بقلم: حبيب محمد هادي الصدر
سفير جمهورية العراق لدى الفاتيكان
الفاتيكان، الاثنين 28 مارس 2011 (ZENIT.org). – (العذراء) (الصدّيقة) (التقية) (الزكيّة) (الشفيعة) تلكم كنىً أرهفت لها سمعي مذ كنت طفلاً، واستعذبتها مداركي يوم درجت صبياً، وأرخيت اليها مشاعري حين نهض عودي وقوي مراسي … فمضيت أقتفي خطو (البتول) وأتمعن في سفرها فإذا بي قد توافرت على باذخات من زهد، ونافحات من عبير. وكلما إصطخب لي موج وإستضرى بي زمان هرعت إليك ــ أم اليسوع ــ لأطوف بين جنباتك الزاكيات … أطلق دعاءاً وأسيل ودّاً نابذا وراء كاهلي المتعب سقمي وضجري وفاقتي. وإذا ما تعالى صراخ الروح طالعني محيّاك الملائكي ليزرع في مهجتي الأمل ويزيح عن خافقي عبأ الضنى واليأس.
ثم جئناك في يوم بشارتك الأغر ننثر ودادنا في بستان أطايبك، نتذوق خبز شمائلك نهز جذع مآثرك ليتساقط الحب والطهر رطباً رسولياً مؤرجا بعبق الفضيلة ومضمخاً بفوح الخلال. ولطالما استوحينا من قصتك دروس الصبر والثبات على الايمان ولكثرما تلمس إسمك (مريم) مجراه بين الحنايا والقلوب وملأ الأسماع والأبصار … هو إسم لم يتعد أربعاً من حروف لكنّه لخّص إرادةً قررتها ملائكة السماء وأرشف منجزاً رسولياً صنع للبشرية كلها خلاصاً لم يكن عنه من محيص. حتى ولادتك كانت إعجازاً فأمك (حنّة) كانت عجوزاً عاقراً وبينما كانت تتفيأ ظلال شجره أبصرت طائراً يطعم فرخه فتحركت في روحها غريزة الامومة فنذرت لربها ان يرزقها ولداً تهبه لخدمة بيت المقدس (ربي اني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني انك السميع العليم) فأستجاب الله دعاءها فحملت ب(مريم) وما لبثت الا قليلا حتى توفي زوج (حنة) واسمه (عمران) .
ولما اولدت بنتاً اعتذرت لربها لأنها رجته ان يرزقها غلاماً يؤدي نذرها (ربّ اني وضعتها انثى والله اعلم مما وضعت وليس الذكر كالانثى واني سميتها مريم واني اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) . وشاء الله ان يتقبل نذرها بمريم ويجعله مباركاً ذاك لانه سبحانه قد ادخر هذه الوليدة لامر عظيم (فتقبل ربها بقبول حسن وانبتها نباتاُ حسناً ) . وما هو الا يسير من الزمن حتى توفيت (حنّة) فأمست مريم يتيمة الوالدين فكفلها النبي (زكريا ) زوج خالتها فعلمها تعاليم الدين ومكارم الاخلاق فنشأت (ع) صالحة عفيفة نقية من المعاصي والذنوب عاكفة على طاعة ربها اناء الليل واطراف النهار فأغدق الله سبحانه عليها بسوابغ من فضله وآتاها الطعام من الغيب (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً . قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هومن عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب).
وبعد ان تقدم زكريا في السن ولم يعد قادراً على خدمة مريم توجه الى بني اسرائيل طالباً منهم كفالتها فتقارعوا فيما بينهم حتى اصبحت من نصيب ابن خالها (يوسف ) النجار فدأب على رعايتها حتى بلغت سن الشباب عندئذ ضريت مريم على نفسها الحجاب واختلت عن الناس حتى ان يوسفاً كان يأتيها بحاجاتها من خلف ستار (اذ انتبذت من اهلها مكاناً شرقيا فأتخذت من دونهم حجاباً) ( يا مريم ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين . يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين). والحق ان الله سبحانه اراد ان يمهد الاجواء الايمانية لهذه الطاهرة لحمل عظيم يغيّر به وجه التاريخ ( فأرسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا. قالت اني اعوذ بالرحمن منك ان كنت تقيا. قال انما انا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيا. قالت أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا. قال كذلك قال ربك هو على هيّن ولنجعله ايةً للناس ورحمة منا وكان امراً مقضيا) وهكذا كانت البشارة الخالدة .
