فويرباخ: تعويض البشرية عن ألوهتها المنفية: الشعور بالنقص والدين

أسطورة التقدم الأفقي (3)

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

بقلم روبير شعيب

الفاتيكان، الاثنين 31 أغسطس 2009 (Zenit.org). – لا بد لنا، إذا ما ألقينا نظرة إلى كتابات لودفيخ فويرباخ، أن نتأثر ببساطة تعبيره، وأسلوبه الذي يقارب ببساطته وإيجازه البساطة الإنجيلية! ومع ذلك، فتاريخيًا، يشكل فويرباخ المعلم الكبير لكبار ملحدي عصرنا مثل ماركس، نيتشه، وأيضًا سارتر؛ ولذا من الضرورة بمكان أن نتوقف على اعتبار فكره وكتاباته، لأنه انطلاقًا من تفاؤله الأنثروبولوجي، ومن “دينه الإنساني” يمكننا أن نحوز على بعض المفاتيح التفسيرية لقراءة وفهم المفكرين اللاحقين.

لقد اعتبر فويرباخ أن رسالته الحيوية هي البحث المعمق في جوهر الظواهر الدينية لإعطاء الإنسان عظمته السليبة، التي نسبها خطأً إلى إله خيالي. سنسلط الضوء على بعدين في نظرة فويرباخ: الشعور بالنقص والدين، والإسقاط (proiezione) والدين.

 

الشعور بالنقص والدين

يصل فويرباخ إلى الأنسية وإلى الطبيعية التي تميز مذهبه من خلال انتقاد الدين. إذا ما أردنا أن نتخيل صيغته لآية التكوين (1، 26)، يمكننا أن نراها هكذا: “خلق الإنسان الله على صورته فمثاله”. يتبنى فويرباخ نتائج التجريد العقلي [راجع الأقسام السابقة من المقالة]، ولكنه يقوم بخطوة إضافية إلى الأمام مصرحًا أن سر الله ليس إلا سر الإنسان المنفي عن ذاته. ولذا لا يكتفي فويرباخ بصياغة ديانة متحررة من هيكليات الأسرار والوقائع الغامضة، كما فعل كانت ودي شربوري، وتولاند وسبينوزا، ولكنه يقوم بنقد أكثر جذرية فيقول أن الدين هو الوهم الأكبر الذي يستطيع الإنسان أن يخدع نفسه به، ويأخذ على عاتقه مسؤولية “إيجاد سر اللاهوت في الانثروبولوجيا”.

هناك بعد هام في فويرباخ وهو تسليط الضوء على البعد “العاطفي” للدين. فبحسب الفيلسوف الألماني، الله لا يأتي أولاً كجواب على حاجة معرفة، بل يعبر في المقام الأول عن وجهة نظر عملية وشخصانية: يعبّر عن “التوق إلى الخلاص”.

تحت تأثير المذهب التقوي البروتستانتي (pietismo protestante)، يشدد فويرباخ على العاطفة أو الإحساس (بالألمانية: das Gefühl) كحاسة الدين. ويصرح أن جوهر سر الله ليس إلا جوهر الإحساس والشعور البشري.

إذا أخرجنا أطروحة فويرباخ هذه من إطارها التهجمي والعدائي، المناهض لله وبشكل خاص للمسيحية، لاحظنا أن فكر فويرباخ يعبر عن حدس عميق لأمور باتت بديهية لدى الكثير من اللاهوتيين، أعني أهمية البعد العاطفي في الخبرة الدينية. لقد تحدث عن هذا البعد مفكرون كثيرون نذكر من بينهم باسكال وشلايرماخر (Schleiermacher)، وفي الزمن المعاصر (بيار أنجلو سيكويري، جورجيو ماتزانتي، فرنشسكو بيلوني، مايكل بول غالاغر…).

ولكن ما يلقي وشاحًا قاتمًا على اكتشاف فويرباخ هو طابعه السلبي الذي لا يرى في الشعور أو العاطفة في الدين بعدًا إيجابيًا بل بعدًا انسلابيًا (alienazione). فبحسب الفيلسوف، يدخل الشعور في حقل الدين بطريقتين: أولاً كـ “رغبة بالإشباع”، وثانيًا كـ “علاقة اتكالية” على قوى فائقة قادرة أن تشبع الرغبات. هذا الاتكال هو منبع “الانسلاب” الذي هو الدور الكبير الذي يلعبه الدين في حياة الإنسان.

يعطي فويرباخ دورًا هامًا للبعد السيكولوجي في تحليله للدين بدل الانكباب على التحليل العقلي والأخلاقي الذي رأيناه في مفكري القرنين اللذين سبقاه. فالانسلاب هو أن يختبر الإنسان أنه “محروم من أمر هو خاصته ومن جوهره أصلاً، وذلك لصالح واقع وهمي” (J. Daniélou, “La foi en l’homme chez Marx”, in Chronique sociale de France 1938, 163ss.).

هذا الانسلاب يظهر في واقع حزين حيث “الإنسان الفقير يملك إلهًا غنيًا”، وحيث يضحّي الإنسان بكل عظمة كيانه من أجل هذا الإله. يقول فويرباخ: “في التضحية يظهر جليًا كل جوهر الدين. جوهر التضحية [أو الذبيحة] هو الشعور بالاتكالية – الخوف، والشك بإمكانية النجاح المستقبلي، والندم على الذنوب – ولكن النتيجة، وغاية الذبيحة، هي إمكانية الشعور بالذات – الشجاعة، اللذة، ضمانة النجاح، الحرية والطوباوية” (L. Feuerbach, L’essenza della religione, Roma 1994, 48).

من وجهة النظر اللاهوتية، لا يمكننا إلا أن نرى الصورة الجريحة التي يحملها ويقدمها فويرباخ عن الله. بالطبع، ليس المسؤول الوحيد عن هذه الصورة، فهذه الصورة عن الله هي صورة قدمها ويقدمها الكثير من المسيحيين واللاهوتيين الذين يتبعون – بعلمهم أو بجهلهم – ما يسميه الأب فرنسوا فاريون اليسوعي “روحانية المذبحة” (spiritualité du massacre)، حيث يضحي الله مغتصب حياة الإنسان، بدل أن يكون نبعها الزاخر.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير