بقلم الأب الياس شخطورة الأنطوني
روما، الأربعاء 30 مارس 2011 (Zenit.org) – في القرون المسيحية الأولى وفي تلك التي سبقت مجيء السيد المسيح تنوعت مفاهيم وأشكال تطبيق الصوم وعيشه في مختلف التقاليد، فكان المعنى الحصري لكلمة الصوم يكمن في الإنقطاع عن أنواع الطعام لمدة زمنية محددة لدواعٍ روحية، ولكن للكلمة دلالات أُخرى، نذكر منها على سبيل المثال: الإكتفاء بوجبة واحدة في ساعة معينة من اليوم، أما المفهوم الأصلي العبري والعربي لكلمة الصوم يعّبر عن حالة التوقف عن الوظائف الجسدية، ضمنها الإمتناع عن العلاقات الجنسية.
في العصور المسيحية الأولى حاول الآباء والمؤمنون إيجاد فسحة مميزة ومعنوية لعيش الصوم في المساحة الليتورجية مُعتمدين على نصوص مقدسة بهدف تصويب وتوجيه معناه ومغذاه الروحي نحو قيامة المسيح، فلا معنى للصوم بدون ترفّع نفس المؤمن وجذبها نحو المسيح القائم. منذ أواخر القرن الثالث بدأت تظهر ملامح إطار زمن الصوم في ما يسمى بالصوم الأربعيني تشبّهاً بالسيد المسيح الذي صام في البرية لمدة أربعين يوما. أما في القرن الخامس وفي روما تحديداً يعدّد لنا البابا ليون الكبير في كتاباته الأصوام المختلفة على مدار الزمن الليتورجي؛ فبالإضافة إلى الصوم الكبير هنالك صوم ما بعد العنصرة، وصوم شهر أيلول وصوم نهاية السنة في شهر كانون الأول.
يظهر جلياً في كتابات الآباء تعدد أنواع الصوم، فيتخطى فعل الإنقطاع عن المأكل والمشرب ليشمل الكيان الإنساني بكامله فيساعده في تحرير الجسد من رغائبه وترَفُّع النفس طاهرةً نحو خالقها. يقول في ذلك أفراهات الفارسي الحكيم:
” أيها الصديق الحبيب، لا يقوم الصوم على الإمتناع عن تناول الخبز والماء، بل له مقومات وافرة: منهم من يصوم عن الخبز والماء حتى يجوع ويعطش، ومنهم من يصوم بغية الحفاظ على البتولية… ومنهم من يصوم بالقداسة، وهذا أيضا صوم سليم…. بعضهم يصوم إذ يضع لفمه حاجزاً فلا يتفوه بسيءِ الكلام. منهم من يصوم عن الغضب ضابطاً نفسه لئلا تقوى عليه، ومنهم من يصوم عن القِنْيَة لئلا تستنيم لها نفسه، هناك من يصوم عن أنواع المتطلبات، ليظل يقظاً في الصلاة، وهناك من يصوم عن رغبات هذا العالم، لئلا ينتصر الشرير عليه. منهم من يصوم طلباً للتقشف والتماسا لرضى ربه عليه، وأخيراً بعضهم يصوم عن جميع هذه التي ذكرنا صائغاً منها صوما واحداً…“
للصوم فوائد تطال نفس المؤمن إذ يعمل جاهداً على الحفاظ عليها من كل شائبة يود الشرير من خلالها الإقتناص من قيمتها الإلهية، فيتصدّى له الصوم بقوة، كسلاح قاهر للشر ليدافع بشراسة عن النفس والجسد، مما يدفعهما للرغبة في القرب من الله. لذلك يدعو مار إسحق السرياني كل مؤمن مجاهد للمثابرة والتسلح بالصوم فيقول:
“إذا ابتدأتَ بالصوم في جهادك الروحي، فقد أظهرت كرهك للخطيئة، وصار النصر منك في متناول يدك. بمجرّد أن يبدأ الإنسان بالصوم، يتشوق العقل عِشرة الله“.
إن الصوم مُمهِّد لطريق الخلاص كصوت يوحنا الصارخ في البرية، الداعي إلى التوبة والعودة إلى درب الحق والنور الأزلي، ومُقدّم الفضائل الإلهية لمن يسلكون درب الكمال والمعرفة الإلهية على حدّ قول مار إسحق السرياني:
” الصوم مقدمة لكل الفضائل، بداءة المعركة، تاج النصرانية، جمال البتولية، حِفظ العفة، أبو الصلاة، نبع الهدوء، معلّم السكوت، بشير الخير. فالصوم بدء طريق الله المقدس وصديق ملازم لكل الفضائل“.
جمال الصوم يكمن في قدرته على جذب المؤمن نحو فضائل وميزات سيده، يُعجَب به المسيح إذ أنه يُقرّب الناس إلى السماء، كما يصفه القديس أمبروسيوس بأنه جهاد جميل، مُحبب على قلب المسيح لأنه فعّال للغاية في إصعاد الناس إلى السماء كما فعل بإيليا النبي. يعتمد القديس أمبروسيوس في شرحه لفوائد الصوم على صورة إيليا النبي لأسباب جليّة في سيرة حياته، فيقدم الحُجَج التالية:
“لماذا متابعة السرد عن أعمال إيليا؟ فالصوم أقام من الموت إبن الأرملة، الصوم أنزل المطر بأمر منه، الصوم أنزل النار من السماء، الصوم حمل <إيليا> إلى السماء بمركبة وبفضل صوم أربعين نهار إستحق حضور الله“.
يقودنا الصوم بنظر أمبروسيوس إلى عيش الحالة الملائكية المُكَوَّنة من صوم وبتولية في هذه الحياة، عُنصرَين لاستباق الملكوت ممهدين لعيشه. فبوصفه المتعدد للصوم يقدم لنا أمبروسيوس خلاصة المفهوم المسيحي له بحسب التقليد المسيحي، إذ يقول:
” ما هو حقيقةً الصوم إن لم يكن مادة وصورة العلى! فالصوم هو وجبة النفس، غذاء الروح، الصوم هو حياة ملائكية، هو الموت عن الخطيئة، إزالة الذنوب، علاج للخلاص، جذور النعمة، أساس العفة. بمقومات الصوم هذه يُبلغ سريعاً نحو الله وبهذه الطريقة إرتفع إيليا نحو السماء قبل بلوغه إياها بالمركبة“.
أما بالنسبة لأفرام فهو يصور الصوم بالنصر المحتوم، السلاح الذي من خلاله أعاد المسيح صورة آدم الحقيقية بانتصاره على الموت والخطيئة، فيقول:
” ها هو الصومُ الذي بواسطتِه رُميَت الشراهةُ مِن قِبلِ الشُعوبِ عند رأس الجبل، فبارتِدائِه الصومَ انتصَرَ على الشَرَهِ الذي إرتدى مِعطفَ غِذاءِ أولادِ آدم. إنّ كبيرَ المنتصرينَ أعطانا سِلاحَهُ وصَعِدَ إلى العَلاءِ ليُصبِحَ مُراقباً. مَن هو الذي لا يُسرع نَحو السِلاحِ الذي به انتصرَ الله؟ إنها لإهانَةٌ إخوتي أن نَستَسلِمَ للسِلاحِ المُنتَصِرِ (الشر) والذي بهِ انتصَرَ على الخَليقةِ كُلِّهَا”. (1،4)< /p>
فالنصر المحَقَّق بالصيام يدعو وينبّه المؤمن إلى عدم الإنزلاق والسقوط مجدداً في شرك العدو الذي بمكايده ينصب الشباك لإصطياده ويمدّ واهماً يد النجدة:
” لا تَضَعوا ثِقَتكُم أيها الأَطهار في المخادِعِ الذي يَسرِقُ الصائمين، الذي إن رَأَى (أحداً) مَحروماً من الخُبزِ أَشبَعَهُ من حُبّ الجُنون والذي إن رَأَى قائماً مُصلياً يُقدِّمُ لَهُ بالتَأمُّلِ شيءً بدلَ آخَر، ويَخطِفُ ويَحمِلُ من قَلبِهِ صَلاةَ فَمِه. ربَّنا هَب لنَا عَيناً لِنَرى كَيف يُسرَقُ الحقُ بِغَدرٍ (بغش)“. (1،10)
لا يكتفي الصوم في إرقاء المؤمن إلى درجة “المنتصر” ، بل يسعى وبعزمٍ إلى ترقيته إلى حالة الطهارة السامية، أي نقاوة القلب، قمة مسيرة المؤمن لبلوغ أعلى درجة روحية، ألا وهي المشاهدة الإلهية، فيقول في ذلك أفرام:
” ها هو الصّومُ المُعَظَّم الذي أَشرَقَ مِن البِكرِ ليُعَظِمَ المُتواضعين، فَالصومُ للعَاقِلينَ سَببُ الابتهاج، َيرى كَم أن ذلِكَ يَرفعُ من شَأنِه، فَالصومُ يُطَهِّرُ النَفسَ سِراً لِتَتأَمّلَ بالله وَلِتََتعاَلى برؤيَتِه، لأن الثِقلَ الذي يَربِطُها في الأرض يَشدُّها نحو الأرض. مُباركٌ مَن وَهبنَا الأصوام أَجنحَةً نقيةً بِهَا نَرتَفعُ نَحوه.
بَهيٌ هو الصوم ومُفيدٌ للذي يَتَنَقَى بُغية التَّأمُلِ بالله. لا يُمكنُ لإنسانٍ مُضطرِب لأي عِلةٍ كان اضطرابُه أن يَعتبِرَهُ نَقي. مَن يَملِك عَيناً نَقياً يُمكنُه التأَمُلَ بِه بِمقدارِ ما أُعطيَ من نَظَر. بَدَلَ من أن نُطَهِرَ الخُمورَ فَلنُطَهِرَ الضَمَائِرَ لنَستطيعَ رؤيةَ النَقي الذي بالصومِ غَلبَ الشريرَ (مزعزع) الكُل” (1، 2-3).
