بقلم روبير شعيب
روما، الخميس 27 أغسطس 2009 (Zenit.org). – “عذِّب المهاجرين غير الشرعيين! فما ذلك إلا حق الدفاع عن الذات!”، هذا هو شعار إحدى مجموعات فايس بوك التي تضم بين أعضائها رئيس حزب “رابطة الشمال-بادانيا” أومبرتو بوسي، وهو حزب يميني متطرف يشارك في الحكم في إيطاليا مع حزب سيلفيو بلروسكوني، “شعب الحرية”، الذي يزعم خطًا سياسيًا يمينيًا معتدلاً. وعلى الفايس بوك أيضًا، وضع ابن بوسّي لعبة تمثل إيطاليا محاطة بقوارب النجاة التي تحمل طالبي اللجوء إلى إيطاليا، والهدف من اللعبة هو إغراق هذه القوارب.
ولكن دعنا من فايس بوك ومن المواقف، التي بالرغم دناءتها ودلالتها، ليست إلا مواقف غير رسمية. ولننظر إلى ما يجري حاليًا على صعيد رسمي بين الكنيسة الكاثوليكية ورابطة الشمال-بادانيا.
جدل حاد
بدأ الجدل والصراع الأخير (مع سابقات منذ أيام يوحنا بولس الثاني) بين الكنيسة ورابطة الشمال، إثر المصادقة على قانون الهجرة الجديد، الذي يعتبر الهجرة الشرعية كجريمة، ويقاضي المهاجرين. وكان لهذا القانون نتائج مؤلمة، بما في ذلك موت الكثير من المهاجرين في البحر على حدود صقلية، دون الحصول على الإسعافات الضرورية، وفي هذا الصدد صرح رئيس الأساقفة أنطونيو ماريا فيليو، رئيس المجلس الحبري لرعويات المهاجرين والمتنقلين أن لكل إنسان الحق بالإسعاف، ورد على مداخلات فليو وزير من حزب بوسي، روبرتو كالديرولي بالقول: إن تصريحات المونسنيور فيليو عن المهاجرين ليست صادرة عن الكرسي الرسولي ولا عن مجلس أساقفة إيطاليا الذي غالباً ما عارض فيليو”.
وبدوره أكد فيليو: “في هذا الصدد، وبكل احترام ومحبة للحقيقة، أود التأكيد على أنني أتشرف كرئيس مجلس بالإدلاء بالتصريحات باسم الكرسي الرسولي، وأنني لم ألقَ يوماً المعارضة من قبل الكرسي الرسولي أو مجلس أساقفة إيطاليا”.
وتابع رئيس الأساقفة الإيطالي قائلاً أن “الأقوال التي نقلت عن الوزير مرفوضة ومهينة، كما لو كنت مسؤولاً عن وفاة العديد من البشر المساكين الذين ابتلعتهم مياه البحر الأبيض المتوسط”.
وأضاف: “إن تصريحاتي صدرت فقط عن واقع ملموس ومأساوي يتمثل في وفاة العديد من الأشخاص. لم أوجه الاتهامات لأحد بل دعوت كل فرد إلى تحمل مسؤوليته”.
ولم يتأخر رد حزب بوسي إذ نقرأ في عدد جريدة الحزب، “لا بادانيا”، الصادر أمس ما يلي: “إذا لم تتوقف الكنيسة عن التدخل… يجب أن نعيد النظر باتفاق اللاتران”، وهو اتفاق أعاد العلاقات الإيجابية بين الكنيسة الكاثوليكية وإيطاليا بعد فترة من البرودة تلت توحيد المملكة في القرن التاسع عشر.
ما هي العلمانية؟
هذه المقدمة الطويلة تقودنا إلى طرح عدة تساؤلات حول هوية وطبيعة العلمانية، لأن إصرار الكثيرين على الحديث عن العلمانية دون وعيهم أنهم يقوضون أسس العلمانية بمواقفهم هو أمر متفشٍ ومقزز.
هل العلمانية هي مرادف لحرية الكلمة، فقط لمن يتفق مع الرأي الحاكم؟ هل تعني العلمانية أن المؤمن يخسر حق التعبير لمجرد انتمائه إلى دين معين؟ لا وألف لا، العلمانية هي واقع تعايش مبني على كرامة الإنسان وحرية التعبير. وكل إنسان يحق له أن يعبر عن استنكاره عندما يرى أن هناك أشخاص يغرقون في البحار لأن بعض المتطرفين يخافون على هويتهم في بعض جرود الأرض.