ويصور لنا القرآن المشاق التي تحملتها العذراء في حملها اذ توارت عن انظار قومها كي لا يروا انتفاخ بطنها. ثم ألجأها المخاض الى جذع النخلة وهي وحيدة من غير معين والدموع تملأ ماقيها: ( قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت انساً منسيا) ولكن الله لطف بها اذ قال لها : (وهزي اليك بجذع النخلة فيتساقط عليها الرطب جنيا فكلي واشربي وقرّي عيناً فأما ترين من البشر احداً فقولي اني نذرت للرحمن صوماً فلن اكلم اليوم انسيا) . لقد اوكل الله جل وعلا الدفاع عنها امام قومها الى وليدها اليسوع لينجّي والدته من الشبهة اذ نطق عليه السلام في مهده قائلاً : (اني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني مباركاً اينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا. وبرا بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيا والسلام عليّ يوم ولدت ويوم اموت ويوم ابعث حيا).
وتشير الروايات المسيحية ان مريم عندما جاءتها البشارة من جبرائيل اعلمها ايضاً بأن قريبتها (اليصابات) زوجة زكريا والتي كانت عجوزاً عاقراً قد افاء الله عليها بحمل في شهره السادس وانها ستنجب غلاماً نبيا اسمه (يحيى). كما حدد العهد الجديد مكان البشارة في (الناصرة) ومكان الولادة في (بيت لحم) ويروي ان مريم عندما كبر ابنها اليسوع هاجرت معه برفقة يوسف الى مصر خوفاً عليه من النظام السياسي حينذاك وانها كثفت حضورها في حياته حتى قيامته ثم اختفت اثناء تلك القيامة. الا ان كلا من العهد الجديد والقرآن الكريم قد توافقا على ان مريم نسبها ( داوودي) وأن بشارتها من عند الله وأن حملها من روح الله وان ابتلاءات حملها والمخاوف من اهلها الجأتها الى ترك ديارهم لتلد في مكان آمن. وكلاهما خلعا عليها القاباً واوص
افاً في غاية السمو لم تحظ بها أمرأة غيرها. بيد ان القرآن الكريم لم يتطرق الى مرافقتها لولدها الى الهيكل بطقس التثبيت ولا الى هجرتهما بمعية يوسف الى مصر فضلاًعن عدم اشارته الى مرافقتها ليسوع في كرازته.
اما عن مكانتها عند المسلمين فعظيمة جداً فهم ينظرون اليها نظرة اجلال وتقديس كون الله قد اصطفاها من ذرية الانبياء واختارها لولادة نبيه (عيسى) (ع) من غير فحل فهي عندهم سيدة نساء العالمين وقد اكرمها الله في قرآنه الكريم بأن افرد لها سورة سماها باسمها (سورة مريم) كما اوردها باسمها الصريح(اربعا وثلاثين مرة) على نحو غير مسبوق. والمسلمون يلهجون باسمها مشفوعاً دائماً بـ (عليها السلام) كما يسمون بناتهم باسمها تبركا وتعظيما. كما جاء في الحديث النبوي الشريف:( كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته امه الا مريم وابنها).
ومريم في اللغة العربية تعني (العابدة) . ومعروف ان المهاجرين المسلمين الاوائل عندما هاجروا الى الحبشة ودخلوا عاهلها (النجاشي) وكان مسيحياً قرأ عليه (جعفر بن ابي طالب) ما كان يحفظه من سورة مريم فتهلل وجه النجاشي وأيقن بسلامة منهجهم مخاطباً اياهم: ( ان هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة ).
نعم …. سيداتي وسادتي لقد اكتشف (النجاشي) قبل ماض غابر بأن المسيحية والاسلام ينهلان من معين الهي واحد. فألا يحفز هذا في حاضرنا الراهن حكوماتنا ومنظماتنا ومرجعياتنا ونخبنا الثقافية والاعلامية على التحرك الحثيث من اجل تفعيل حوار حقيقي مثمر يتأسس على هذه المشتركات الكثيرة والتي تشكل الصدّيقة مريم ـــ كما رأينا ـــ مفردة واحدة ضمن منظومة قيمية متنوعة مشتركة وصولاً الى رؤية جماعية لمواجهة تحديات عصرنا؟! ولماذا لا ينبري صنّاع القرار في عالمنا اليوم للتوافق حول قاعدة قيم اخلاقية كونية تشكل اطاراً للسلوك والتعامل الانساني والتعايش السلمي بين الامم والاجناس والحضارات؟! والى متى يستمر نزيف الدم باسم الدين على يد تلك الزمر المضللة الموهومة المتطرفة ؟!
ثقوا – أصدقائي – ان ما يجمعنا نحن اتباع ابراهيم (ع) اكثر بكثير مما يباعدنا. لذلك علينا ان ننحي خلافاتنا ونعيد انتاج مواقفنا الناشزة واصواتنا الزاعقة ونحولها الى مواسم وملتقيات وقصائد والحان مبللة بالحب ومفعمة بالصدق من أجل عالم جديد يسوده الخير المشترك والاحترام المتبادل.
فوالله ان فرقنا الدهر شيعاً وباعدنا مذاهب فلتكن بشارتك ايتها العذراء الطاهرة هي وحدها الذي نأتلف عليه.