في الوقت عينه لا تغيب الشجاعة عن نظر افرام في توجيه الملامة والتحذيرات لاولئك الذين يهملون الصوم لأن ذلك لا يؤدي بهم إلى المشاهدة الإلهية إنما إلى العمى والضياع الروحي لدرجة قتل “الحمل الفصحي”:
” هلموا! تعالوا لنصوم! ماذا يفعل الجهّال في أصوامهم؟ معيب علينا أن نعود ونذكر على الأفواه والأذهان الإهانة التي لحقت بالرب. في الفصح قتلوا رب الفصح، في العيد ذبحوا سيد الأعياد، علّقوا الإله على خشبة، رفعوه مفتعلين الغضب. إن الفم الذي صرخ “إصلبوه” إرتفع ليعلن في الفصح الكتب المقدسة. كانوا يقرأون في الفصح كيف قتلوا الحمل في مصر. فيا أيها الشعب الأعمى، يا من كنت تقرأ دون فهم وتشرح دون إستيعاب المعنى! قرؤا في الكتب وعلّقوا على خشبة، الصور في الكتب والحقيقية على خشبة، صلبوا وعلّقوا حمل الحق، ثقبوا حملاً وشَووه. هذا الحمل المثقوب بصَمت كان يشهدُ بأن الحمل المصلوب هو الكمال“.(5، 6- 7).
إن الصوم في المفهوم المسيحي، وإن ظهر في شكل فعل تضحية كمحرقة ذاتية شبيهة بآلام المسيح أو كعمل محبة تجاه الآخر، قد فسّره الأباء كمبدأ أساسي وعام، بالتّشبّه المطلق بالمسيح. لذا فنوافع الصوم غنية ومثمرة لمن يعيشه ويتبنّاه، فهو على ما قاله مار أفرام:
– مدرِّب في القتال: “ها هو الصومُ المُعَلِّمُ الذي يُعلمُ المُجَاهِدَ أَساليبَ المَعركة، تَقَدموا منه، مَارسوه وتَعلّموا مَعركة التمييز (الحكمة)” (1،6)؛
– وسيلة خلاص وشفيع لمتوسليه: “هذا هو الصوم الذي يشفي، لنُحبَّ نوافعه ولنبتهج بدوائه“(4،1)؛
– يُغني الصائم من الهبات التي فقدها مع سقطة آدم: “ها هو الصوم الذي يُغني، لنعتمد على كنزه لنغتني من رصيده” (4،2)؛
– مُحرّر مِن كاهل رغائب الجسد الضوضاء ليوصله إلى نوع آخر من الجوع مُشبعاً إيّاه من ذاك الغذاء الروحي، أي كلمة الآب مصدر كل إنتصار ونِعَم.
الله لم يهب الإنسان الجسد ليشكل له عائقا وثقلا على حدّ قول ترتليانوس إنما وسيلة تسهِّل عليه الإتحاد بجسد المسيح الحي أبدا، فالصوم يخفّف من ثقله، يحضّره للقيامة ويجعله منفتحاً على النعمة. أضف إلى ذلك بأن وظائف الصوم لا يقوم عملها على فعل جسد الإنسان وحسب، إنما تنخر عُمق كيانه الترابي لتطال النفس برمتها، تعرضها على نور الحكمة الالهية فتنقّيها من كل عيب لتزينها بالشفافية والطهر والصفاء.
في هذه الحالة يسهل على الإنسان الدخول في الحالة الإلهية، في الصلاة والحوار الحميم مع الخالق، مما يدفعه إلى النظر إلى داخله وقبول ذاته كما هي، بنقائصها وفضائلها، وفي الوقت عينه قبول الآخر، فينزع عنه حلّة الكبرياء، وفكر الضغينة وروح الشماتة ليتحلّى بعفة الفكر وطهارة القلب المفعمة بحب الله لجبلته. لذا يُعتبر حب الآخر- أكان عدوا أم لا- والمعروف بالحب الإنجيلي، مفتاح أي تقدم ونجاح روحي مما يُدخل مُتبنّيه في حالة سلام داخلي ومصالحة دائمة منطلقة من الذات لتشمل كل آخر.
إن الصوم، يا إخوتي، يُعيد الجمال المفقود إلى طبيعتنا البشرية بواسطة دموعه التي تمسح كل بقعة سوداء وشائبة، لتنصع بياضاً، كما يزيل من ذاتنا تجاعيد هرم نفسنا المتعبة من ثقل الكبرياء والشهوة الرديئة، فتمتلىء من وهج نار محبة الله اللامتناهية ممحِّصةً كياننا لترفعه محرقة نقية تليق بخدمة الله ووقاره. فلنهتف ونردّد مع ملفان البيعة وكنارة الروح القدس:
” مبارك الملك الذي زين البيعة المقدسة بالصوم والصلاة والسهر، والطوبى لنا لأننا بالصوم نلنا الظفر“.