في العلمانية الحقة يؤخذ برأي الشخص المتدين لا كمتدين ولكن كشخص يتحدث من منطلق منطقي عاقل وإنساني.
العلمانية لا تعني اللاإنسانية، فالعلمانية التاريخية نشأت بفضل زعمها بأنها تريد أن تحرر الإنسان من القيود التي وضعها الدين على حرية تفكيره وشعوره وإحساسه، ولكن ما نراه الآن هو أن هناك إيديولوجية متطرفة وعنصرية ولاإنسانية تريد أن تستخدم اسم العلمانية التقليدي لكي تضع نير صمت على كتف كل من يتحدث لغة تخالف لغتها.
العلمانية الإيجابية
لو تخطى ممثلو حزب “الكاروتشو” رعب اللقاء بالآخر لعرفوا أن الدفاع عن الهوية يتم من خلال عيشها في اللقاء لا من خلال غزلها في الوحدة. ولوعوا أن العلمانية الحقة هي علمانية منفتحة لا متحجرة في حنين إلى ماضٍ لن يعود، ماضي الانغلاق بين صخور جبال الشمال الإيطالي العالية.
لقد قدم الرئيس الفرنسي خلال زيارته إلى اللاتران في عام ديسمبر 2007 مفهومًا إيجابيًا للعلمانية.
ففي معرض لقاء في بازيليك القديس يوحنا في اللاتران صرح نيكولا ساركوزي أولاً أن العلمانية لا تستطيع أن تفصل فرنسا عن جذورها المسيحية. ولكمّ ينطبق هذا الأمر على إيطاليا!!
وقد شدد ساركوزي في كلمته على أن الأديان ليست خطرًا بل موردًا للدولة وأن استئصال الجذور يعني حتمًا ضياع المعنى، وإضعاف أرضية الهوية الوطنية وإسقاط الجفاء على العلاقات الاجتماعية التي هي بحاجة ماسة لرموز ذاكرة الماضي.
وفي 12 سبتمبر 2008 طرح البابا بندكتس السادس عشر، في معرض لقائه مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والفعاليات السياسية الفرنسية في قصر الإليزي في باريس، خلال زيارته إلى فرنسا، مفهومًا جديدًا للعلمانية الإيجابية معتبرًا أنه مع تغيير الأزمنة بات مفهوم العلمانية يحتاج إلى مراجعة وتجديد لأن الإنسان المعاصر يعي أهمية الأديان في صياغة أخلاق وشخصيات الأفراد والمجتمعات.
وقال أنه “من الضروري التوصل إلى وعي أوضح للدور الذي لا بديل عنه الذي يلعبه الدين في تنشئة الضمائر وللإسهام الذي تقدمه، مع عناصر أخرى،
في خلق إجماع خلقي أساسي في المجتمع”.
وذكّر البابا إلى أن الكثير من المفكرين الفرنسيين توقفوا للتفكير حول العلاقات بين الكنيسة الدولة. وذكّر بأن المسيح قدّم “مبدأ حل عادل لمشكلة العلاقات بين الإطار السياسي والإطار الديني عندما أجاب على سؤال طُرح عليه: “أعطوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله” (مر 12، 17).
وعبر بندكتس السادس عشر حيننها عن قناعته أنه في هذا المنعطف التاريخي حيث “تتلاقى الثقافات أكثر فأكثر”، بات ضروريًا “التفكير مجددًا بالمعنى الحق للعلمانية وبأهميتها”.
وشرح أنه “من الضروري التشديد على التمايز بين السياسة والدين لضمان حرية المواطنين الدينية ومسؤولية الدول تجاههم من جهة”، ولكن من جهة أخرى، “من الضروري التوصل إلى وعي أوضح للدور الذي لا بديل عنه الذي يلعبه الدين في تنشئة الضمائر وللإسهام الذي تقدمه، مع عناصر أخرى، في خلق إجماع خلقي أساسي في المجتمع”.
ورحب في تلك الفترة رئيس مجلس أساقفة اسبانيا الكاردينال أنطونيو ماريا روكو بتصاريح البابا بندكتس السادس عشر بشأن “العلمانية الإيجابية”، معتبرًا أن هذه العلمانية يجب أن تطبع علاقات الكنيسة مع الجماعات السياسية والاجتماعية.
وبالإشارة إلى العناصر التي تكون هذه العلمانية الإيجابية، قال روكو: “هي حرية الأهل في تربية أولادهم، وهي الاستقلالية الصحيحة للأمور الزمنية، وهي أيضًا موقف خدمة نحو الشخص البشري وحماية لحقوقه وبحث مشترك عن الخير العام”.