* * *
11. رأت الكنيسة في هذا الحدث علامة رمزية إسرارية: الماء يرمز إلى المعمودية، والدم إلى الإفخارستيا. من ماء المعمودية ولدنا ثانية أبناء لله، ومن دم القربان يجري الغفران وبه تتحقّق المصالحة مع الله، ونغتسل من خطايانا. بل هي الكنيسة تولد من المعمودية والقربان، لتحمل رسالة الإنسان الجديد، وتنادي بالغفران والمصالحة. إنّ علامة الماء والدم وما تنطوي عليه من معانٍ تشكّل جذور العبادة لقلب يسوع الأقدس.
2. يسعدنا أن نحتفل معاً بعيد قلب يسوع وبيوبيل المئة سنة على تأسيس هذه الكنيسة على اسمه، هنا في قرنة الحمرا. ولا بدّ في المناسبة من أن نذكّر كل الذين أسّسوا وتعبوا وسخوا في سبيل هذه الكنيسة الرعائية الجميلة منذ التأسيس إلى اليوم، وكل الكهنة الذين خدموها وتفانوا في سبيل الرعية، وانتقلوا إلى بيت الآب في السماء، وكان آخرهم المرحوم الخوري بطرس الملاح، بل الكهنة الذين تعاقبوا من بعد على خدمتها، مع تحية تقدير لكاهنها الحالي العزيز الخوري خليل الحايك ومعاونه الخورأسقف عبدالله الخوري. وإنّي أعرب عن تقديري للجنة إدارة وقفها التي نظّمت هذا الإحتفال، وللّجان التي سبقتها. فلكم جميعاً أقدّم أطيب التهاني والتمنيات بعيد قلب يسوع وباليوبيل المئوي الأول.
وإني أحيّي تحية أخوية سيادة أخينا المطران يوسف بشاره السامي الإحترام، راعي الأبرشية الغيور، متمنّيا له الشفاء العاجل، ليعود إلى خدمته الرسولية بما اتصف به من غيرة وحكمة وعناية. كما أحيّي ممثّله بيننا حضرة الخورأسقف كميل زيدان الجزيل الإحترام. تحيّتي ومحبّتي للكهنة والرهبان والراهبات ورئيس المجلس البلدي والمخاتير ومجالسهم ولهذا الجمهور العزيز وكل أبناء قرنة الحمرا وبناتها وسكّانها. إني أذكركم جميعاً، مع عائلاتكم ومرضاكم وموتاكم، في هذه الذبيحة المقدسة التي تجري منها كل ينابيع الرحمة والخير والنعم من جودة الله.
3. إنه عيد قلب يسوع الذي ثبّتته الكنيسة في يوم الجمعة من الأسبوع التالي لخميس الجسد، أي بعده بثمانية أيام، في أعقاب ظهور الرب يسوع، وقلبه بادٍ على صدره، لإحدى راهبات الزيارة، القديسة مرغريت ماري ألاكوك في باري لومونيال- بفرنسا، مرة أولى في شهر حزيران سنة 1674، بمناسبة عيد يوحنا الرسول التلميذ الحبيب؛ ومرة ثانية بمناسبة خميس الجسد سنة 1675. إن ظهور الرب لها كان للدعوة إلى عرفان الجميل لمحبته الصادرة من قلبه لجميع الناس، ولا سيّما للخطأة الذين كفّر عنهم ومات فادياً واستحق لهم الغفران وصالحهم مع الآب، فدعا الجميع للّجوء إليه، إلى رحمة قلبه وحنانه، لنيل الغفران وراحة القلب والضمير، كما نادى بصوته يوماً: “تعالوا إليّ أيها المتعبون ومثقلو الأحمال وأنا أريحكم. تعلّموا مني، إني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم” (متى11: 28-29). فأصبح، بتوجيه البابوات، شهر حزيران مخصّصاً لعبادة قلب يسوع الأقدس، وكل أول يوم جمعة من الشهر مخصّصاً للمناولة التعويضية عن خطايانا وشرورنا. ما أحوجنا اليوم إلى هذه الممارسة التقوية التي تجدّد عزيمتنا ومقاصدنا الصالحة، في زمن ضاع فيه معنى الخطيئة، لأنّ الإنسان فقد معنى الله، وتغرّب عن محبة يسوع المسيح. إنّ النيّة من إنشاء كنيسة قلب يسوع في قرنة الحمرا، كانت لهذه الغاية.
4. إن عبادة قلب يسوع هي عبادة لشخص يسوع المسيح بطبيعتيه الإلهية والإنسانية، الذي أظهر محبة الله للبشر باتخاذه الطبيعة البشرية ليرفعها من جديد إلى بهائها الأول، إلى طبيعتها المكوّنة على صورة الله؛ وبافتداء الجنس البشري مائتاً على الصليب؛ وبالقيامة من بين الأموات لتبرير كل مؤمن ومؤمنة. عبادة قلبه هي إقرار بمحبته المرموز إليها بالماء والدم الجاريين من قلبه المطعون بالحربة؛ واللذين منهما ولدت الكنيسة بالمعمودية والقربان، وراحت توزّع الحياة الجديدة بالنعمة والحق. عبادة قلب يسوع هي التوجّه إلى خزانة المسيح التي تحوي جميع كنوز النعمة، وينبوع الحياة الأبدية، وهي الولوج إلى مسكن النفوس النقيّة، وقدس الأقداس، ومكان الشركة والمحبة، وهي الوسيلة للقداسة والنمو الروحي والمحبة الإجتماعية.
5. هذا ما حمل الطوباوي البابا بيوس التاسع على جعل عيد قلب يسوع وعبادته عيداً على مستوى الكنيسة الجامعة سنة 1865، طالباً من المؤمنين في الشرق والغرب أن “يلجأوا في كل حاجاتهم إلى الرب يسوع الذي فدانا بدمه، وأن يؤدّوا العبادة الصادقة لقلبه المملوء عذوبة وجودة، ويطلبوا من هذا القلب الذي ضحّى بنفسه لأجلنا، مقدّماً ذاته ذبيحة حب ومصالحة، أن يجتذب قلوب البشر إليه، ويملأها من محبته، لتثمر ثمار النعمة والخلاص”.
6. أمااليوبيل المئوي الأول لكنيسة قلب يسوع التي تؤكّد الوثائق أنّه، “في سنة 1900، إتّفق أبناء قرنة الحمرا على بناء كنيسةٍ حديثة، في وسط القرية (لأنّ كنيسة سيّدة المرجه، في أسفل البلدة، بدأت تضيق بهم) فحقّقوا بناء كنيسة قلب يسوع، الصرح الغاية في الجمال، المنتصب بقبّته العالية في أرض القرنة وسمائها”. وهي إلى يومنا هذا الكنيسة الوحيدة في أبرشية أنطلياس المخصصة لتكريم قلب يسوع، وكأنها القلب من الجسم. كنيسة قلب يسوع كنيسة الحب الإلهي الذي عشق الطبيعة البشرية حتى طعنة الحربة. وهنا كل معنى كلمة اليوبيل. فهو دعوة للفرح. ذلك أنّ لفظة يوبيل تعني “افرحوا”. اجل افرحوا، فا
لرب يسوع هنا ودائم الحضور ليفيض عليكم كنوز محبته، لكي يكتمل فرحكم، وتكتمل سعادتكم. إنه يملأ قلوبكم من سلامه المختلف عن سلام العالم، لأنه سلام الشركة مع الله بالإتحاد الروحي به، عبر الصلاة ونعمة الأسرار، وسلام الشركة مع الناس بالوحدة والتضامن معهم بالكلمة والأفعال. ولا شركة من دون محبة. مجتمعنا اللبناني، من العائلة الصغيرة إلى العائلة الاجتماعية والوطنية، يحتاج إلى شركة ومحبة، لكي نهدم كل أسوار النزاع والخلاف، ونبيد وسائل العنف المادي والكلام، ونعتمد لغة المحبة والحوار المسؤول. فلبنان قائم في الأساس على ميثاق وطني جوهره الثقة المتبادلة. ألسنا بحاجة اليوم إلى عقدٍ إجتماعيٍ متطور نبنيه معاً على أساس هذا الميثاق؟ أعطنا ايها الرب يسوع قلوبا كبيرة ترتفع إلى مراقي المحبة والثقة والمبادرات الشجاعة والجريئة، كما فعلت أنت، أيها الفادي الإلهي، إذ بلغت ذروة الحب بارتفاعك فوق صليب الفداء، ودعوت: “اذا ما ارتفعت، اجتذبت إليَّ الجميع” (يو 12: 32). إجتذب الى قمم الروح، قمم الاخلاقية في التعاطي الاجتماعي، والمناقبية في العمل السياسي، المسؤولين عندنا، لكي يكونوا لنا مثالاً وقدوةً على هذا المستوى.
واليوبيل محطة شكرلقلب يسوع الأقدس على ما أفاض من نعم عليكم وعلى المتعبِّدين له طيلة المئة سنة الأولى من تاريخ كنيستكم، ومحطة تجديدللوعد والمقاصد التي قطعها كل الذين جاهدوا للمحافظة على الأمانة له؛ ونقطة إنطلاق نحو مستقبل جديد قائم على الشهادة للمحبة الإجتماعية والإلتزام في الوحدة والتضامن.
فيا قلب يسوع المُفعم حباً ورحمة، غفراناً ومصالحة، إطبع في عقولنا وقلوبنا ثقافة القلوب المحبّة، والعقول النيّرة، لكي نبني مُجتمعاً يليق بخالقه وفاديه، لك المجد والشكر إلى الأبد. آمين.