"مَن يحبّني يحفظ كلمتي. انا أحبّه وأبي يُحبّه وإليه نأتي وعنده نجعل لنا منزلاً"

عظة البطريرك الراعي في الاحد الثالث من زمن العنصرة

Share this Entry

بكركي، الاثنين 11 يونيو 2012 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي العظة التي تلاها البطريرك الماروني مار بشاره بطرس الراعي خلال احتفاله بالقداس الإلهي في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي.

* * *

1. جعل الله له في كلِّ مؤمن ومؤمنة منزلاً، فأصبح كلُّ إنسانٍ مدعواً ليكون سُكنى الله. هذه هي الشركة والمحبة العمودية بين الله والانسان، التي إن حصلت أصبحت شركة ومحبة على المستوى الافقي، تتجلّى في الوحدة والتضامن والتعاون بين الناس. فينعم الجميع بالسلام. هذا كلّه يتمّ بفعل الروح القدس الذي يُعلّمنا الحقيقة التي أعلنها يسوع المسيح للعالم، وهي حقيقة الله والانسان والتاريخ، والروح الذي يذكّرنا بما اوصى به المسيح، وهو الوحدة والمحبة. هكذا تتمّ كلمة الرب في انجيل اليوم: “مَن يحبّني يحفظ كلمتي. انا أحبّه وأبي يُحبّه وإليه نأتي وعنده نجعل لنا منزلاً”.

2. فيما نحتفل بهذه الذبيحة القربانية، يبدأ في دبلين بإيرلندا المؤتمر القرباني الخمسون، بموضوع:“الافخارستيا شركة مع المسيح وفي ما بيننا”. هذه الشركة تتحقَّق في القداس الالهي. وهي شركة مع المسيح بواسطة الكلمة التي تجمع وتُوَحِّد، وشركة معه في ذبيحة ذاته لمغفرة الخطايا والحياة الجديدة، وشركة معه بتحوّلنا إليه في مناولة جسده ودمه. من هذه الشركة المثلّثة الابعاد تولد الكنيسة، كمجتمع بشري جديد. نصلّي من أجل أن تنتشر ثمار هذا المؤتمر القرباني في نفوس جميع المسيحيين، لكي يعيشوا ثقافة القربان: الاتحاد بالله، والوحدة بين جميع الناس، المعروفَين بالشركة والمحبة.

يشارك معنا في قداس اليوم مؤمنون ومؤمنات يتوقون الى هذه الشركة والمحبّة، ويسعون إلى العيش في اتحاد مع الله، ووحدة مع جميع الناس بمبادرات متنوّعة. نذكر من بين الحاضرين “جماعة اتحاد القلوب بقلبي يسوع ومريم”، التي تلتزم الصلاة من اجل وحدة المسيحيين والكنائس، عملاً بوصية الرب يسوع “ليكونوا واحداً، أيها الآب، كما نحن واحد. أنا فيك وأنت فيَّ. ليكونوا هم ايضاً واحداً فينا”(يو17: 21). ونذكر من بين الحاضرين أيضاً “النادي النهاري للمسنين في رميش” المعروف رسمياً “بالجمعية الاهلية لرعاية المسنين والتنمية – اجدادنا”. تلتزم هذه الجمعية وهذا النادي بخدمة المحبة للمسنين والمسنات، عبر نشاطات روحية وترفيهية وتثقيفية وغذائية. إننا نرحِّبُ بكم جميعاً مع اطيب الدعاء.

3. الله الذي خلق الانسان، انما خلقه بحب كبير ليشركه في سعادة حياته الالهية. وأخذ مبادراتِ حبٍ متواصلة: فكلّمه كلمة الحقيقة والنور، وافتداه بموت ابنه يسوع المسيح على الصليب ليقيمه من خطيئته، وأعطاه روحه القدوس ليحلَّ عليه ويقدّسه ويسكن فيه. هذا يتمّ في كل انسان، مؤمن ومؤمنة، ينفتح لمحبة الله بجواب حب: يقبلفي عقله كلام الله هداية وثقافة،وفي نفسه نعمة اسرار الخلاص شفاءً وحياة جديدة، وفي قلبه المحبة المسكوبة فيه بالروح القدس. هكذا يعيش اتحاداً كاملاً بالله، وبالتالي يبني الوحدة مع جميع الناس.

4. لقد أراد الله، في سرّ تصميمه الخلاصي، أن يخلق الانسان ذا بعدٍ اجتماعي، ليعيش مع الآخر المختلف عنه، ويبنيان معاً عائلة بشرية اجتماعية ووطنية، تعكس في الشركة والمحبة حقيقة الله الواحد في الطبيعة والمثلث الاقانيم. هذا ما نقرأه في سفر التكوين: “خلق الله الانسان على صورته ومثاله، ذكراً وانثى خلقهم وباركهم وقال: انموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها“(تك 1: 27-28). وهكذا أقام الله ميثاقاً مع الانسان، قوامهامانة الله تجاه الانسان بمحبته وعنايته، وأمانة الانسان لله بسماع كلامه وحفظ وصاياه، لكي يعيش سعيداً ويُسعد عائلته ومجتمعه ووطنه. وعندما خان الانسان عهده مع الله، جدّد الرب الاله الميثاق عينه وختمه بدم المسيح ابنه. فكانت الكنيسة الشركة والمحبة، الصورة والبداية لمجتمع بشري جديد، سمِّيَ في الانجيل “ملكوت المسيح”.

5. إن المجتمع البشري الذي نعيش فيه، لا يمكن أن يوفّر للانسان كرامته وعيشه الكريم، وللجماعات عدالة وازدهاراً وأمناً وسلاماً، ما لم يُبنَ على ميثاق يكون أساسهُ الميثاق الذي أقامه الله مع الجنس البشري.

لقد جسَّد الله هذا الميثاق – العهد في إنشاءسر الزواج والعائلة الذي أراده انعكاساً لصورته الثالوثية، كجماعة الشركة والمحبة، وأرادهخلية حيّة للمجتمع البشري. ووضع الله للعالم نظاماً ليعيش الناس والشعوب في سلام، ويتفاهموا ويرعوا شؤون مدينة الارض، وينعموا بالخير والعدل. ومن ضمن هذا النظام وجود سلطة تعمل من أجل تأمين الخير العام، الذي منه خير كل انسان وكل الانسان. لكنها لا تستطيع ذلك، إذا لم تستلهم مشيئة الله وتصميمه الخلاصي. فيكون على صاحب السلطة، حسب المزمور 72: “أن يقضي بالعدل للشعب، وبالانصاف للضعفاء”. وانذر الذين يقصّرون في واجب خدمة الخير العام ويظلمون الشعب بلسان أشعيا النبي: “ويل للذين يشترعون شرائع للشر والظلم، ليسلبوا حقوق ضعفاء شعبي”(أش 10: 1-2).

إننا نحتفل مساء هذا اليوم في باحة الكرسي البطريركي الخارجية بعرس جماعي، نبارك فيه زواج أربعة وعشرين عريساً وعروساً، بمبادرة من الرابطة المارونية. إن الغاية من هذا العرس الجماعي إنّما هي، بشكل خاص، تذكير بأن العهد او الميثاق الزوجي لا ينحصر ضمن
حدود الزوجين وعائلتهما الناشئة، بل يتعدّاها إلى المجتمع والوطن، ليصبح جزءاً من الميثاق الوطني الاجتماعي ومغذّياً له.

6. في ضوء الميثاق القائم بين الله والجنس البشري القديم والمتجدّد ممهوراً بدم المسيح، وبين الزوجين والمجتمع، أودّ التذكير بأنّني عندما دعوت إلى “ميثاق وطني اجتماعي جديد” كنت أعني العودة إلى ميثاق عيشنا الوطني الاجتماعي الاول، المعروف “بالميثاق الوطني” الذي أقامه، على أساس الثقة المتبادلة، المسيحيون والمسلمون سنة 1943؛ وذلك من أجل تجديد هذا الميثاق بعد سبعين سنة، كانت فيها انحرافات عنه وعن جوهره، فبلغنا إلى ما نحن عليه من أزمة سياسية، وفقدان للثقة، وانحطاط في الاخلاق الاجتماعية والوطنية، وتقهقر في الاقتصاد، وفقر وهجرة، وتعطيل للمؤسسات، وعبثٍ بالمصير، وتشويه لأرض الوطن المخلوقة جميلة، وحرمان القريب والبعيد من جمال السياحة والاصطياف، وتحوّل الممارسة السياسية عن الخير العام وعن حماية الوطن ومؤسساته إلى جشع وسرقة للمال العام ورشوة وتعطيل لدور المؤسسات العامة، وتفشّي الفساد في الإدارات، وإخلال في التوازن المطلوب بحكم ميثاق العيش المشترك في الادارات والوظائف الرسمية احتراماً لمشاركة كل مكوِّنات المجتمع، وانسجاماً مع الدستور والقوانين والعرف. فبات المواطن مُلزماً بالولاء لطائفته ومذهبه وحزبه وزعيمه، لا للوطن لبنان، وبات معظم أرباب السياسة يدينون بولائهم لهذه او تلك من البلدان استفاداً بمالها، من أجل مآربها، واستقواءاً بها لتأمين النفوذ في الداخل. وكان الانشطار الكبير الداخلي والنزاعات بسبب الدخول في المحاور والتحالفات الاقليمية والدولية، على خلفية مذهبية وسياسية.

