* * *
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،
نبدأُ اليوم بحسب الليتورجيا الزمنَ الأربعيني برتبة وضع الرماد، والتي نريدُ من خلالها الالتزام باهتداء قلوبنا إلى أُفق النعمة. بالعموم، وبحسب الرأي الغالب، يتعرّضُ هذا الزمن لخطر ارتباطه بالحزن وغبر الحياة، بينما يشكّلُ بالعكس نعمةً ثمينة من الله، وزمنًا قويًا ومكثفًّا بالمعاني في مسيرة الكنيسة، ورحلةً نحو قيامة الرب. تقدّمُ لنا القراءاتُ الكتابية لهذا اليوم مؤشرات لعيش ملأ هذه الخبرة الروحية.
“ارجعوا إليّ بكلّ قلوبكم” (يوئيل 2، 12). في القراءة الأولى المُستقاة من سفر النبي يوئيل، سمعنا هذه الكلمات التي يدعو الله من خلالها الشعبَ العبراني إلى التوبة الصادقة غير الظاهرية. إذ ليس هو اهتداءٌ سطحي ومؤقّت، بل رحلة روحية تمسّ في العمق مواقفَ الضمير وتعرضُ دعوةً صادقة للاعتراف. ويأخذُ النبي من جرح غزو الجراد الذي هجمَ على الشعب ودمّر المحاصيل، فرصةً ليدعو إلى توبةٍ داخلية، إلى تمزيق القلب وليس الثياب (راجع 2، 13). هذا يعني اتّخاذ موقف الاهتداء الحقيقي إلى الله – العودة إليه – دومًا، والاعتراف بقداسته وقدرته وسلطانه. وهذا الاهتداء ممكن لأن الله غنيٌ بالرحمة وعظيمٌ في المحبة، رحمتُهُ متجددة تخلقُ فينا قلبًا نقيًا وتجددُ في الأعماق روحًا ثابتًا فتردُّ إلينا فرحَ الخلاص (راجع مزمور 50، 14). الله، كما يقولُ النبي، لا يريدُ موتَ الخاطئ، بل أن يتوب ويحيا (راجع حزقيال 33، 11). هكذا يأمرُ النبي يوئيل باسم الربّ أن يُقامَ جوّ توبةٍ لائق: فيُنفَخَ بالبوق، ويُدعى إلى الاجتماع، وتوقظٌ الضمائر. وفترة الزمن الأربعيني تعرضُ علينا هذا الجوّ الليتورجي والتوبوي: مسيرة أربعين يومًا حيث يُعاشُ بفعّالية حبّ الله الرحوم. اليومُ يرنّ في آذاننا النداءُ “عودوا إليّ من كلّ قلوبكم”؛ نحنُ مدعوون اليوم لهداية قلوبنا إلى الله مدركين دومًا عدم قدرتنا على الاهتداء لوحدنا وبقدراتنا، لأنّ الله هو مَن يهدينا. فلا زالَ يَعرضُ علينا غفرانه، ويدعونا للرجوع إليه ليمنحنا قلبًا جديدًا، مطهَّرًا من الشرّ الذي يرهقه، ليجعلنا نشارك في فرحه. عالمنا بحاجة لأن يهديه الله، بحاجة إلى غفرانه وحبّه، بحاجة إلى قلبٍ جديد.
“نسألكم أن تَدَعوا الله يصالحكم” (2 كورنثوس 5، 20). في القراءة الثانية يقدّم لنا مار بولس عنصرًا آخر في مسيرة الاهتداء. إذ يدعو الرسول إلى لهي النظر عنه ولفت الانتباه إلى مَن دعاه وإلى مضمون الرسالة التي يحملها: “فنحن سفراءُ في سبيل المسيح وكأنّ اللهَ يعظُ بِألسنَتنا. فنَسألُكم بِاسم المسيح أن تدعوا اللهَ يُصالحكم” (المرجع السابق). السفيرُ يعيدُ ما سمعه من سيده ويتكلّم بسلطان وضمن حدود ما استلمه. فليس على مَن يقومُ بمهمّة السفير أن يجذبَ الاهتمام إليه، بل أن يضعَ نفسه في خدمة الرسالة الواجب نقلها وفي خدمة مَن أرسله. هكذا يسلكُ مار بولس في القيام بمهمّته كواعظٍ لكلمة الله وكرسولٍ ليسوع المسيح؛ فهو لا يتراجعُ إلى الوراء أمام المهمّة التي استلمها، بل يمارسها بتفانٍ كامل، داعيًا للانفتاح على النعمة وترك الله يهدينا، فيكتب: “ولمّا كنّا نعملُ مع الله، فإِنّنا نناشدكم ألاّ تنالوا نعمةَ الله لغير فائدة” (2 كور 6، 1). يقولُ لنا التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية إنّ “نداء المسيح إلى الاهتداء لا يزال يدوي في حياة المسيحيين (…) إنّه مهمّة لا تنقطع في الكنيسة كلّها «التي تضمّ خطأة في حضنها» وهي «مقدّسة في آنٍ واحد ومفتقرة دومًا إلى التطهير، ولا تني عاكفة على التوبة والتجدد».
إنّ هذا السعي إلى الاهتداء ليس عملاً بشريًا وحسب، بل هو من وحي “القلب المنسحق” (مزمور 51، 19)، تجذبه النعمة وتحرّكه ليستجيبَ لحبّ الله الشفوق الذي أحبّنا أولاً” (العدد 1428). يتكلّم مار بولس إلى مسيحيي كورنثوس، ولكنه يتوجّه من خلالهم إلى جميع البشر، فالجميع بحاجة إلى نعمة الله لتنير العقل والقلب. ويتابع الرسول: “فها هُوذا الآن وقتُ القبول الحسن، وها هُوذا الآن يومُ الخلاص” (2 كورنثوس 6، 2). يستطيعُ الجميعُ الانفتاحَ على عمل الله وحبّه؛ ولذلك علينا نحن المسيحيين أن نكون رسالةً حيّة من خلال شهادتنا الانجيلية، لا بل أننا في كثيرٍ من الحالات الإنجيلُ الوحيد الذي لا زال البشرُ يقرأونه اليوم. هذه هي مسؤوليتنا إذًا على خطى مار بولس، وهو دافعٌ آخر لعيش الزمن الأربعيني بطريقةٍ لائقة: أداء شهادة الإيمان المُعاش في عالمٍ يشهدُ صعوباتٍ ويحتاجُ للعودة إلى الله وإلى الاهتداء.
“إيّاكم أن تعملوا برّكم بِمرأى من الناس لكي ينظروا إليكم” (متّى 6، 1). يسوعُ في إنجيل اليوم يعيدُ قراءة أعمال الرحمة الرئيسية المكتوبة في شريعة موسى. توسمُ الصدقة والصلاة والصوم اليهوديَ المحافظ على الشريعة. وتعرّضت هذه الشرائع عبرَ الزمن إلى صَدَأ الرسميّة الخارجية إلى درجة أنّها أصبحت علامة تكبّر. لكنّ يسوع يوضّح في أعمال الرحمة الثلاثة هذه رغبةً مشتركة؛ فعندما يُفعَل الخير، تنمو بصورةٍ غريزية الرغبة للتقدير والاعجاب لهذا العمل الحَسَن، أي لامتلاك الرضى. وهذا يجعلنا من جهة ننغلقُ على أنفسنا، ومن جهةٍ أخرى يطرحنا خارجًا عن أنفسنا، لأننا بذلك نعيش مظهرين ذلك الذي يراه الناس فينا ويعجبون به. ومن أجل إعادة تقديم هذه الشرائع، لا يطلبُ الربّ يسوع تقيّدًا رسميًا لشريعةٍ خارجة عن الإنسان وضَعَها مشرّعٌ قاس كحَمَلٍ ثقيل، بل يدعو لاكتشاف أعمال الرحمة الثلاثة هذه وعيشها بعمقٍ كوسائل ليس من أجل حبّ الذات، بل
من أجل حبّ الله وفي مسيرة الاهتداء إليه. الصدقة والصلاة والصوم هم طريق التربية الإلهية التي ترافقنا ليس فقط في الزمن الأربعيني؛ طريقٌ نحو لقاء الربّ القائم؛ طريقٌ نسيره دون مباهاة، بل بثقة أنّ الآب السماوي يعرفُ أن يقرأ ويرى سرّ قلبنا.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، فلنبدأ واثقين وفرحين رحلةَ الزمن الأربعيني. أربعون يومًا تفصلنا عن القيامة، هذا الزمن “القوي” من السنة الليتورجية هو وقتٌ مناسب ممنوحٌ لنا لنعمل بجهدٍ كبير على اهتدائنا، وتعميق الإصغاء إلى كلمة الله، وللصلاة والتوبة، فاتحين القلب لاستقبالٍ طائع للإرادة الإلهية، ولممارسةٍ أكثر سخيّة للتضحيات، والتي بفضلها تتوسّعُ مساعدة القريب المحتاج: رحلة روحية تعدّنا لنعيش السرّ الفصحي.
فلتقدْنا مريم، مرشدتنا في مسيرة الزمن الأربعيني، إلى إدراكٍ أعمق للمسيح، المائت والقائم، ولتساعدنا في كفاحنا الروحي ضدّ الخطيئة، ولتسندنا لنطلبَ بقوّة: “اهدنا إليك يا خلاصنا”. آمين.