أذهب بشجاعة وفرح عظيمين”
على متن الطائرة البابوية، الجمعة 17 سبتمبر 2010 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي مضمون المؤتمر الصحفي الذي عقده بندكتس السادس عشر على متن الطائرة البابوية التي أقلته يوم أمس إلى إدنبره الاسكتلندية. تولى طرح الأسئلة الأب اليسوعي فديريكو لومباردي، مدير دار الصحافة الفاتيكانية.
***
الأب لومباردي: صاحب القداسة، أهلاً وسهلاً بكم بيننا وشكراً لكم على إصغائكم. نحن مجموعة من 70 صحافياً وقد حضرنا من مختلف أنحاء العالم؛ وبطبيعة الحال جاء البعض من المملكة المتحدة لينضموا إلينا. كالعادة، وخلال الأيام الأخيرة، اقترح زملائي أسئلة مختلفة نطرحها عليكم خلال أول حديث لكم في بداية رحلة متطلبة ومنتظرة منذ وقت طويل، رحلة نتمنى أن تكون رائعة. لقد اخترت مجموعة من الأسئلة من بين تلك المقترحة. سأطرحها بالإيطالية لكي لا أتعبكم كثيراً، وسيساعد الصحافيون بعضهم البعض إن كانوا لا يتقنون جيداً اللغة الإيطالية.
السؤال الأول: خلال التحضيرات لهذه الزيارة كانت هناك نقاشات ومواقف متناقضة. وفي تاريخ البلاد الماضي كانت هناك مواقف قوية مناهضة للكاثوليكية. هل أنتم قلقون بشأن طريقة استقبال البلاد لكم؟
البابا: في البداية، أصبحكم بالخير وأتمنى لكم جميعاً رحلة موفقة.
لست قلقاً أبداً. عندما قمت بزيارة فرنسا، قيل أن ذلك البلد كان الأكثر عدائية للإكليروس، وذات عدد ضئيل من المؤمنين؛ وعندما قمت بزيارة الجمهورية التشيكية، قيل أنها البلاد الأكثر ابتعاداً عن الدين ومعاداة للإكليروس، وهكذا، في كل الدول الغربية – كل واحدة بحسب تاريخها – تيارات معادية للإكليروس وللكاثوليكية، ولكن فيها في الوقت عينه حضور إيماني كبير. لقد عشت واختبرت في الجمهورية التشيكية وفي فرنسا استقبالاً حاراً من قبل الجماعة الكاثوليكية، وانتباهاً كبيراً من قبل الملحدين، الذين يبحثون عن القيم التي تدفع بالبشرية قدماً، وكانوا مركزين انتباههم ليسمعوا مني كلمة بهذا الشأن، كما ولاحظت أيضاً تسامح واحترام من هم مقاومون للكاثوليكية. لبريطانيا بالطبع تاريخها الخاص ضد الكاثوليكية، وهذا واضح، ولكنها أيضاً بلد يتمتع بتاريخ كبير من التسامح. ولهذا فأنا متأكد من أنه سيكون هناك استقبال إيجابي من قبل الكاثوليك والمؤمنين بشكل عام، وانتباه من قبل من يبحثون عن السبيل للمضي قدماً في زمننا، وعن الاحترام والتسامح المتبادلين حيث توجد معاداة للكاثوليكية. أقوم بزيارتي بشجاعة وفرح كبيرين.
السؤال الثاني: كعدد كبير من البلدان الغربية، تعتبر بريطانيا بلداً علمانياً؛ هناك حركة إلحاد قوية تنطلق من دوافع ثقافية. مع ذلك، هناك علامات تشير إلى أن الإيمان الديني، بخاصة بيسوع المسيح، ما يزال حياً على الصعيد الشخصي. ماذا يعني ذلك بالنسبة للكاثوليك والأنغليكان؟ ما السبيل لتكون الكنيسة مؤسسة ذات مصداقية وجاذبية أكبر؟
بندكتس السادس عشر: أقول أن الكنيسة التي تسعى أولاً إلى أن تكون جذابة تسير على المسار الخاطئ. لأن الكنيسة لا تعمل لذاتها ولا تعمل لزيادة أعدادها وقدرتها. الكنيسة هي في خدمة الآخر، وهي لا تخدم ذاتها. هي ليست موجودة لتكون هيئة قوية بل تخدم لتنقل إعلان يسوع المسيح، الحقائق العظيمة، قدرات المحبة والمصالحة الهائلة التي ظهرت في هذا الشخص والتي تنبثق دوماً من حضور يسوع المسيح.
من هذا المنطلق، لا تسعى الكنيسة وراء جاذبيتها الخاصة، وإنما يجب أن تكون شفافة ليشع فيها يسوع المسيح. وكلما لم تكن لذاتها كهيئة قوية في العالم، بل كانت ببساطة صوت الآخر، كلما أصبحت فعلاً شفافة لصورة المسيح الرائعة وللحقائق العظيمة التي نقلها للبشرية، قوة المحبة. إن كانت على هذا النحو، يتم الإصغاء إليها وقبولها.
يجب ألا تفكر الكنيسة بذاتها بل يجب أن تساعد على التفكير في الآخر، وينبغي عليها أن ترى الآخر وتتحدث عنه ولأجله. في هذا الصدد، يبدو لي أن الأنغليكان والكاثوليك يجب أن يؤدوا المهمة عينها ويسيروا بالاتجاه عينه. إن رأى الأنغليكان والكاثوليك أنهم لا يخدمون أنفسهم بل هم أدوات بخدمة المسيح، صديق العريس، كما يقول القديس يوحنا، إن اتبعوا معاً أولوية المسيح لا أولويتهم، سيتمكنوا معاً من المضي قدماً. عندها، تجمعهم أولوية المسيح فيتوقفوا عن التنافس في البحث عن عدد أكبر ويجمعهم الالتزام بحقيقة المسيح في هذا العالم ويجدوا أنفسهم في حركة مسكونية حقيقية ومثمرة.
س: شكراً صاحب القداسة. السؤال الثالث: من المعروف أن الاستطلاعات الأخيرة أظهرت أن فضيحة الاعتداءات الجنسية زعزعت ثقة المؤمنين بالكنيسة. كيف ستتمكنون برأيكم من الإسهام بإعادة هذه الثقة؟
بندكتس السادس عشر: يجب أن أقول أولاً أن هذه الفضائح شكلت صدمة لي وسببت لي حزناً شديداً؛ فمن الصعب فهم إمكانية إفساد الخدمة الكهنوتية. عند السيامة، يعبر الكاهن الذي خضع لتنشئة دامت سنوات عديدة استعداداً لهذه اللحظة عن قبوله بالمسيح ليكون صوته ويديه ويخدمه بحياته بأكملها ليكون الراعي الصالح المحب والمساعد والمرشد إلى الحقيقة حاضراً في العالم. من هنا يصعب علينا أن نفهم كيف توصل رجل قام بهذه الأمور وقالها إلى الوقوع في هذا الفساد. هذا أمر محزن جداً، والمحزن أيضاً هو أن السلطة الكنسية لم تكن متيقظة كفاية، وسريعة كفاية، وحازمة في اتخاذ التدابير الضرورية.
لذلك كله، نحن نعيش زمن تكفير وتواضع وصدق متجدد كما كتبت إلى أساقفة إيرلندا. يبدو لي أنه ينبغ
ي علينا الآن أن نلتزم بفترة من التكفير، فترة من التواضع، وأن نجدد الصدق المطلق ونتعلمه من جديد.
وبشأن الضحايا، أقول أن هناك ثلاثة أمور مهمة. النقطة الأولى متعلقة بالضحايا: كيف نعوض لهم؟ كيف نساعد هؤلاء الأشخاص على تخطي هذا الجرح، وإعادة اكتشاف الحياة، واستعادة الثقة برسالة المسيح؟ الاهتمام بالضحايا هو الأولوية الأولى بالمساعدات المادية والنفسية والروحية.
النقطة الثانية تكمن في مشكلة المذنبين: العقوبة الصحيحة القائمة على منعهم من التواصل مع الشباب لأننا نعلم أن ذلك مرض، وأن الإرادة الحرة لا تعمل في ظل هذا المرض؛ لذلك، يجب أن نحمي هؤلاء الأشخاص من أنفسهم ونجد السبيل لمساعدتهم ومنعهم من التواصل مع الشباب.
والنقطة الثالثة هي الوقاية والتربية في اختيار المرشحين للكهنوت، الحذر بقدر ما تسمح لنا طاقاتنا البشرية لمنع حدوث حالات مستقبلية. والآن أود أيضاً أن أشكر الأبرشية البريطانية على اهتمامها وتعاونها مع كرسي القديس بطرس ومع كيانات عامة، وعلى اهتمامها بالضحايا وبالقانون. يبدو لي أن الأبرشية البريطانية قامت وما تزال تقوم بعمل عظيم، لذا أنا ممتن لها كثيراً.