7. أجل، نحن بحاجة إلىتجديد التزامنا “بالميثاق الوطني”، لنخرج من أزماتنا ومآسينا وخلافاتنا المميتة. تماماً كما فعل الله، سبحانه وتعالى، في تجديد الميثاق القديم بالجديد، كما رأينا. إنَّ تجديد الالتزام يبغي العودة إلى جوهر الميثاق الوطني المثلث الأبعاد:

1) لا تبعية لأي بلد من الشرق او الغرب. بل حياد ملتزم قضايا الشرق والغرب: العدالة والسلام وحوار الثقافات والأديان، بحكم موقع لبنان الجغرافي على ضفة المتوسط ونظامه السياسي والاجتماعي؛

2) لا نظاماً دينياً أحادياً ولا نظاماً علمانياً يتنكّر لله ولشريعته الموحاة المكتوبة والطبيعية. بل نظام ديمقراطي يفصل بين الدين والدولة قائم على المساواة بين المواطنين، والثقة المتبادلة، والمشاركة العادلة والمنصفة في الحكم والادارة، وعلى الحريات العامة وحقوق الانسان؛

3) ولاء للدولة، بحيث يكون الانتماء لدينٍ أو مذهب أو حزب قيمة مُضافة في إحياء الولاء للوطن والبذل في سبيله، وفي بناء نسيجه على قاعدة التعددية أو التنوّع في الوحدة.

انطلاقاً من تجديد الالتزام بالميثاق الوطني، يُعنى المسؤولون باتخاذ ما يلزم من تدابير وإصلاحات تشريعية وإدارية وإجرائية، ليستعيد لبنان حياته ودوره في الاسرة الاقليمية والدولية. وفي طليعتها قانون الانتخابات، واللامركزية الإدارية واللاحصرية، ورسم خطة للنهوض الاقتصادي، وفصل السياسة عن التعيينات الإدارية والإدارة، وفصلها عن السياحة، واستكمال الدولة المدنية.

غداً تبدأ طاولة الحوار التي دعا اليها فخامة رئيس البلاد، نحن نصلّي لكي يكون المسؤولون المدعون على مستوى التحديات الكبيرة. نحن نصلّي لكي تكون طاولة الحوار، طاولة يكتب عليها المسؤولون أمام التاريخ وديمومة التاريخ. أرسل روحك أيها المسيح ليتجدّد وجه الأرض.

8. إننا ندخل مع أساقفة الكنيسة المارونية من مختلف البلدان الشرقية والغربية، مساء اليوم وطيلة هذا الاسبوع، الرياضة الروحية السنوية والسينودس المقدَّس، حاملين كلَّ هذه الهموم وانتظارات شعبنا وتطلعاته في لبنان والعالم العربي وبلدان الانتشار. نطلب أن ترافقونا بصلواتكم، لكي يقود الروح القدس رياضتنا ومجمعنا المقدس إلى ما فيه مجد الله وخير الكنيسة وخلاص النفوس.

9. بالعودة إلى إنجيل اليوم، إنَّ إرادة الله الواحد والثالوث أن يسكن في كل مؤمن ومؤمنة، لكي يجعل من كل واحد منّا، أفراداً وجماعات، قيمة مُضافة لبناء مجتمع إنساني أفضل، ووطن يُؤمّن الخير الوفير لأبنائه، ويُقدّم مساهمته الايجابية للإنسانية جمعاء، كما فعل اجدادنا فيه وفي هذا الشرق. الدعوة الانجيلية إنما هي لإعطاء جواب حب لله، فنقبل كلامه ونحفظه، فيحبّنا هو ويأتي يجعل له منزلاً فينا وبيننا. حيث الله هناك سلام المسيح والمحبة. للثالوث المجيد كل مجد وشكر الآن وإلى الأبد، آمين.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير