجد والالم لا تتوافق معه. وهناك نوع من الانتظار الرؤيوي الفاتر، كما كان منتشرا في ذلك الزمان، يمكن ان نضعه في “خانته”، ظاهرا ليس الا. ولكن ليس هكذا يمكن ان ننصف قدرة حدث يسوع. في تفكيرنا في شرح امثال يسوع الذي يقترحه جوليشر، لقد اضطررنا الى القول انه لا يمكن احدا ان يحكم عليه بالصلب لاقوال وضيعة ترمي الى تهذيب الاخلاق.
ولبلوغ هذا الصدام القاسي، واللجوء الى حد تسليم يسوع الى الرومانيين، كان يجب ان يحدث ويقال شيء مأساوي. وان ما هو مبعث شك كبير يأخذ مكانه في البداية، والكنيسة المولودة حديثا كان عليها ان تسير مسافة بعيدة لكي تقيس كبر هذا الحدث، وتدرك كنهه تدريجيا في عملية “استذكار” ترجع الى ذاتها. ويحسب حساب لجماعة مجهولة قام بها لاهوتي عبقري مذهل. ولكن ما هي هذه الوجوه الكبيرة التي كان بامكانها ان تقوم بهذا الابداع؟ لا، ان ما هو كبير، وجديد ومثير للشكوك، انما هو واقع يسوع. وهذا ما يتطور في ايمان الجماعة وحياتها، ولكن ليس هنا ما وجد هذا. اجل ان “الجماعة” لم تكن لتتكون وتستمر على قيد الحياة، لولا ان واقعا غير عادي قد استبقها.
ان التعبير “ابن الانسان” الذي استعمله يسوع ليخفي سره، ويعود الى اظهاره تباعا، كان جديدا ومذهلا. لم يكن لقبا عاديا للرجاء المسيحي. وهو يتوافق تماما واسلوب تبشير يسوع الذي كان يتكلم بالالغاز والامثال، ويحاول هكذا ان يقرب سامعيه من السر الذي لا يمكن فكه حقا الا لاحقا عندما نتبعه. وعلى وجه الاجمال، ان عبارة “ابن الانسان” تعني اولا ببساطة “انسانا” في الاستعمال اللغوي العبري والآرامي. والتسلل بين كلمة “انسان” البسيطة واستيحاء ضمير رسولي جديد في عبارة “ابن الانسان” يظهر في تفكير عن السبت نلاقيه في الازائية واليكم نص مرقس:”ان السبت جعل للانسان، وما جعل الانسان للسبت. فابن الانسان سيد السبت ايضا”. ولدى متى ولوقا غابت الجملة الاولى. وقد قال يسوع عندهما: “ان ابن الانسان هو رب السبت”. ويمكن ربما ان نضيف ان متى ولوقا قد حيدا الجملة الاولى لخوفهما من تحريف معناها. ومهما يكن من امر، انه واضح انه لدى متى ولدى لوقا تذهب الجملتان معا وتفسر احداها الاخرى.
ان يكون السبت قد جعل للانسان وليس الانسان للسبت، ليس هذا تعبيرا بسيطا عن موقف حديث ومتحرر، كما نعتقد لاول قراءة. ولدى التفكير في عظة الجبل، راينا ان ذلك لم يكن خير سبيل لتفهم الطريقة المثلى لتعليم يسوع. في “ابن الانسان” انكشف الانسان كما يجب ان يكون في الواقع. في مقياس “ابن الانسان” وفي مقياس يسوع، الانسان حر ويعرف ان يستعمل السبت استعمالا جيدا بوصفه يوم حرية اتيا من الله ومن اجل الله”. ان ابن الانسان هو رب السبت ان كل عظمة مطمع يسوع الذي يترجم الشريعة بسلطانه الخاص لان هو ابن الله الاصلي، هذه العظمة تظهر هنا. وان ما يكشف ايضا عن نوع الحرية الجديدة التي اعطيها الانسان على وجه الاجمال، وهي حرية لا علاقة لها بالمجانية. ان جوهر هذا التعليق على السبت انما هو شرح السبت وترجمة الاثنين “الانسان” “وابن الانسان”. ونرى كيف ان اللفظة في حد ذاتها خاصة تصبح تعبيرا عن كرامة يسوع الخاصة.
ان لقب “ابن الانسان” لم يكن موجودا بوصفه لقبا في عصر يسوع غير انه بامكننا دونما شك، ان نرى شبها له في رؤيا التاريخ العام كما اورده كتاب دانيال مع الحيوانات الاربعة و “ابن الانسان”. ان الرائي يرى تتابع امبراطوريات العالم الكبرى في صورة الحيوانات الاربعة العظيمة الخارجة من البحر، الاتية “من تحت”، وهي تمثل سلطة تستند قبل كل الى العنف، وهي سلطة ذات طبيعة “حيوانية”. ان دانيال يرسم اذن عن تاريخ العالم لوحة قاتمة ومقلقة كل القلق. لا شك في ان الرؤيا ليست بكاملها سلبية ان الحيوان الاول هو اسد وله جناحا نسر، ويقطع جناحاه. “وارتفع عن الارض وقام على رجليه كانسان واوتي قلب انسان”. وان انسنة السلطة ممكنة حتى في ايامنا. ويمكن ان يكون للسلطة وجه انساني. ولكن هذا الخلاص نسبي، والتاريخ في ما خص الباقي، يتتابع وسيصبح لاحقا اكثر ظلاما.
ولكن بعد بلوغ هذه القمة النائية التي ترى ان الشر قد بلغ مداه، يحدث شيء مخالف كل المخالفة، فيرى الرائي، كما من بعيد، سيد هذا العالم الصحيح في هيئة شيخ يضع حدا لهذه الرؤيا: “ورأيت اتيا، مع غيوم السماء، كمثل ابن الانسان ووصل الى الشيخ وقربوه اليه”.
“وأوتى سلطانا ومجدا وملكا، فجميع الشعب والامم والالسنة عبدوه وسلطان أبدي لا يزول وملكه لا ينقرض”. وأمام الوحوش القادمة من الاعماق ينتصب الرجل القادم من عل. وكما ان وحوش الاعماق تجسد الامبراطوريات التي تعاقبت في العالم، هكذا ان صورة ابن الانسان” الآتي على سحب السماء “تعلن مملكة جديدة كل الجدة، “مملكة انسانية”، ذات سلطان حقيقي
آت من الله عينه بهذه المملكة تظهر الشمولية الحقيقية، صورة التاريخ الاخيرة، صورته الوضعية التي كانت دائما مشتهاة سرا. ان “ابن الانسان” التي من فوق هو الذي سينتصب في وجه الوحوش القادمة من أعماق البحر، وهو بوصفه هذا، لا يرمز الى صورة فردية، لكنه يمثل “مملكة” يأتي العالم فيها الى هدفه.
هناك شراح للكتاب كثيرون يفترضون أنه قد يكون وراء هذا النص قول يقول ان “ابن الانسان” هو صورة فردية، ولكن مهما يكن من امر، انا لا نعرف هذا القول. وهو يبقى افتراضا. ان نصوص الرابع من عزرا 13 والحبشي أحنوخ المدرجة غالبا التي يتمثل فيها أبن الانسان” كوجه فردي هي أحدث من العهد الجديد، ولا يمكن بالتالي اعتبارها أحد مراجعه. وكان من الطبيعي سهلا ان نربط رؤيا “ابن الانسان” بالرجاء المسيحاني وصورة المسيح، غير أننا لا نملك، للقيام بذلك، نصا سابقا لنشاط المسيح. وعلى كل حال، ان صورة ابن الانسان تمثل مملكة الخلاص المستقبلية، وهذه رؤيا كان باستطاعة يسوع ان يتخذها، ولكنه أعطاها صيغة جديدة بربطة هذا الانتظار بذاته وبنشاطه.
ولنعد الآن الى كلمات يسوع لقد رأينا أول مجموعة تأكيدية عن ابن الانسان تتعلق بمجيئه المستقبلي وان أكبر قسم من هذه التأكيدات نجده في خطاب يسوع عن نهاية العالم. وفي دعواه أمام المجمع. غير أن هناك نقطة مهمة اريد أن الفت النظر اليها: أنها كلمات مخصصة لمجد يسوع المقبل، ولمجيئه للمحاكمة، ولتجمع الابرار، “المختارين”. ولكن لا ننسى ان من تفوه بها هو ذاك الذي يمثل أمام قضاته بوصفه مشتكى عليه يخضع للهزء، وان المجد والالم هكذا يختلطان اختلاطا وثيقا في كلماته.
على وجه التأكيد ان الامر لا يتعلق بآلام المسيح، ولكنه الواقع الذي يجد المسيح نفسه فيه ويتكلم. وهذا كله نجده مختصرا خاصة في مثل الدينونة الاخيرة الذي أورده متى. ان “ابن الانسان” الذي يدين يتماهى مع الجياع، والعطاش، والغرباء، والعراة، والمرضى، والمساجين، وبكلمة مع كل الذين يتألمون في العالم ويصف الموقف منهم، هو الموقف منه. وليس هذا تصورا من الديان الشامل مخترعا بعدئذ. وهو بصيرورته انسانا، قام بهذا التماهي حتى بالتفصيل المحسوس. وهو الذي لا خيور له ولا وطن ولا مكان له يسند اليه رأسه. وهو السجين، المشتكى عليه وهو الذي مات عريانا على الصليب. وتماهي ابن الانسان الذي يدين العالم مع التعساء من كل نوع يفترض تماهي الديان مع يسوع الارضي، ويظهر الوحدة الداخلية بين الصليب والمجد، والوجود الارضي في التواضع والقدرة المستقبلية على دينونة العالم. وليس هناك سوى ابن واحد للانسان وهو يسوع. وهذا التماهي يظهر لنا الطريق، ويظهر لنا القاعدة التي على قياسها ستدان يوما حياتنا.
لا شك في ان ما قلناه في يسوع المسيح يقتضي له جهد كبير لفهمه، ولكنه كلام لا بد منه. وهو رب السبت، اي رب الشريعة.
ان الوضع الحالي بات يحمل على القلق، ولا سبيل الى الخروج منه الا بتشكيل حكومة تتولى شؤون البلد وتتحمل مسؤولياتها. وكل من يعرقل ذلك يعتبر مسؤولا امام الله والناس والتاريخ.