روما، الخميس 16 سبتمبر 2010 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي التعليم الذي تلاه البابا بندكتس السادس عشر نهار الأربعاء خلال المقابلة العامة في قاعة بولس السادس في الفاتيكان.
***
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
إن إحدى القديسات المحبوبات كثيراً هي من دون شك القديسة كلارا الأسيزية التي عاشت في القرن الثالث عشر وعاصرت القديس فرنسيس. شهادتها تظهر لنا كيف تدين الكنيسة جمعاء لنساء شجاعات وممتلئات بالإيمان مثلها، وقادرات على إعطاء دفع حاسم لتجدد الكنيسة. إذاً، من كانت كلارا الأسيزية؟ للإجابة عن هذا السؤال، لدينا مصادر موثوقة: ليس فقط السير الذاتية القديمة، كسير توماس دا تشيلانو، بل أيضاً وثائق دعوى التقديس التي رعاها البابا بعد مرور أشهر قليلة فقط على وفاة كلارا، والتي تشمل شهادات الذين عاشوا إلى جانبها خلال فترة طويلة.
ولدت القديسة كلارا سنة 1193 في عائلة أرستقراطية ثرية. رفضت شرف النسب والثراء لتعيش في تواضع وفقر معتمدة أسلوب الحياة الذي اقترحه فرنسيس الأسيزي. وعلى الرغم من أن والديها كانا يخططان لزواجها من شخصية مهمة في الثامنة عشرة من عمرها، كما كان يحصل آنذاك، فقد غادرت كلارا المنزل الأبوي من خلال بادرة جريئة ومستلهمة من رغبة عميقة في اتباع المسيح ومن إعجابها بفرنسيس، وانضمت سراً برفقة صديقتها بونا دي غويلفوشيو إلى الإخوة الأصاغر في كنيسة بورتيونكولا الصغيرة. وقد حصل ذلك مساء أحد الشعانين سنة 1211. وسط انفعال شامل، حصلت حركة رمزية للغاية: ففيما كان رفاقها يحملون في أياديهم مشاعل مضاءة، قص لها فرنسيس شعرها وارتدت كلارا ثوباً تكفيرياً مصنوعاً من الكتان الخشن. منذ ذلك الحين، أصبحت عروس المسيح العذراء المتواضعة والفقيرة، وكرست ذاتها له بالكامل. على غرار كلارا ورفيقاتها، افتتنت نساء كثيرات على مر الزمن بمحبة المسيح الذي ملأ قلوبهن بجمال شخصه الإلهي. وبواسطة الدعوة العرسية الرمزية للعذراوات المكرسات، تظهر الكنيسة ما ستكون عليه دوماً: عروس المسيح الجميلة والطاهرة.
إن إحدى الرسائل الأربع التي أرسلتها كلارا للقديسة أغنيس من براغ، ابنة ملك بوهيميا التي أرادت السير على خطاها، تتحدث عن المسيح، عريسها الحبيب، بعبارات عرسية قد تبدو مفاجئة لكنها مؤثرة: “فيما تلمسنه، تصبحن أكثر نقاءً، وعندما يفتنكن، تصبحن عذراوات. سلطته أقوى، سخاؤه أكبر، مظهره أجمل، محبته أكثر عذوبة، وسحره أجمل. هو يضمكن بين ذراعيه، هو الذي زين صدركن بالأحجار الكريمة… هو الذي وضع على رأسكن إكليلاً من الذهب يبرز رمز القداسة” (الرسالة الأولى: FF، 2862).
في بداية تجربتها الرهبانية تحديداً، لم تجد كلارا في فرنسيس الأسيزي فقط معلماً يمكنها اتباع تعاليمه، وإنما وجدت فيه أيضاً صديقاً أخوياً. تشكل الصداقة بين هذين القديسين جانباً بغاية الروعة والأهمية. ففي الواقع، عندما تلتقي روحان نقيتان وملتهبتان بمحبة المسيح عينها، فهاتان تغرفان من صداقتهما المتبادلة تشجيعاً عميقاً للسير على درب الكمال. الصداقة هي أحد المشاعر البشرية الأكثر نبلاً وسمواً التي تطهرها النعمة الإلهية وتبدلها. وعلى مثال القديس فرنسيس والقديسة كلارا، عاش قديسون آخرون صداقة عميقة على درب الكمال المسيحي منهم القديس فرنسيس دو سال، والقديسة جان فرنسواز دي شانتال. ويكتب القديس فرنسيس دو سال: “من الرائع أن نستطيع أن نحب على هذه الأرض كما نحب في السماء، وأن نتعلم أن نحب بعضنا بعضاً في هذا العالم كما سنفعل في العالم الآخر إلى الأبد. هنا لا أتحدث عن محبة الرأفة لأن هذه يجب أن تكون موجهة لجميع البشر؛ وإنما أتحدث عن الصداقة الروحية التي في إطارها يتبادل شخصان أو ثلاثة التفاني والمودة الروحية ويصبحون روحاً واحدة ” (تمهيد إلى حياة التفاني، III، 19).
بعد تمضية بضعة أشهر لدى جماعات رهبانية، مقاومة ضغوطات عائلتها التي لم توافق في البداية على خيارها، أقامت كلارا وأولى رفيقاتها في كنيسة القديس دميانوس حيث كان الإخوة الأصاغر قد حضروا لهن ديراً صغيراً. عاشت في هذا الدير خلال أكثر من أربعين سنة حتى وفاتها سنة 1253. وصلنا وصف مباشر لطريقة عيش هؤلاء النساء خلال هذه السنوات في بداية الحركة الفرنسيسكانية. إنه تقرير تقديري لأسقف فلمندي هو جاك دو فيتري الذي كان يزور إيطاليا، والذي يقول أنه وجد عدداً كبيراً من الرجال والنساء المتحدرين من كافة الطبقات الاجتماعية الذين “تخلوا عن كل شيء من أجل المسيح، وهربوا من العالم. كانوا يدعون الإخوة الأصاغر والأخوات الصغريات وهم يحظون بتقدير كبير من سيادة البابا والكرادلة… النساء… يقمن معاً في عدة ديار ليست بعيدة عن المدن. لا يتلقين شيئاً بل يعشن من عملهن. وهن يشعرن بالحزن والقلق لأنهن يكرَّمن من قبل الكهنة والعلمانيين أكثر مما يردن” (رسالة أكتوبر 1216: FF، 2205. 2207).
لقد فهم جاك دو فيتري تماماً السمة المميزة للروحانية الفرنسيسكانية التي كانت كلارا متأثرة بها وهي راديكالية الفقر المرتبط بالثقة التامة بالعناية الإلهية. لذلك، عملت بعزم كبير ونالت من البابا غريغوريوس التاسع أو على الأرجح من البابا إنوسنت الثالث ما يسمى بـ Privilegium Paupertatis (امتياز الفقر) (FF، 3279). على أساسه، لم يكن باستطاعة كلارا ورفيقاتها في دير القديس دميانوس الحيازة على أي ملكية مادية. كان ذلك استثناءً بالنسبة للقانون الكنسي المعمول به، وقد قبلت به السلطات الكنسية في تلك الحقبة مقدرة ثمار القداسة الإنجيلية التي اعترفت بها في أسل
وب حياة كلارا وأخواتها. هذا يدل على أن دور المرأة لم يكن ثانوياً بل مهماً حتى خلال القرون الوسطى. في هذا الصدد، لا بد من التذكير بأن كلارا كانت أول امرأة تكتب في تاريخ الكنيسة قانوناً خطياً خاضعاً لموافقة البابا لكي يتم الحفاظ على موهبة فرنسيس الأسيزي ضمن كل الجماعات النسائية التي كانت تتأسس بأعداد كبيرة في زمانها، والتي كانت ترغب في الاستلهام من مثال فرنسيس وكلارا.
في دير القديس دميانوس، مارست كلارا بطريقة بطولية الفضائل التي يجب أن يتميز بها كل مسيحي: التواضع، روح التقوى والتوبة، والمحبة. رغم أنها كانت الرئيسة، إلا أنها أرادت أن تخدم شخصياً الأخوات المريضات فارضة على نفسها أيضاً أعمالاً متواضعة جداً: فالمحبة في الواقع تتخطى كل مقاومة، ومن يحب يبذل كل التضحيات بفرح. كان إيمانها بالحضور الفعلي في سر الافخارستيا كبيراً جداً بحيث تحققت أحداث عجائبية في مناسبتين. فمن خلال عرض القربان المقدس، أبعدت الجنود المرتزقة الشرقيين الذين كانوا على وشك الاعتداء على دير القديس دميانوس واكتساح مدينة أسيزي.
هذه الوقائع، وكعجائب أخرى محفوظة دفعت البابا ألكسندر الرابع إلى تقديسها بعد مرور سنتين فقط على وفاتها أي سنة 1255، ومدحها في قرار التقديس الذي نقرأ فيه ما يلي: “كم هي حية قدرة هذا النور وكم هو قوي وضوح هذا المنبع المنير. حقاً أن هذا النور كان مخفياً في عزلة الحياة الرهبانية، وأن أنواراً مضيئة كانت تشع في الخارج؛ كان محصوراً في دير صغير، وفي الخارج كان ينتشر في عظمة العالم. كان محفوظاً في الداخل ومنتشراً في الخارج. في الواقع أن كلارا كانت متوارية لكن حياتها كانت مكشوفة للجميع. كانت كلارا ساكتة لكن صيتها كان ذائعاً! (FF، 3284). هكذا تجري الأمور أيها الأعزاء، القديسون هم الذين يغيرون العالم نحو الأفضل، ويبدلونه بطريقة مستديمة، باعثين الطاقات التي وحدها المحبة المستلهمة من الإنجيل قادرة على إحداثها. القديسون هم أعظم المحسنين إلى البشرية!
إن روحانية القديسة كلارا، خلاصة عرضها للقداسة، مجموعة في الرسالة الرابعة للقديسة أغنيس من براغ. تلجأ القديسة كلارا إلى صورة كانت شائعة جداً في القرون الوسطى، صورة المرآة التي كانت متجذرة في الآبائيات. وتدعو صديقتها من براغ إلى النظر في مرآة كمال كل فضيلة التي هي الرب عينه. وتكتب: “طوبى للتي تمنح هبة المشاركة في الوليمة المقدسة لتتحد من صميم قلبها مع المسيح، مع من تتأمل جماله كافة الأجواق السماوية من دون انقطاع، مع من تعتبر صداقته مؤثرة، والتأمل به مغذياً، وعطفه عظيماً، وعذوبته شافية، وذكراه مشعة، وعطره قادر على إحياء الموتى، ورؤيته في المجد قادرة على إسعاد سكان أورشيلم العليا. كل ذلك لأنه بهاء المجد الأبدي، صفاء النور الأزلي والمرآة الخالية من العيوب. في هذه المرآة، تأملي يومياً أيتها الملكة، عروس يسوع المسيح، ولا تتوقفي عن التأمل فيها بمظهرك لكي… تتمكني من التزين من الداخل والخارج بشكل ملائم… في هذه المرآة يشع الفقر المبارك والتواضع المقدس والمحبة الفائقة الوصف” (الرسالة الرابعة: FF، 2901-2903).
إني إذ أشكر الله الذي يعطينا قديسين يخاطبون قلوبنا ويقدمون لنا مثالاً يحتذى به عن الحياة المسيحية، أود أن أختم بكلمات التبريك التي ألفتها القديسة كلارا لأخواتها والتي ما تزال حتى اليوم محفوظة بتفان من قبل راهبات الكلاريست اللواتي يؤدين دوراً هاماً في الكنيسة من خلال صلواتهن وعملهن. هذه الكلمات ينبثق منها حنان أمومتها الروحية: “أبارككم في حياتي وبعد مماتي، بقدر ما أستطيع وأكثر، بكل البركات التي يبارك بها أب المراحم الأبناء والبنات في السماء وعلى الأرض، والتي يبارك بها أب وأم روحيان أبناءهم وبناتهم الروحيين. آمين” (FF، 2856).
عقب المقابلة العامة، وجه البابا دعوة من أجل السلام في جنوب آسيا فقال:
إنني أتابع بقلق الأحداث الجارية خلال هذه الأيام في مختلف مناطق جنوب آسيا وبخاصة في الهند وباكستان وأفغانستان. أصلي من أجل الضحايا وأرجو أن يتغلب احترام الحرية الدينية ومنطق المصالحة على البغض والعنف.
نقلته إلى العربية غرة معيط (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2010