بقلم روبير شعيب
الفاتيكان، الخميس 2 سبتمبر 2010 (Zenit.org). – إن ما استعرضناه في القسم السابق من هذه المقالة يعكس ما يقال عادة عن الكنيسة، في نظرة يمكننا أن نصفها دون حرج بـ “السطحية”. ولكننا نعرف جيدًا أن “نِصْف الخلافات في العالم هي لفظية؛ ولو كان ممكنًا توضيحها لانتهت على الفور” (1). ولذا للحديث عن الكنيسة بشكل أكثر منطقية ومنهجية لا بد لنا أن نقوم بمسيرة حكيمة وبطيئة للتقرب أكثر فأكثر إلى جوهر الكنيسة.
سنستعين في مسيرتنا هذه بمرشدين مميزين ترجموا بأمانة رسالة الكتاب المقدس: آباء الكنيسة. إن فكرهم بشأن الكنيسة لم يكن مبنيًا على التحديدات المبهمة بل على صور وتشابيه تساعد على التقرب من سر الكنيسة دون حصره في عبارات فارغة.
من بين تعاريف الكنيسة في الفكر الآبائي نجد تركيبة مليئة بالمفارقات لا تبرح تشكك من يسمعها وتدعوه إلى التعمق، أقصد تعريف القديس أمبروسيوس من ميلانو الذي يتحدث عن الكنيسة فيصفها بـ “البغي الطاهرة” أو “الزانية الطاهرة” (Casta Meretrix). الكنيسة هي طاهرة لأجل رأسها يسوع المسيح، وهي مشعة بالجمال في قديسيها الذين يطابقون المسيح، ولكن في الوقت عينه هي زانية، هي بغي لأجل خطايا أبنائها الذين، رغم انتمائهم للمسيح، هم بعيدون عنه في قلوبهم.
إن النظرة الأبائية للكنيسة تتجاوز النظرة البشرية المحض. ففي المخيلة العامة، وفي اعتبار بشري بحت، الكنيسة هي البابا أو الإكليروس أو الرهبان والراهبات، وهناك من يختزل هذه الفئة خطأً بمن لا يقدم شهادة مناسبة للحياة المسيحية. لنا في هذا الأمر مثال في قضية الاعتداءات الجنسية على الأطفال من قبل الإكليروس. يبدو وكأن وسائل الإعلام تعمم خبر فساد بعض المكرسين على جميعهم. أما تعريف أمبروسيوس فلا يقسم الكنيسة بين إكليروس وعلمانيين، بل بين من يعيش لأجل الله ومن يعيش ضد الله. يبين هذا التعريف الوجهَ الإلهي-الإنساني للكنيسة ويكشف كيف أنه في قلب الكنيسة الواحدة تعيش القداسة والخطيئة معًا.
القديس أغسطينوس، في حديثه عن الكنيسة، يصرح بأنها في حجها الأرضي تعيش “بين اضطهادات العالم وتعزيات الله” (2). من الأهمية بمكان أن نعي أن الاضطهادات التي تعاني منها الكنيسة لا تأتي فقط من الخارج بل بشكل خاص من داخل الكنيسة من “عدم الأمانة – بحسب ما يقول يوحنا بولس الثاني – التي من خلالها ألقى العديد من أبناء الكنيسة الظل على وجهها، وجه عروسة المسيح” (3). الاضطهاد الذي تعانيه الكنيسة هو عدم الأمانة لدعوة المسيح. وهذا الأمر قد عبّر عنه بشكل واضح البابا بندكتس السادس عشر عندما زار مؤخرًا البرتغال، وبالتحديد مزار السيدة العذراء في فاطيما. قال البابا للصحفيين في معرض رحلته إلى ليشبونة في 12 مايو 2010: “إن الاضطهاد الأكبر الذي تعيشه الكنيسة لا يأتي من الأعداء الخارجيين، بل يولد من الخطيئة في الكنيسة” (4).
ولكن الأمر الأهم هو أن هذه “البغي الطاهرة” هي العروسة التي اختارها المسيح، وأحبها وبذل نفسه لأجلها. ومثل البغي زوجة النبي هوشع، كذلك يجذب المسيح الكنيسة إلى الصحراء ويحاكي قلبها (هو 2، 16)، ويجعلها مقدسة وبلا عيب في حضرته (راجع أف 5، 27) فتضحي “سفينة الخلاص” أكبر وأعظم من سفينة نوح (هذه أيضًا هي صورة عزيزة على قلب بعض آباء الكنيسة).
هذا ويرى بعض الآباء في الكنيسة رمز “سر القمر” نسبة للشمس (mysterium lunae). فكما أن القمر لا يشع بنوره الخاص بل يعكس نور الشمس، كذلك نور القداسة الذي يشع على وجه الكنيسة ليس خاصتها بل هو إشعاع نعمة ومجد المسيح الذي أفاض على الكنيسة بهاء وجهه.
(1) Cf. J.H. Newman, «Quindici sermoni all’università di Oxford», in Id., Scritti filosofici, Milano 2005, 377.
(2) Agostino, De civitate Dei 18,51; CSEL 402,354 (PL 41,614)
(3) Cf. Giovanni Paolo II, Lettera Apostolica «Novo millenio ineunte», 6.