س: صاحب القداسة، إن شخصية الكاردينال نيومان مهمة جداً لكم. وبالنسبة للكاردينال نيومان، فأنتم ستترأسون استثنائياً تطويبه. هل تعتقدون أن ذكراه قد تساعد على تخطي الانقسامات بين الأنغليكان والكاثوليك؟ وما هي الجوانب التي ترغبون في التشديد عليها في شخصيته؟
بندكتس السادس عشر: من جهة أولى، نيومان هو أولاً رجل عصري عاش مشكلة العصرية كلها، وعاش أيضاً مشكلة اللاأدرية، مشكلة استحالة التعرف إلى الله والإيمان. إنه رجل كان يقوم خلال حياته كلها برحلة ليسمح لذاته بأن يتبدل بالحقيقة خلال بحث عن صدق عظيم واستعداد كبير لمعرفة وإيجاد وقبول الدرب التي تمنح الحياة الحقيقية. هذه العصرية الداخلية لحياته تتضمن عصرية إيمانه. إنه ليس إيماناً بصيغ أزمنة غابرة بل إيماناً شخصياً عاشه وقاساه ووجده في رحلة طويلة من التجدد والاهتداء. هو رجل واسع المعرفة يشاركنا من جهة في ثقافة الشك الحالية، في إمكانية أن نكون واثقين بفهمنا لحقيقة الإنسان، وكيفية التقائنا في هذه الحقائق. إنه رجل يتحلى بمعرفة واسعة بآباء الكنيسة، رجل درس وجدد أصل الإيمان وهبته، مدركاً بذلك الشخصية الداخلية. كان رجلاً تميز بروحانية عظيمة ومحبة كبيرة للبشرية، رجل صلاة وعلاقة وثيقة مع الله وعلاقة وثيقة أيضاً مع معاصريه.
لذلك، أذكر ثلاثة عناصر في حياته: عصرية وجوده مع كافة شكوك ومشاكل وجودنا الحالي، معرفته الواسعة بكنوز ثقافة البشرية العظيمة، واستعداده لبحث دائم وتجدد ثابت؛ والروحانية، الحياة الروحية مع الله. هذه العناصر تعطي هذا الإنسان عظمة استثنائية في زماننا، ولذلك فهو أحد ملافنة الكنيسة لنا وللجميع، وجسراً بين الأنغليكان والكاثوليك.
س: السؤال الأخير. تعتبر هذه الزيارة زيارة دولة. وهي تصنف على هذا النحو. ما أهمية هذه الزيارة للعلاقات بين الكرسي الرسولي والمملكة المتحدة. هل هناك اتفاقات مهمة مع السلطات الانكليزية لمواجهة التحديات الراهنة الكبيرة؟
بندكتس السادس عشر: أنا ممتن لجلالة الملكة إليزابيث الثانية التي أرادت تصنيف هذه الزيارة كزيارة دولة، والتعبير عن الطابع العام لهذه الزيارة، وعن المسؤولية المشتركة للسياسة والدين تجاه مستقبل القارة، ومستقبل البشرية. هذا يدل على المسؤولية المشتركة العظيمة لكي تتحد في زماننا القيم التي تخلق العدالة والسياسة وتنبثق عن الدين. لكن الواقع الذي يكشف قانوناً بأنها زيارة دولة لا يجعل من زيارتي حدثاً سياسياً، فإن كان البابا رئيس دولة، فذلك فقط سبيل لضمان استقلال إعلانه والطابع العام لعمله الرعوي. من هذا المنطلق، تبقى زيارة الدولة بشكل أساسي زيارة رعوية أي زيارة بمسؤولية الإيمان الذي يوجد الحبر الأعظم، البابا، لأجله.
وتصنيف زيارة الدولة يلفت الانتباه تحديداً إلى نقاط التوافق بين المصالح السياسية والدينية. فالسياسة تسعى فعلياً لضمان العدالة وضمان الحرية من خلال العدالة. لكن العدالة هي قيمة أخلاقية ودينية، وبالتالي فإن المجاهرة بالإيمان مرتبطة بالسياسة في مجال العدالة. من هنا، تنبثق المصالح المشتركة. لبريطانيا العظمى تجربة واسعة ونشاط واسع النطاق في مكافحة شر هذا الزمن المتمثل في البؤس والفقر والأوبئة والمخدرات – وكل هذا الكفاح ضد البؤس والفقر وأشكال استرقاق الإنسان هو أيضاً هدف الإيمان لأنه هدف أنسنة الإنسان ليستعيد صورته المشابهة لصورة الله بدلاً من الدمار.
المهمة المشتركة الثانية هي الالتزام بالسلام في العالم والقدرة على العيش في سلام، التربية على السلام، وذلك في سبيل إيجاد الفضائل التي تعطي الإنسان القدرة على السلام. ختاماً، العنصر الأساسي في السلام هو الحوار بين الأديان، التسامح، وانفتاح الإنسان على الآخر. وهذا يعتبر هدفاً بالغ الأهمية لبريطانيا العظمى كمجتمع، وللإيمان المسيحي: انفتاح القلب، الانفتاح على الحوار، وبالتالي الانفتاح على الحقيقة، على مسار البشرية المشترك وعلى إعادة اكتشاف القيم التي تشكل أساس أنسيتنا.
نقله إلى العربية طوني عساف وغرة معيط (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2010